قضايا وآراء

لوح سومري مضطرب في بحار اسعد الجبوري الهائجة / سعيد الوائلي

يقلب عواطفك في عقر دارك ويحيل السكون الى غابة غنـّاء تتسلل منها ملايين الطيور والنسور ويدير ناعورك الممهور بخاتم سليمان  ليتركك تدور حول بساتين الكرم  والتفاح والبرتقال والليمون والكرز،  ويستنزف قدرات اصغائك الروحيّ  حتى القطرة الاخيرة، يفتـّق حجاب قدراتك على الاستيعاب  والادراك  ويشرّع لك قوانينا ً فيزيائية في كيفية لملمة الاحلام كتلـّة تراب بلورية في جزر خالية إلا من عصافيره وخيله ونساءه.

تركض خلفه اينما حلّ ليرمي بك من سطح القوافي الى  شواطئ المعاني وحوار العشـّاق ومغامراتهم على يخوت زجاجية يطـّرزون قصائدا ً في الحب والجمال وخلق جديد .

لا يكشف لك عن بواطنه واسراره في الكتابة  ويتركك تتبعه كالفصيل خلف امه، يعلـّمك سرّ الامومة  وإستكشافات  وإشكاليات تجاربه الوجدانية، ومن دون ان تدري ستكتشف يوما َ ما فلسفة جديدة لديك  تقـّلبها كأبجديات لغتك العربية، تفك طلاسمها وتحلل صورها  وإشراقاتها في جزيرة تيه لا تهدئ، امواجها العاتية والرذاذ الدّرّي يمطرها من كل حدب  وصوب  ويغطيها بنشوة  مالحة، ذاك هو الاديب والروائي والصحفي اسعد الجبوري، انجزعشر مجموعات شعرية مطبوعة هي : // ذبحت الوردة.. هل ذبحت الحلم في عام 1977 / صخب طيور مشاكسة في عام 1978 / أولمبياد اللغة المؤجلة في عام 1980  / ليس للرسم فواصل.. ليس للخطيئة شاشة في عام 1980 / نسخة الذهب الأولى) في عام 1988 / طيران فوق النهار في عام 1995 / الإمبراطور) في عام 1995 / العطر يقطع المخطوط) في عام 2003  /الملاك الشهواني) في عام 2005 / قاموس العاشقين) - (1000 رسالة)  كما انجز اربع روايات هي: التأليف بين طبقات الليل، اغتيال نوبل في عام 2006 / الحمى المسلحة في عام 2000 / ديسكولاند في عام 2010  //.

 يجيد المراوغة والمباغتة ويدخل ويخرج عن المألوف كما يشتهي، يملئ جيوبك  بمفاتيح الالفاظ ويصدح كطائر برزخيّ  في نهود الرمال المترامية،  يسقيك رحيق المعاني،  ويرطب شفتيك بتراتيل الندى المعجون بسحر الحروف، وردم الكلمات من الوهلة الاولى كما  في مطلع " مقاطع من مياه الكائنات المضطربة " // النصُّ واللصُ في اللوحة. / كلاهما مثقلٌ بالفرجة على القارئ. / الأولُ لقيطٌ يخرجُ من أعناق أنابيب  مختبرات المخيلة. / والآخرُ مُستكشفُ للموت في ِمدافن العقلِ..  / ملتقطٌ للمعاني في البراري في السفنِ.. / ومتربصٌ بطاولة القمار في اللغة //

يجبرك من خلال قراءة قصائده على ان تتقبل فلسفته، ويخضـّب ذاكرتك بحنـّاء الميتافيزيقيا ويجندل خيالاتك بألوان لوحاته وسواحل الغواية لديه، يطوي فضاءاتك بصرخات مكنوناته واغوار نذوره وافخاخ احلامه  لتصحو صباحا ً دون ان تغفو على شموس تأويلاته  تفصل بينها  بحارا ً، يظللها ضباب كثيف لا يخترقه إبصارك بل يجعل بصيرتك  تتسربل بعشق الحريق الذي يشب بغاباتك وتقلصات احشاءك لتتبخر منها كائنات خرافية تستميلك لمطاردتها تنسيك الماضي والحاضر وتعلـّقك ما  بين السماء والارض  لتغرس مخالبك الضوئية في عيون مستقبل لا تراه. //  ليس أفظع من سبات الشهوات في مجرى بركان./مقعدهُ ذاك هناك./أراهُ متخماً بالسواد على تلال الغيم./لا من مسندٍ أو مسندٍ إليه./ كأسهُ ترسانتهُ في الحبّ./ ومنه يمتلئ جمراً لسهرة تشبههُ  / عند اكتمال الذئاب على مائدة القمر./ هل كان مؤلف ذعرِ في كتابٍ واقفٍ  / بين أصابع الليل./ لا يعرفُ  / لا أعرفُ. /الظلامُ أبادني وغطى زقاق ذاكرتي /بنعاس مُشتقٍ من بخار الرصاص. / والشِعرُ خبزٌ يَمرضُ في العاشقين //.

كائن ولد في ارض الزلازل  والبراكين  السياسية، ارض النار والالغام الشيطابشرية، ارض الجلاجل  والمقابر والكواسر،  ارض المحارق والمطارق والمغارق، ارض الطغاة والحفاة والعراة، ارض النفط والغاز والكبريت ولعنة المحتاجين، ارض الانبياء والمرسلين والائمة والكتب السماوية ، ارض الجماجم والارهاب والمقابر الجماعية ، ارض الزقوم والموت الزؤام، ارض الشعراء والكتب والنساء، ارض الخيل والليل والعواصف الترابية، ارض  الشهوات والمخاضات والمعلقات، ارض الطيب  والجنائن المعلـّقة والكافور . ارض المدارس والجوامع والكنائس، ارض الخليج والنشيج وعظام المراكب، ارض الملوك القتلى والامراء الصرعى والشهيد عبد الكريم قاسم، ارض اللصوص الجدد والعتاوي وحيتان الدولار والذهب الاسود،  ارض  البارود  والحروب والمال والبنون وهذا البلد المسكين، ارض البلايا والمنايا والرزايا، ارض الصواعق والمحارق والمشانق، ارض الجروح والقروح والنزف المفتوح، ارض  طوفان الحروب  المتواترة  والسلاطين الجائرة وحش الرقاب، ارض  النوائب  والمكالب  والمصائب، ارض النفاق والشقاق ورفاق السوء، ارض الارامل واليتامى  والمزابل، ارض السواد التي تصحـّرت وماجت  واحترقت // لا يُدركُ / لا أدركُ. / لأن قلبي لم يكتمل رغيفاً يُدمنُ عليه  / جرادُ الحب في الجسد./ وكل سؤالٍ ماءٌ سيُثمرُ لاحقاً. / هل أقولُ:النصَ طينٌ نبني به العمرَ / الخربان. / وإن بلاداً بعيدةً تصنعُ من لحومنا الغذاء الملكي / لمدافنَ يولد التاريخُ فيها ولا يدفن. / هل النصُ غير رقعة حربٍ. / أقصدُ ميداناً لتبادل القصفِ بالقبلِ أو بالقاذفات. / اقصدُ مكاناً لمحو مستوطنات الزمن من الرأس. / أقصدُ سيوفاً منشورةً على حبال غسيل. / أقصدُ اللهَ / وكيف درّبَ الأرضَ فكانت حبة زيتون / بدل الزر الضائع من قميص حبيبي  / ليس أكثر مشقة من إقامة على ورق / أو في حضن أو فوق صخرةٍ في منتهى سيزيف./ كنت حلُمتُ الأرضَ كرسيّاً مقذوفاً / في الظلام. / قنبلةً في فم ريح. / كرةً يُدحرجها النملُ إلى نفسهِ في شقوق السُّبَات //

تحت اي مظلة نحتمي من هذا السيل دون ان  نتسربل به  من اعلى الهرم  وحتى إبهام  الغرَق، كيف لا تبتلّ عروقنا  قبل ان نغادر الرتق، والى اين...، ما الذي يحدث حين نشقّ حوت المقاطع الواحد تلو الاخر، اي الغاز مزمجرة  ومحيرة تترك فينا، والى اي لذة مخلوطة بتوابل المعاني  والمدارك تقودنا رائحة البارود، اي هواء يتنفس اسعد الجبوري قبل ان يسلك دروب الحرووف الموحلة  بالغدق الكوني، واي من العرّافين والسحرة  افضوا اليه بأسرار الرموز  والمسالك هذه، واي ابواب ٍ فتـّحوا واي فضاءات غلـّقوا كي يركـّبوا دهاليز شهوات الشعر لديه،// النصُ واللصُ / كلاهما مرآةٌ مهشمةٌ قرب الآخر./ دلفينٌ وبهلوان. / وماذا يَصيدُ المرءُ في ماء نفسهِ / غير إخطبوط الزمن./ يكتبُ على صدري ملاحظاته بالسنسكريتية / وفي النقطة الحرجة يطلقُ النارَ على وحوش / البطارخ / الكتابةُ درّجٌ أوتوماتيكي بظهرٍ / مضغوط الفقرات. / وهو كالعادة.. / يَكسرُ على الورقِ نهرا / ثم يرثي نفسَهُ في الطوفان //

لا ادعـّي بأنني قرأت كل ما كتب اسعد الجبوري على مدى ايام لا تتعدى اصابع اليد الواحدة، تلك هي الفترة التي استغرقها اعداد هذا البحث البسيط،  بل كل ما اطلعت عليه كان عبارة عن مرور سريع على مقاطع من قصائده  الطويلة وقراءة لــ " مقاطع من مياه الكائنات المضطربة "، كانت كافية جدا ً على ان تجعلني اهيم لوحدي على وجهي في عوالم شتـّى وانا قريب جدا ً من سواحل بحاره العميقة، بعيد عن جزره  التي لا استطيع إلا ان اتخيل ما فيها كما لو انني اسبح على لوح سومري مضطرب واحاول ان أجوب بحارا ً بحجم الشاعر والروائي اسعد الجبوري . // الشاعر ذاك../ ليس بدر شاكر السياب أو شكسبير. / ليس مالك بن الريب أو بورخيس. ليس كارل ساندبرغ أو ديك الجن. / الشاعر ُ ذاك دنانُ خمر عميقٍ / في باطن أرضٍ / عريقة. / ولم يأتِ بعد./ لكنه يخرجُ من نساء ويدخلُ فيها. / يلتقط الكمثرى من آبار الأجساد / الملبدة بلوتشانو بافاروتي ورياح أصواتهِ / العابرة للرأس غيوماً من جراد./ الشاعرُ ذاك غايةٌ في نفس / مجهولٍ من عصر الرومانسيات //

 

ديترويت / الولايات المتحدة

السبت, 23/ تشرين الأول, 2010

سعيد الوائلي

شاعر واعلامي وناشط في حقوق الانسان عضو اتحاد الادباء و الكتاب و المثقفين في العالم العربي / رئيس لجنة الولايات المتحدة الامريكية /رئيس تحريرصحيفة "العراق السياسي"

[email protected]

www.saidwaely.com

www.tahayati.com

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1555 الاحد 24/10/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم