قضايا وآراء

الوعي الكوني

ومحيطها يكاد أن يكون لا نهائيا..وهنا سيبدو وكأن الذات هي مركزهذه الدائرة الكونية وعندما يتحرك الإنسان إلى أي مكان آخر وفي أي اتجاه تبقى الذات مركزاً لكل الدوائر الأخرى وكأن الذات هي المركز والدائرة في نفس الآن.

 

 يقول د.سوزوكي (فرويد وبوذا ص 169):-

 يمكن مقارنة الذات بدائرة لا محيط لها، وبالتالي فهي سونياتا أو فراغ، ولكنها أيضا مركز هذه الدائرة، والذي يمكن أن يكون في كل مكان من الدائرة وفي أي مكان منها، والذات هي نقطة الذاتية المطلقة التي قد تنقل احساس الحركة أو السكون وبما أن من الممكن تحريك هذه النقطة في أي مكان فريد نحو مواضع متنوعة إلى ما لا نهاية إذ أنها في الواقع ليست نقطة، فالنقطة هي الدائرة والدائرة هي النقطة.

إن التناظر بين المقولتين أعلاه يمثل تناظرا ما بين الهندسي الفراغي الملموس وبين الخيالي المحض، أو بكلام آخر هو تطابق بين المرئي واللا مرئي أو بين المحسوس واللا محسوس أو يمكننا أن نقول بكلام أعمق هو تناظر بين المستحيل والعادي ومن هنا نستطيع أن نفهم الذات في بوذية زن(Zen).

يرى د.سوزوكي أنه من العصي على الغربي أن يفهم الشرقي وذلك لأن العقل الغربي يموضع الذات(من الموضوع objectify) عندما يدرسها وبالتالي فهو ينبذ ماهو في الداخل إلى الخارج نتيجة الانبساطية التي يتميز بها العقل الغربي والتي تعني اهتمام الشخص نحو الخارج وهي عكس الانكباب والانطواء الذي يسم الفكر الشرقي والذي يهتم بالباطن والتأمل(م ن /ص 167) ، فضلا عن الثنائية التي يتميز بها العقل الغربي والذي توارثها عن المسيحية والمتمثلة ببعض المصطلحات من مثل الشخص الإلهي والآخر البشري اللذان يبدو أنهما منسجمان في المسيح.

ولكن هذه الثنائية في الفكر الغربي كما يرى "هارولد بلوم" نقلا عن "لفجوي" (خارطة للقراءة...ص99) موجودة من قبل المسيح وأوجدها "أفلاطون" عندما قال بوجود إلهين وإذا كانت المسيحية بوصفها فكرة وعقيدة قد انتقلت من الشرق وبالتحديد الشرق الأوسط إلى أوروبا، فبالتأكيد وجد البحاثة الغربيون ونتيجة لما ورثوه من الفكر اليوناني ومن أفلاطون بالذات ما يمكن أن يحتازه المسيح من هذه الثنائية أي (الإله - البشر) أو (البشر- الإله)، وهذه الثنائية كما يرى "سوكوزي" هي التي جعلت العقل الغربي انبساطيا وليس أنطوائيا كما هو الشرقي ولهذا السبب يرى أن الغربي يعاني صراعا في اللا وعي تنجم عنه مغامرات في الزمان والمكان مما يقود إلى عمل تسوية لمكافحة هذه الإثنينية والتي تسم تفكيرهم والتي انتقلت إلى الذات والعمل على موضعتها.

ولكننا نعتقد أن رحلة الوعي الإنسانية هي رحلة قديمة ولا شك فأن رحلة "جلجامش" إلى بحر الظلمات هي في واقعها رحلة لاحتياز الحقيقة والخلود أي لاحتياز الذات بوصفها "وعيا" والآخر بوصفه "خافية" أو "لا وعي" كما هو حال الآلهة الخالدة، إن الإنسان الأول (جلجامش) كان متكونا من ثلاثة أثلاث ، ثلثان منهما للإله والثالث بشري، فالنزوع من البشري (الأرضي) إلى الإلهي (السماوي) والمماهاة بينهما هو ابتداء الوعي الكوني الإنساني ولكنه (أي الإله) بقى مفتتا وله صنو بشري غير مكتمل وبقى ذلك حتى ظهور الديانات الموحدة والتي جمعت ونسبت هذه الآلهة بإله واحد كما أنها فصلت ما بينه ومابين ما هو بشري إلا أن المسيحية عادت وجاءت بالثنائية التي ذكرناها سابقا وليصبح لهذا الإله قدمان واحدة في السماء والأخرى في الأرض، وهما بالطبع انعكاس لإلهي أفلاطون اللذان استعارهما من "فيليبس" و ديميترجس في كتاب تايمييوس، وهما إلهان مختلفان بحسب ما يرى "لفجوي" فالأول آخروي(other-worldly) وهو ليس بحاجة إلى أي شيء آخر لأنه مكتف بذاته، والثاني أرضي خال من الحسد رغب بأن يكون كل شيء قدر المستطاع شبيها بذاته، حيث جعل منهما "أفلاطون" (إلهين في إله واحد، كمالا إلهيا لم يكتمل بعد في ذاته، بما أنه لا يمكن أن يكون موجودا نفسه بدون وجود كائنات أخرى غيره تكون جوهريا غير كاملة).

في الفكر الشرقي القديم نقرأ كلمة "براهمان" (الفكر الشرقي- ص/ 35) وهي كلمة سنسكريتية ويقصد بها الإسم الذي أطلقه معلمو وحكماء الأوبانيشاد على الموجود الأسمى وهم يجسدونه في الإله الخالق (براهما)ويضعونه طرفا في ثالوث مقدس يتألف من براهما(الخالق) وفشنو(الحافظ) وشيفا (المدمر)، ولكن هنالك أيضا الأتمان(Atman) وهي أيضا كلمة سنسكريتية يراد بها في الأدبيات الهندوسية روح العالم، أو مبدأ الحياة أو الروح المطلقة أو نفس الكون الفعلية التي تتخلل كل شيء، ويرى "جون كولر" (م ن – ص/61) أن وحدة أتمان وبراهمان هو أعظم اكتشاف في الأوبانيشاد، لأنها عندما تجيب عن السؤال [ماذا عساي أن أكون في أعمق وجودي] يكون جوابها أن أساس الوجود ذاته هو الوعي الذي يضيء ذاته والذي يمكن للشخص أن يخبره مباشرة عندما يجاوز التوحد مع النفس الزائفة للعالم المتموضع (من الموضوع)].

إن الطريق من السماوي إلى الأرضي أو من الأرضي للسماوي بالرغم من كونه ذات الطريق هو نتاج الفكرة البدئية الأولى والمتمثلة بما جاء في "ملحمة جلجامش" عن الإله الثلاثي الذي إذا اتجه شرقا سيكون "براهمان" ثلاثيا (خالق وحافظ ومدمر) فالخالق سماوي والحافظ والمدمر (أرضيان) ولكنه إذا اتجه غربا سيكون مسيحا ذا طبيعة أفلاطونية أي (الإله – البشر) أو (البشر- الإله)، الشرقي يكون انطوائيا والغربي انبساطيا، الشرقي يتجه نحو الذات ويعيش التجربة ليعرف العلاقي بين الذات والذات المطلقة والثاني يموضع الذات ليعرف ذات العلاقة، من المستحيل أن تكون الذات المطلقة موضوعا عند الشرقي ولكنها يمكن أن تكون موضوعا لدى الغربي، وبالطبع لكي تعرف الشجرة عليك أن تكون شجرة وعليك أن تعاني الكثير لتصل إلى ذات الشجرة ولكن أن تقرأ عن الشجرة بوصفها موضوعا ستكون هنالك استقلالية بين ذاتك وذات الشجرة وشتان ما بين التجربتين ومن هنا سيكون عصيا على كل من الشرقي والغربي أن يفهم أحدهما الآخر. وبهذا يقول كولر(م ن- ص/64):-

 إن معرفة أتمان تماثل معرفة الحب، فأولئك الذين يجربون الحب وحدهم الذين يعرفون طبيعته، وقد يطرح آخرون مزاعم شتى عن الحب، ولكنهم يفتقرون بجلاء للتجربة المناسبة، أما بالنسبة للشخص صاحب التجربة فإنه ما من شيء يمكن أن يكون أكثر يقينية من وجوده، رغم أن الشخص الذي يفتقر إلى التجربة، يحتمل إلى حد كبير أن يتشكك في وجود الحب، وبطريقة مماثلة فإن من يفتقرون إلى الإيمان أو التجربة قد يتشككون في وجود "أتمان" وفي إمكان إدراكه، ولكن من جربوا نعيم أتمان يعرفون النشوة المطلقة، فقد تحققوا منه تمام التحقق.

 أبوظبي

 18.04.08

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1099  الاحد 05/07/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم