قضايا وآراء

الارابيسك (Arabesque) .. "عالم المسلم الرحيب" (2)

 وادت تلك الفنون العديد من رسائلها خارج ادائها الوظيفي كما حصل في الفن الاسلامي فقد كانت احيانا تمثل رسائل خفية من الملك او السلطان او الكنيسة للتعبير عن القوة او شهادات طموح للشعوب فيي كفاحها وانتصاراتها ولا زال الكثير من المؤرخين والباحثين والنقاد يستنجدون بالاثار الفنية لقراءة ماضي الافكار وماضي والصراعات والمقاصد السياسية والاجتمعاية والدينية وبالتالي فان وظائفية الفن بعامة جزء لا يتجز من اهدافه وحقيقته .

الا ان وظائفية الفن الاسلامي تختلف عن هذه الوظائف التي يمكن ان نقرأها في الفنون الاخرى فهي ليست رسالة خفية ولا هي شهادة بل هي حقيقة مبدأية .

من هنا فان وظائفية الفن الاسلامي تطرح امامنا اكثر من سؤال واكثر من دلالة سواء كان القصد قراءة جامعة تسعى للوصول الى رؤيا جمالية فنية عامة ام كان القصد المعني قدماً في الحوار القائم حول القيم الفنية السائدة الان . فوظيفة الفن الاسلامي لا تشكل احد الخصوصيات الجوهرية التي قام عليها هذا الفن فحسب كما انها لا تتوقف عند حدود صفة من الصفات الاساسية، بل تشكل عندها تعدد دلائلها وعندما تتراكم العديد من الاسئلة التي تتطرحها العناوين الكبرى للفلسفة الجمالية التي انطلق منها الفن الاسلامي مستمرا كفن خاص مميز خلال الالف سنة الماضية .

لا شك ان وظائفية الفن الاسلامي هي وظائفية فنية جمالية من جهة تتماثل وظائفيته عموما سواء كانت مرتبطة بالدين مباشرة ام كانت تنحدر من رؤية روحية فانها تبدو من جانب اخر وظائفية نفعية واستهلاكية منفصلة تمام الانفصال عن وظيفية وهدفية الفن التقليدية . فالسجاد والخزفيات الاثاث الخشبية والاواني النحاسية والمخطوطات وما الى ذلك من اعمال فنية يتجلى فيها الفن الاسلامي بكل خصوصياته وصفاته الكبرى ادت الى وظيفة نفعية استهلاكية حسية محضة . فأدت السجادة وظيفتها في الدفأ والاناء في حمل الماء والاثاث للراحة وهكذا .

لقد توظف الفن في الحياة اليومية وفي الحياة الحسية كوسائل وادوات والالات لبث الحاجات الاجتماعية اليومية في ادق واصغر تفاصيلها في الملبس والمأكل والمشرب والمأوى والمجلس وما رافق ذلك في مسيرة الانسان وحياته .

لقد كان بالامكان ان تسمى هذه الاعمال الالات او ادوات فقط وتستبعد كلمة فن او تستبدل بكلمة صناعة، لولا ان هذه السجادة والابريق والاثاث لم يكن في الوقت عينه صفحة من صفحات الفن المحكم النظام المتناسق الصفات والخصائص يوحده جوهر فني واحد ورؤية جمالية وفلسفية واحدة فالسجاد هو ليس مجرد خيوط بل اشكال والوان ورسوم وهندسة ونظام ونسب تشكل بدورها العناصر الفنية التي قام عليها الفن الاسلامي ككل كذلك فان قطعة الاثاث سريرا او قطعة او خزانة ليس عبارة عن خشب مطعم ومزين ومذهب بل شكل ونظام وتناسق ولين وهندسة وتشكيل ورمز ايضا .

نعم ثمة فن ومنفعة الا ان العلاقة بين الفن والمنفعة لا تتوقف في الفن الاسلامي عند هذه الحدود التي عرفتها الفنون القديمة او الفنون الحديثة .

لقد تسأل جلال الدين الرومي (هل يرسم اي رسام صورة جميلة حباً في الصورة نفسها دون ان يأمل المنفعة من ورائها ؟ وهل يكتب خطاط كتابة فنية حباً في الكتابة فيها دون ان تكون القراءة هي غايته منها؟) .

الا ان جلال الدين الرومي يستدرك فيقول (ان الصورة الظاهرة انما رسمن لكي تدرك الصورة الباطنة و الصورة الاخيرة تشكلت من اجل ادراك صورة باطنية اخرى على قدر نفاذ بصيرته) .

ومعنى ذلك انه في الوقت الذي يجمع الفن الاسلامي بين الجمال والمنفعة ينقل بقصده الفلسفي والابداعي استقلال مدهشا بحيث لا تتأثر هذه الغاية بوظائفية ونفعية هذا الفن المباشر ذلك انها غاية باطنية رمزية على حد تعبير جلال الدين او حسب تعبير الامام الغزالي الذي يؤكد ان الوقوف ازائها يحتاج الى (العلم والقدرة) .

وهنا تتجلى معاني ودلالات الارابيسك في قدرتها على الاداء الجمالي والوظيفي اينما حلت رموزه وعلاماته .

ولا شك ان انتقال مركز السلطة الاسلامية في الحضارات العربية المختلفة جعلت من الفن الاسلامي غنيا بالمفردات المتنوعة باختلاف مصادرها وزمانها ومكانها ناهيك عن تأثيرات الامم  والشعوب المجاورة للعالم الاسلامي والذي نشأت معه العديد من العلاقات التجارية انتقلت من خلالها تجربة الفن المسلم الى اوروبا وكان لها الاثر في فنونهم وحياتهم .

اذاً ليس من الغريب ان نجد مفردات زخرفية ذات اصول متعددة ومتنوعة قد تكون بعضها ذات اصول اموية او اندلسية او عباسية او عثمانية ولكن هذه المفردات تنتظم في نسق متناغم جميل يشكل وحدة الفن الاسلامي وجمال تنوعه .

وامام هذا التنوع الهائل في الفنون العربية الاسلامية كانت مفردة الارابيسك تعبر من وجهة نظر الانسان الاوروبي المستشرق عن ذلك الفن الذي انبثق من الارض العربية في اطار الحضارة الاسلامية التي انتشرت في زمن قصير لتضم امم وشعوب متعددة تحت لوائها ولم يكن هناك بديلا عن هذا المصطلح لاطلاقه عما تركته الحضارة العربية الاسلامية من فن زاخر يقيم الجمال حتى اصبح هذا المصطلح يطلق على كل ما ينتمي الى هذه الحضارة . ولم يعد يعبر عن تلم المفردات التي سبق ذكرها والتي تمث الاوراق النباتية التي تلتف حول اغصانها بايقاعات جميلة، ومن بعد ذك اطلق على الزخرفة الهندسية وهكذا فقد اصبح للمصطلح دلالات جمالية ورمزية وايقونية ووظيفية شملت العديد من منتجات الفن الاسلامي . وكانت تتكرز احيانا على تلك المشغولات اليدوية الجميلة التي تنتهي اليها الدقة في الصنعة والجمال في المظهر والمتانة في الوظيفة والاداء .

وكان من اقرب هذه المشغولات الفنية الجميلة تلك الاثاث التي تحتويها قصور الامراء والتجار والاثرياء والتي كانت تنتمي اليها الصنعة باروع صورها وتجسد مجموعة متحف الفن العربي نماذج قيمة تدل على مستوى الحرفة والابداع التي توصل اليها الفنان المسلم .

ومنذ عصر السلاجقة شهدت اعمال الارابيسك (مجسدة بالاثاث) عناية فائقة وجماليات أخاذة كان ذلك سببا مباشرا في تطور اساليب العمارة والاهتمام بجمالياتها الخارجية والداخلية، فالعمارة السلجوقية خاصة والاسلامية عامة كانت غنية بالاعمال الفنية والمواد الجميلة التي تدل في تزيين العمارة او في انجاز مكملاتها من ابواب ونوافذ وسقوف ومعادن ومنسجوات ولوحات وزخارف معمارية وهذا الثراء في التنوع جعل من كل العناصر المعمارية تتكرر بنسق اخر مختلف عن تكرارها في العمارة . لكي يتم تنفيذها على الاثاث الخشبية او المنسوجات او الزجاج او المخطوطات .

وقد تطورت صناعة الاثاث في العصر العثماني على مستوى الحرفة والاتقان واستخدام مواد واخشاب جديدة لم تكن تستخدم سابقا كخشب الجوز وخشب الابنوس وخشب الارز وخشب الورد، ودخلت للاثاث تصاميم جديدة ذات طابع مميز وجمال أخاذ استفاد فيها الفنان والحرفي المسلم من تأثير الحضارة الاوروبية في الالوان والتنسيق وجمال التنظيم فضلا عن بقاء التصميم الاسلامي في ثوابته الجمالية والفنية .

ورثت الفترة المملوكية في مصر هذا التراث الفني في صناعة الاثاث فزادت في جماله واتقانه وادخلت مواد جديدة على الاخشاب التي تم استخدامها وبدأت اساليب جديدة في قطع الاخشاب وتعشيقها وتطعيم الحشوات بخيوط واشرطة رفيعة من الخشب او العاج وترصيع الخشب او العاج او العظم .

فضلا عن ادخال الفسيفساء وقطع الابنوس والسن والقصدير في تطعين وترصيع القطع الخشبية .

اما في العصر العثماني المتأخر فقد بلغت هذه الصناعة اوجها في كل من مصر وبلاد الشام التي تجسدت في هذه المجموعة حيث برع الصناع في طريقة التجميع والتعشيق وفي اساليب الحفر البارز والغائر مام يجعل هذا الفن مجالا تطبيقيا جديرا بالتوثيق والاحياء لندرته واهميته في تاريخ الفن الاسلامي .

كان لطبيعة الخامات وجمالياتها واساليب معالجتها بطرق ابداعية ذكية سببا واضحا انعكس على جودة هذه الاثاث ومظهرها الخارجي فكانت في تناسقها ودقتها تعبر بشكل واضح عن نسيج ذلك المجتمع واسلوب ونمط حياته .

وقد اشتملت هذه القطع الفنية اثاثا تمثل عناصره الفنية العديدة من الرموز والاشكال في الفنون العربية والاسلامية ولا سيما العناصر الزخرفية المملوكية وما قبلها من مفردات في الفترة العثمانية التي تم انتاجها في مصر في نهاية القرن التاسع وبداية القرن العشرين ولا شك انها كانت جزءا من ممتلكات السلاطين والولات والباشوات وعلية القوم لما تمثله قيمتها المادية والفنية والجمالية من اهمية بالغة ويمكن تصنيف هذه المجموعة الى اربعة انواع وفقا لوظائفها :

 

1-   الخزانات:

صنعت من خشب الجوز المطعم بالعاج والصدف وزينت بالوان جذابة وتعتبر تصاميمها واشكال اغلب هذه الخزانات وتتميز تتصاميم واشكال هذه الخزانات بدقة الصنعة ومتانتها وجودتها بدليل بقائها على افضل صورة لاى الان رغم مرور عشرات السنين على صناعتها، وعناصر تكوين الشكل فيها ذات طابع عربي اسلامي من خلال تكرار العناصر المعمارية للعمارة العربية الاسلامية في العديد من اجزائها العليا كنماذج لعمائر القصور والقلاع والاسوار وبنفس طريقة التكرار التي تتداخل مع الفراغات الفاصلة بين الوحدات وبطريقة متعشقة ومتناوبة وبما يجعل الكتلة تتداخل مع الفضاء الذي يعلوها .

كما تبرز اشكال صغيرة للمقرنصات التي تعلو المباني الاسلامي سواء في اعلى جدرانها او في اعلى بواباتها الرئيسية وللمقرنصات جمال رياضي أخاذ في تكرار الكتل والسطوح وتناوبها مع الفضاءات المتكونة داخلها . كما يبرز استخدام الاعمدة في مفاصل هذهالخزانات بطريقة توحي الى حمل اكتاف البوابات والكتل المعمارية التي تقع في اعلى الخزانة ويشترك مع هذه الاعمدة تيجانها وقواعدها بطريقة تتصل مع مفردات التصميم الاخرى وباسلوب لا يختلف عن العمارة في شئ فضلا عن الكثير من العناصر والمفردات الاخرى ولعل ابرزها ما سمي بالمشربية ذات القطع الصغيرة التي تجتمع مع بعض لتشكل نوافذ تطل على الفضاءات الخارجية اصلا ثم استخدمت بعد ذلك لتطل على الفضاءات الداخلية للمباني .

وتم جمع العديد من هذه المفردات بطريقة متناغمة ومنسجمة من خلال تحقيق التناظر التام بين نصفي الخزانة الايمن والايسر وقد حقق ذلك افضل توازن جمالي ووظيفي لا نجده في نماذج مشابهة كالعمارة الاسلامية . كما توثق قطع هذه الاثاث نماذج جميلة من العقود المستخدمة في العمارة الاسلامية كعقود نصف الدائرة والعقود المحدبة وحدوة الفرس والعقود المفصصة وهذا التنوع في اشكال العقود انما يعكس التنوع الحاصل في طراز العمارة السائدة .

اما عن العناصر الفنية التي تشغل هذه الخزانات فهي ثرية بالزخارف الهندسية المتمثلة بالشموس والنجمات والمضلعات والاشكال الهندسية البسيطة وابرزت هذه الزخارف دقة القياسات والابعاد وشدة الانتظام . كما تزينها زخارف نباتية ذات تكرارات متناظرة في كل جهاتها ما بين مائلة باتجاه قطري الى زخارف عمودية او زخارف افقية وبما يتلائم مع المساحة المتاحة في التصميم وغالبا ما تكون للزخارف الوان ومواد مغايرة لغرض ابرازها على لون الخشب الذي صنعت منه الخزانة . وتتصدر الكتابات العربية بالخط الكوفي او الثلث او النسخ او التعليق مكان بارز في هذه الاثاث النادرة ولتضم ايات من الذكر الحكيم او اسماء لفظ الجلالة او بعضا من صافيات الحكم ومأثور القول والذي غلابا ما يتلائم كمعنى ودلالة مع البيئة الاجتماعية والدينية للانسان المسلم .

لعل الصفة الغالبة على جميع هذه العناصر هي الدقة البالغة في تقسيم المساحات والقطع وانتظامها كأشكال هندسية لها اساس وظيفي وقيمة جمالية عالية .

وخلاصة القول اننا لا نرى خزانة انما نرى عمارة اسلامية مصغرة تكتنز كل مفردات المعمارية الجمالية بطريقة تجعل من تلك الكتل المعمارية الضخمة نماذج مصغرة في داخل الفضاءات بعد ان كانت تحتوي الفضاءات الخارجية . ولا شك ان الصفة الدينية كانت غالبة على المفردات المعمارية العربية الاسلامية مما جعل ذلك ينعكس بشكل مباشر على كل المنتجات الاسلامية كالاثاث والمنوجات والزجاج والمعادن او كل ما اطلق عليه بعد ذلك بالارابيسك .

لهذا فاننا لا نغامر ابدا عندما نقول بان الارابيسك اكتسب قيمته الفنية والوظيفية من خلال علاقته المباشرة برموز العمارة الاسلامية ذات الصبغة الدينية التي لا تذكر بالماضي وحسب وانما بالمناخ الديني وكل قيم الفضيلة السائدة حين ذاك . وتذكرنا بعض من تصاميم هذه الخزانات بسجادة الصلاة التي يفترشها المؤمن لاداء فرائضه او بعقود المساجد والجوامع كمفردات تتصدر واجهة هذه الخزائن . كما ان تكرار العقود والاقواس لا تختلف كثيرا عن تلك العقود التي تحيط بفناء المسجد وتعلوه ايات الذكر الحكيم .

ورغم محاولة اصانع المتقن لهذه الخزانات في محاولته ابراز وظيفتها الحقيقية في خزن الملابس او حفظ بعض الحاجات الثمينة الا ان ذلك يبقى بعيدا عن النسق الحقيقي لتصميمها ككتلة معمارية مصغرة .

وتعددت انواع الاقماش والمعادن التي دخلت في صناعة وتغليف بعض اجزاء هذه الخزانات فقد كانت الفضة المطرزة بالزخارف المتنوعة والكتابات تغلف اجزاء كبيرة من هذه الخزانات .

 

2-   خزانات ذات المرايا :

لم يكن تصميم وصناعة هذه الخزانات ببعيدة عن الطراز الاول في هيئتها وجمالها وان كانت تختلف في جانب من وظيفتها لاحتوائها على مرايا باستخدامها كمناضد تعكس الاهتمام بالمظهر والملبس والزينة وتستلهم قطع الاثاث هذه المفردات المعمارية كسابقتها ولكن بطريقة ابسط واقل من المجموعة الاولى كأشكال واحجام والوان وبما يتلائم واستخدامها من قبل الانسان وبما يتلائم والية جسمه وقياساته، لذلك فقد كانت ادق صنعا واكثر بهاءا ورونقا وبسبب من مواجهة الانسان المستمر لها وبأوقات متعددة وكانت المرآت تشغل الحيز الاكبر لهذه القطع الفنية مما جعل كل العناصر الموجودة فيها تسعى لان تكون مكملة لوجود هذه المرآة في اهم مكان فيها .

وكانت دلالات امتداد المرايا الطولية على ان بعض هذه القطع يستخدمها الانسان وقوفا والاخرى جلوسا، ولا شك ان بعضها كان يشكل جزءا من اثاث متكامل لصالة او مدخل او غرفة .

وتزدان هذه الخزانات بالزخارف الهندسية والنباتية والكتابية تم تنفيذها بدقة بالغة مرة بالقطع الخشبية والتعشيق واخرى بالتطعيم والتكفيت . ومن الملاحظ في بعضها ان اجزاءا من كتلها تم معالجته بطريقة تحويرها من اشكال مكعبة الى اشكال ذات استدارات دائرية من جوانبها فاصبحت تواجه الانسان من عدة اوجه بعد ان كانت تواجهه من الامام فقط مما يظفي عليها جمالا اخر يستوعبه من خلال الاحاطة بالفضاء في ابعاد جديدة وعناصر جديدة . وهذا التصور يوحي بفهم اعمق للكتلة والفضاء الذي تشغله هذه الكتلة مما جعل من هذه النماذج مرحلة متطورة عن الخزانات السابقة كما ان من الملاحظ عليها اشغال الالوان بطريقة اكثر تحررا من السابق فقد سادت الالوان الخضراء ولون العاجي مساحة كبيرة في بعض من هذه النماذج .

 

3-   خزانات معلقة:

وقد تم تصميمها لغرض تعليقها على الجدران في الصالات والمداخل والاماكن ذات الاهمية وبما يتلائم وطول الانسان واغراض استخدامه في حفظ بعض التحف والهدايا ومما يميز وظيفة هذه النماذج عن الخزانات السابقة انها اصغر حجما وادق صنعاً واكثر جمال حتى انها قد تحولت بحد ذاتها الى تحفة تزدان بالزخارف والخطوط والايات والالوان الجذابة، فقد كانت تحفة وظيفتها حفظ وعرض تحف فنية ذات قيمة جمالية ومادية وفنية .

وفي هذه النماذج تم التأكيد على عنصر الخط وما يتضمنه من ايات قرانية وتكوينات فنية جميلة تتصدر المكان البارز فيها كما اشتملت على العقود والاقواس والاعمدة والاشكال النجمية والشمسية طعمت بالعاج والعظم تارة وزينت بالالوان الجذابة تارة اخرى، وتدل الرفوف التي تحتوي هذه النماذج بانها كانت تستخدم لعرض التحف وبعض الحاجيات الثمينة فضلا عن احتوائها على بعض الخزانات الصغيرة .

لم تبتعد هذه النماذج من تأثير عناصر الاشكال المعمارية وانما تحولت الى نماذج تجسد تحفا معمارية مصغرة عن العمارة الاسلامية . وتسترعي الانتباه والاهتمام لدى الزائر بدقة صنعها وتكامل جمالها ولتذكرنا بنفس المناخ الاسلامي السائد في البيئة العربية .

 

4-   المقاعد:

لم تكن المقاعد والكراسي ببعيدة عن اسلهام مفردات الحضارة بطريقة صناعتها رغم اختلاف وظيفتها وجمالياتها . انها كانت اكثر بساطة واقل تعقيدا واحيانا من صناعة الخزانات السابقة، فقد تمت توشيحها بالعديد من الزخارف الهندسية والنباتية والكتابية وبطريقة جذابة تدعو الى الاندهاش والتأمل وتم تطعيم اغلبها بالعاج الذي اضاف لها مظهرا جماليا خاصا كما اضاف لون النسيج لها قيمة جمالية اخرى غلبت على هذه النماذج واصبحت جزءا من جمالها العام .

وتم معالجة بعض اجزائها في ان تحولت الى اشكال نافذة بين القطع المصنعة لهذا الاثاث فتبادلت الجمال بين الفضاء والكتلة المتناظرتان والمتجاورتان في آن واحد وتبرز دقة الانتظام في ترتيب الاشكال والعناصر في صناعة هذه الاثاث كما تتوج بعض اشكالها نماذج جديدة من الزخارف النباتية المخرمة والتي يتخللها الضوء بعد ان كانت في النماذج القديمة محفورة بشكل بارز او غائر . ويضفي هذا التنوع والاستخدام بعض العناصر الجديدة اضافة جمالية مميزة لهذا النوع من الاثاث لم يكن واردا في صناعة الخزانات السابقة .

وقد جمعت بعض هذه القطع بين المقاعد والخزانات والمرايا في قطع اثاث واحدة تؤدي وظائف متعددة في آن واحد وتعد من النماذج الغريبة في هذا المجال .

 

5-   المشربيات:

ذلك الفن الجميل الذي تميزت به مدينة القاهرة وازدانت به العديد من المدن العربية الاسلامية كأبتكار هندسي صنعه العرب استلهاما من الاطباق النجمية الهندسية والحشوات الرخامية التي وصلت للتشكيل الهندسي الى مستويات كبيرة .

كانت الاسباب الوظيفية من اهم الاسباب التي دعت الى ابتكارها وتطورها فكانت المشربيات تتطل علينا بعبقها الشرقي الغامض لتغلف بعض جدران الحجرات العتيقة كعنصر وظيفي وجمالي يتوافق مع الظروف البيئية والمناخية والاجتماعية .

لقد كان ذلك يمثل الاستجابة الصادقة والعليمة للفكر ومعتقدات المجتمع الاسلامي وقيمه وفي اماكن جلوس النساء كانت الضرورة تقتضي فرض نوع من الحجاب عليهن ضمن تعاليم الشريعة الاسلامية، فكانت هذه المشربيات النافذة التي تؤدي وظائف متعددة كحجاب للرؤية ونافذة للهواء والضوء . لم تكن تلك المشربيات تتطل على الفضاءات الخارجية فحسب وانما كان العديد منها يطل على الفناءات الداخلية للقصور والمنازل .

ويقال ان المشربية تحريف ظاهر لكلمة (المشرفية) اي المكان الذي يشرف على الشارع او الطريق او كانت تطلق على اواني الشرب بحيث كانت توضع بها وبما يضمن مرور تيار الهواء عليها .

وكان الخشب الذي تصنع منه الشربيات يتميز بصلابته وتحمله لحرارة الشمس والعوامل الجوية وله لون بني داكن .

وللمشربيات تاريخ طويل يرجعه البعض الى بداية العصر اليوناني والروماني ولم تكن اولى المشربيات تشبه ذلك الطراز العربي الاسلامي في طريقة تكوينه وانتظام علاقاته الهندسية وبعناصره الدائرية والمثلثة والخطوط المتوازية والمتقاطعة التي اثرت مفهوم الزخرفة العربية .

اعتمدت صناعة المشربيات بالدرجة الاولى على عملية الخراطة لصنع اشكال مخروطية دقيقة الصنع تجمع بطريقة فنية بحيث ينتج تجميعها اشكال زخرفية وهندسية ونباتية او كتابات عربية وتعرف المشربيات في بعض الدول العربية بالروشن وتعني الكوة او النافذة .

لقد وصل فن المشربيات درجة كبيرة من الاتقان في مصر خلال العصر المملوكي ويظهر ذلك بوضوح في القاطع الخشبي في مدرسة السلطان حسن الموجودة في متحف الفن الاسلامي في القاهرة . وقد تأثر بها المستشرقون كثيرا ووصفوا صناعتها في كتاب خاص بها وقد قام (روبرتس) و (إدوارد وليم لين) برسم العديد من المشربيات في لوحاتهم الفنية التي تعكس البيئة العربية في مصر .

وتختلف المشربيات باختلاف العناصر المخروطية المكونة لها فضلا عن التصاميم الهندسية التي يضعها الفنان المسلم . ولم تكن الشربية تقتصر في وظيفتها كنافذة تتطل او تشرف على الفضاء الداخلي والخارجي في العمارة الاسلامية وانما تحولت الى شكل جمالي جذاب احتوته العديد من النماذج التي امامنا وقطع الاثاث فكانت بعض الخزانات تحتوي نوعا من المشربيات وكذلك بعض الحواجز المتحركة التي تصنع بنفس طريقة المشربية لتوضع امام الابواب ولتحجب الرؤيا ثم تحولت بعد ذلك الى تحف فنية توضع كقطع من الاثاث لتزيين الفضاءات ومكملة لعناصر التصميم الداخلي الاخرى .

لا شك ان المشربية بعناصرها الجمالية والوظيفية كانت احد المفردات الفنية المهمة التي بلورت مفهوم مصطلح الارابيسك سواء كان ذلك على المستوى الشعبي او الحرفي او الفني الا انها اعطت تلك الصفة الوثيقة بالفن العربي الاسلامي .

من هنا فاننا نجد الاطار المفاهيمي الواسع لكلمة ارابيسك حتى اصبح من الصعوبة البحث عن مصطلح اخر يعبر عن ذلك الارث الحضاري الفني والجمالي والمعماري للفنون العربية الاسلامية .

 

أ.د إياد حسين عبدالله

استاذ فلسفة التصميم

www.ayadabc.co.cc

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1087  الثلاثاء 23/06/2009)

 

 

في المثقف اليوم