قضايا وآراء

الفن الأكدي (عصر الملك نرام – سن) / زهير صاحب

وقد حكم مدة سبعة وثلاثون عاماً، تمتعت الدولة الاكدية فيها، بالاستقرار الكامل والازهار الأقتصادي والسيطرة الكاملة على الاقاليم التابعة لها.

يمكن القول ان الاسلوب الأكدي في الفن، قد وصلَ الى خاصيتهِ المتفردة في عهد هذا الملك، وذلك بصدد نوعية مضامينهِ الفكرية، وخواص الخامات المستخدمة في تشكيل موضوعاتهِ، وكذلك السمات الفنية المميزة لأنظمتهِ الشكلية. التي إرتبطت بالمفاهيم الملكية، ففكرة (الملكية) بالنسبة للملك (نرام-سين) الذي لقب نفسه بلقب (إله) أكد، والتي تميز معظم تماثيله، قد وسمتها بصفة فوق واقعية، وبالأخص ما يعرف بالرأس البرونزي، ذلك التمثال العظيم في تاريخ النحت العالمي الذي تشوبه روحية (ميتافيزيقية) أضفت عليه فكرة (القدسية)، وارتقت بهِ من صفته الواقعية، الى عالم الصور المثالية المتعالية. فرغم ان عيني (البورتريه) قد فقئتا بيد مجرمة، واستخرجت منهما الاحجار الكريمة الملونة، التي استخدمت في تشكيلهما، إلا ان تلك العدوانية، لم تستطع ان تنال من خاصيتهِ (القدسية) ومظهره المهيب. حيث الحُلم والخيال و(التأمل) الناشط، هو وحده الذي يكتشف عظمة التمثال. إذ إحتل الروحي في تركيبهِ الصوري مكان الصدارة، بعد تراجع ما هو (طبيعي) محض الى مرتبة ثانوية. بخاصية متفردة وحساسة جدا، لتضايف المادي والروحي في بنية العمل النحتي. فذلك النحات المُبدع على مرَّ العصور، لم ينحت تمثالاً للملك، وإنما نحت(نُصباً) لفكرة الملكية المقدسة.

إكتشف (بورتريه) الملك (نرام-سين) في مدينة نينوى شمال العراق، بوصفها احدى مدن الدولة الأكدية، ويبلغ إرتفاعه 36سم، ويُعد من أهم روائع المتحف العراقي في بغداد. ونحن نرجح ان يكون هذا (الرأس) البرونزي، هو الجزء المتبقي من تمثال كامل، كان معروضاً في احدى ساحات مدينة نينوى، ليؤكد خضوع هذه المدينة لسيطرة الدولة الاكدية خضوعاً كاملاً. إذ ان الروح الأكدية، كان (تنفر) نفوراً كاملاً من فكرة تمثيل ملوكها بدلالة (البورتريه)، فذلك فأل سيء، ربما يؤدي الى تداعي وسقوط هذه الامبراطورية بكامل هيكلها. فأن صحت هذه الفكرة (السحرية)، علينا ان تقابل تمثالاً مُشّعاً بارتفاع يفوق المترين في الأرتفاع. وتلك خاصية كافية لتقولب بنية التمثال بصفة اسطورية، وهي كفيله بأن توسع دلالتهِ نحو الأفكار غير المحددة في عظمتهِ الملكية، وقدرتهِ البطولية الخارقة.

يَبثّ (بورتريه) الملك نرام-سين البرونزي، خطاباً تقنياً متفرداً، بصدد آليات الأظهار، والتمظهرات التعبيرية والجمالية لخامتهِ. فقد كان الجدل الفكري حول نظام العلاقة بين خاصية المضمون والوسيط المادي الذي يحتويهِ، يجتاز (الذات) بصدد فحص خواص الخامات كطبيعة كتلها وصلابتها وملمسها ولون سطوحها. فكان الحل الابداعي بقولبة فكرة الملكية بمادة البرونز، وذلك فعلُ ورؤية متفردة، أكسبت (البرونز) ذلك المعدن الصلب والمشع كالذهب، صفة متحركة في دلالته، تفوق خواصه الطبيعية، وفَعلّت تعبيره، كوعاء (حَلّت) بهِ الفكرة لتعبر عن صيرورتها الأبدية.

إنجز تمثال الملك (نرام-سين) بتقنية الصب المجوف، ونرجح ان يكون قد أنجز بطريقة القالب الشمعي، وبموجبها يُصاغ الشمع حسب الشكل المطلوب على شكل التمثال الجبسي. ثم يُغطى نموذج (الصب) بعدة طبقات من طينة نقية، ممزوجة بمواد مختلفة فائدتها غلق المسامات. فعندما تكون (تكسية) الطين بدرجة كافية من السمك، يوضع النموذج في (الكورة) فيفخر الطين الذي يشكل القالب الخارجي، ويذوب الشمع الذي يجري عبر (فتحات) صغيرة مجهزّة لهذا الغرض، فبهِذه الطريقة يمكن الحصول على فراغ مجوف بين اللب والقالب، ليتم ملؤه بمعدن البرونز المذاب، وبعد تصلبهِ يُكسر قالب الفخار، ليظهر التمثال المصبوب كاملاً، إذ يتم توضيح تفاصيلهِ الدقيقة بادوات حادة من قبل النحات في المرحلة النهائية من عملية الأنجاز.

تلك التقنية عرفها الجميع منذ العصر السومري في الالف الثالث قبل الميلاد، وحتى الزمن المعاصر، لكن الشيء الذي لم يعرفه الجميع، هو تلك القدرة الحرفية العالية، والأحساس العميق بالشكل، والدقة المتناهية في اخراج تفاصيل التمثال. فقد إشتغل ذلك النحات العظيم عِبرَ كل العصور، على السطح بمنظومة خطية متماسكة ورائعة، محققاً معالجة شكلية (متفاوتة) في تعدد المستويات والأنارة، ومتميزة بوحدة كلية متفاعلة، قلما تتكرر في تاريخ النحت العالمي، إلا في أعمال النحات (مانزو).

إذ تشير (صنعة) التمثال، الى مهارة فائقة بلغها فن النحت الأكدي، فقد كان هذا الرأس الملكي مدهشاً، الى درجة تجعلنا نقف امامه حائرين، بفعل الاسلوب المتقن الذي نُحتَ بهِ. فهناك مُسحة من الصرامة الحادة والقوة، واضحة في خاصية إبراز ملامح الوجه، الذي تعلوه في ذات الوقت، إبتسامة خفية تغدو صارمة وأبية في الحال، حين تعقد زمام تلك الشفتين اللدنتين الرقيقتين.

أما شعر الرأس الذي يؤطر الجبهة، فقد شَكِلَ من ثلاثة مستويات أحدها فوق آلاخر. فهناك شريط سفلي بشكل نسق من الحلقات المتجاورة يلامس الجبهة، يعلوه إكليل منبسط، وفوقه ضفيرة ملتفة حول الرأس، عُقِدَت خلفَ الرقبة بشكل كرة صغيرة، تُثبت بثلاث حلقات من الذهب. كما إن شعر الذقن قسم كذلك الى ثلاثة صفوف تألفت من صف من الخصل الناعمة حول الشفتين، وصف آخر شُكَّل من حلزونات ناعمة على الوجه، لينتهي إيقاع هذا التدرج، بصف من حلزونات خشنة وطويلة مسترسلة في الهواء.

والجوهري في الموضوع، هو أن الفنان الأكدي لم ينحت تمثاله، بغية الحصول على (تمثلات) مشابهة لوقائع التجربة الخارجية، بل لتأويل (قوة).. تُبقي الفكرة التي يُمثلها التمثال حاضرة أبداً، فصورة التمثال هنا ليست مقصودة لذاتها، بل لتّشفيرها عن مدلولات تنتمي الى مستوى آخر غير منظور. وذلك بمثابة (التأويل) عن خاصية الفكر المتحرك في بنية الفكر الحضاري الأكدي.

ولا تفوتنا الأشارة هنا، الى أن معظم المختصين قد أشاروا الى ان هذا (البورتريه) ربما يمثل الملك سرجون او حفيده نرام-سين. ويبدو ان حلَّ هذه المشكلة قد اصبح واضحاً الآن، فيما ان النحت الأكدي في عصر سرجون كان مشدوداً في اسلوبهِ الى الأسلوب السومري، ولم يحقق هويته المتفردة والمشخصة في عهد هذا الملك، كما يظهر في جميع المنجزات الفنية، لذلك يمكننا ان نرجح نسبة هذا التمثال الى الملك نرام-سين.. بفعل تكامل سمات الاسلوب الأكدي في التشكيل في عهد هذا الملك.

فهمَ الأكديون أن الفن نوع من الصياغة، لبنية العلاقة بين الأنسان وواقعهِ بالمعنى الشامل لهذه العلاقة. فالتماثيل الأكدية لم تعكس صورة ذلك الواقع، وإنما .. مثلّت (حركته)، وبما إن الواقع عند الأكديين متغير دائماً، فان تمثيله في النحت متغير كذلك. ولذلك فان الجزء المتبقي من تمثال الملك نرام-سين، الذي يمثل القدمين فقط، بارتفاع 47سم، المنحوت من حجر الديورايت، والمحفوظ في متحف اللوفر في باريس. يمثل حالة جديدة في خصائص نحت التماثيل في بلاد الرافدين، فاذا كان ارتفاع قدمي التمثال بمثل هذا الأرتفاع الخيالي، فلنا ان نتأمل (نُصباً) بارتفاع شاهق، وتلك (خاصية) كسرت سياقات قاعدة حجوم التماثيل الصغيرة عند السومريين، وأحلّتْ محلها (بدعة) التعبير بدلالة الحجوم الكبيرة.

تُرى هل ان هزة أرضية من النوع العنيف، أصابت مدينة أكد، فأحالت منجزاتها الخالدة الى مجرد شظايا صغيرة؟ أم ان عدوانية الغزاة الكوتيين والعيلاميين كانت على مثل القساوة والخاصية البربرية. وعلى كل حال، فرغم فقدان تمثال نرام- سين، لقسم كبير من تكوينهِ، فأنه يبدو حتى هذه اللحظة أشد حياة من جسم المتأمل ذاتهِ، وذلك إحساس قد يؤدي بهِ الى الخجل من خمولهِ، مع شعور بالفخر لما حققته الروح الأنسانية من إبداعات. كتلك (الرؤية) التي تُميز تماثيل (مايكل أنجلو) المكتملة بسبب عدم إنهائها، حين (يجلي) الغبار.. عن أشكال كامنة في كتل الرخام، كان يراها هو وحدهُ.

فبتجريد تمثال نرام- سين عن حدود الشخصية، فأنه قد إحتلَ دوراً (كونياً)، أي أنه غدا رمزاً مناسباً لكل الأزمنة، فقد مَرَّ عِبَر الواقع الى (التاريخ).. الذي إختارهُ ليحّوله الى تساؤل او حديث دائم.

 

أ. د. زهير صاحب

كلية الفنون الجميلة – بغداد

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1569 الأحد 07 /11 /2010)

 

 

 

في المثقف اليوم