قضايا وآراء

نظرية المعرفة من النظام التناظري الى النظام الرقمي (1)

2-الكود – نظام التشفير الرقمي (Digital )

وقد ساعدت الطبيعة الفسلجية للدماغ على هذا التصنيف منذ التقسيم الذي تم في علوم الفيسيولوجيا والنفس والاعصاب، اذ تأكد قيام النصف الايسر بالمهام الخاصة باللغة التي يتداولها الانسان وهو في نظام المعلومات ذو طبيعة رقمية (Digital) .

بينما يقوم النصف الايمن من الدماغ بالمهام الاساسية بالتفكير والصور وهو في معالجته للمعلومات ذو طبيعة تناظرية (Analog).

وقد اكد بول فيتز في نظريته حول وظائف المخ البشري التطورات التي جرت في فن التصوير الحديث والنقد والادب واللغة والفن وتحولات انظمتها من التفكير التناظري الى التفكير الرقمي وانعكاس هذه التحولات الى العديد من مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية .

والنظام التناظري في التفكير هو في ابسط مفاهيمه ان يكون بديلا لشيء اخر، او انه يماثل شيئا اخر رمزا له من الناحية الفيزيائية كوجود، أي انه يشبه الشيء الذي يرمز اليه . وعلى سبيل المثال فان الصور العقلية المختزنة في الذاكرة عن شخص معين هي رمز تناظري جيد عن ذلك الشخص وتمثله تمثيلا عقليا وعند استدعاء هذه الصور نتيجة فعل او حاجة معينة تتم المطابقة السريعة بين الرمز والشخص عندما تراه، وقد يدخل الزمن عاملا مؤثرا على عملية المطابقة والادراك فتكون سريعة عندما تكون المطابقة ذات ذاكرة قصيرة وتكون طويلة عندما تكون ذاكرة طويلة المدى في حالة الغياب الطويل لذلك الشخص، وينطبق ذلك على كل الصور التي يختزنها الانسان عن الاشياء التي يبصرها وتشكل ارشيفا هائلا في ذاكرته البصرية فيستدعي ايا من هذه الصور في حالة وجود ما يحفز على ذلك . وهو ما تؤكده فكرة الاعلان في طريقة تكراره وبصورة مستمرة لاجل رسوخه اولا في الذاكرة البصرية ومن ثم استدعائه كلما احتاج الانسان الى ذلك في عملية الترويج والتاثير .

ويعد الرمز التناظري شديد الدقة بسبب شدة التشابه مع الشخص الذي يمثله واقرب رمز بصري لذلك هي الصور الشخصية الضوئية .

اما النظام الرقمي، فلا يوجد بينه وبين الشيء البديل عنه أي تشابه او علاقة مسبقة او محددة كما هو الامر في رقم الهوية الشخصية مثلا،أي ان هذا الرمز او الرقم يحل محل الشخص لكنه لايتماثل معه باي معنى من المعاني، فالحروف الهجائية هي من اوضح الامثلة على الرموز الرقمية حيث لايوجد بينها وبين الاصوات التي ترتبط بها أي تشابه او علاقة سمعية كانت او بصرية . وهذا ما جعل اللغة نظاما رقميا . وهو ما جعل هذا النظام اكثر دقة

ورغم صعوبة احلال احد النظامين بدل الاخر الا ان هناك العديد من التحولات بينهما وتفرض الوظائفية والحاجة ضرورة هذه التحولات، فعلى مستوى الشعر والادب فان القارىء يتذوق القصيدة فقط عندما تصدر كلمات القصيدة صورا عقلية متنوعة ترتبط بتناظرات عقلية، فالشعر هنا بدا باللغة ذات النظام الرقمي وشفرتها الرقمية ومن ثم تحول الى النظام التناظري بعد ان فهم جانبا منه وتمت عملية التذوق بعد تحول الحروف والكلمات الى اصوات داخلية وصور عقلية تناظرية .وهذا ما يدعونا للقول الى ان هذا النظام اكثر ثراء ومعنى في قدراته التعبيرية عن الفرح والخوف والاحباط وعمليات التفكير الخيالي والاحلام التي يصعب التعبير عنها في النظام الرقمي . ويمثل هذا التحول الذي يمكن ان يحصل من النظام الرقمي الى النظام التناظري .

وهو ما يحصل ايضا في اجهزة الاتصالات الحديثة التي تقوم بنقل الصورة من خلال تحويل بياناتها الرقمية الى شكلها التناظري السابق من خلال عرضها على الشاشة كصورة من اجل ان يحصل الاتصال الانساني المطلوب وهو مايجسده نظام الحاسب بدقة في تحويل البيانات الرقمية الى معلومات تناظرية .

ويؤشر قول فيتز حقيقة مهمة (ان ما نكسبه عند مستوى الدلالات نفقده عند مستوى التركيبات او القواعد، والعكس صحيح ايضا) أي ان المعلومات الخاصة تفقد بعضا من قيمتها عندما تتحول من نظام الى اخر كما هو الامر في حالات الفرح والتذوق الجمالي تختصر وتختزل حين تريد ان تعبر عنها من خلال (الكلمات والقواعد، او المنطق، او النظام الرقمي). كما تفقد المعلومات في النظام الرقمي وتقع في قبضة الغموض والعمومية حين التعبير عنها في النظام التناظري .

اننا في هذا العصر وكنتيجة لتطورات عديدة فكرية وتقنية واتصالاتية نتحرك تدريجيا من النظام التناظري الى النظام الرقمي في ميادين كثيرة في الحياة على مستوى اللغة والفكر والفن

فصورة شخص يقف امامنا هو مثال ورمز موضح للنظام التناظري بصورة على درجة كبيرة من الدقة . ولمعرفة الطريقة التي تتدرج بها تحولاته من شفرته التناظرية الى شفرته الرقمية نتابع الخطوات الاتية :

•صورة ضوئية ملونة لذلك الشخص هي رمز موضح لملامحه وهيئته بدرجة كبيرة الا انها لايمكن ان تحل محله او تتطابق معه ككيان حي بكل تفاصيله .

•صورة ضوئية بالاسود والابيض لنفس الشخص هي رمز موضح له بدرجة اقل من سابقتها كونها تحمل خبرة اقل عن الصورة الاصلية .

•صورة ضوئية  قديمة لذات الشخص باهته تحمل خبرة تناظرية بدرجة اقل فاقل كونها تبتعد نوعا ما عن دقة التفاصيل والملامح .

•صورة كاريكاتيرية للشخص تفقد كثيرا من ملامحه وتضفي عليه تعابير جديدة يجدها الرسام موافقة وانطباعاته، لكنها تحمل خبرة تناظرية اقل من كل الصور التي سبقتها كونها ابتعدت كثيرا عن اصلها .

•صورة مرسومة وفقا لرؤية فنان تجريدي تعكس انطباعاته واسلوب المدرسة الفنية لكنها تنتهي بهيأة لاعلاقة لها بالاصل .

•اسم مجرد يطلق على ذلك الشخص ولايحمل أي دلالة عليه يقطع الصلة به فتتحول الشفرة التناظرية لذلك الشخص الى شفرة رقمية لحلول اللغة بدل الصورة .

 

* مستل من كتابي موسوعة فن التصميم / الفلسفة – النظرية - التطبيق

استاذ فلسفة التصميم

www.ayadabc.co.cc

[email protected] 

 

 

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1058  الاثنين 25/05/2009)

في المثقف اليوم