قضايا وآراء

الإمامُ عليّ ... مدرسةٌ صَنَعَتْ حَضَارَة

 وجدب الفكر فيه أو يكاد، حتى أصبحنا قاب قوسين أو أدنى، من جاهليّة ظلماء، كالّتي جابهتها يا مولاي، فمزقت دياجيرها بنور إيمانك، و بدّدت سفه أفكارها بإشعاع علمك، فتلك هي ذرائعي، لأكتب عن حضرتك، فأستميحك عذراً يا مولاي، لتجاوزي على مقامك الشريف سيدي. 

عندما نستذكر الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، فإننا نستحضر بذكراه، شخصيّة الرسول الأكرم نبينا محمد(ص)، لأنّه صنوه و نفسه، فقد صرح القرآن الكريم بذلك، فقال تعالى: (فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ) (آل عمران/61)، أنفسنا يعني نفس الرسول(ص) ونفس علي(ع). كما صرح رسول الله(ص) بمنزلة الإمام علي(ع) في حديث المنزلة(أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) .  

في البداية لابدّ أنْ نشير بأنّه(ع) مدرسة إسلاميّة، و مدرسة إنسانيّة، و مدرسة حضاريّة. وعندما نقول بأنّه(ع) مدرسة، فذلك يعني أنّه أسّس نظاماً معرفياً متكاملاً، وأصبح مصدر فيّض فكري و ثقافي، ليس مقصوراً على زمانه فحسب، و إنّما امتّد عطاؤها إلى الحاضر، و سيصل إلى المستقبل أيضا. فهذه المدرسة لا ينضب نميرها، ما دامت الإنسانيّة مستمرّة في الوجود. فالإمام بعد رسول الله(ص)، غيّر وجه التاريخ، وصنع حضارة لأمّة متخلّفة و جاهلة، لا تدرك أبسط العلوم والمعارف، ولا تعرف ما يجري حولها في العالم، وحتى لم يثرْ انتباهها، نشاطات الأمم الأخرى، في تلك المرحلة التاريخيّة، وما تنتجه من علوم و فنون. أمّة تعيش حالة الجهل العقائدي و المعرفي، لا تفقه من الحياة، غير السلب والنهب والحروب. العصبيّة القبليّة، هي القانون الذي يحمي الأفراد والجماعة من الآخرين، ومن بعضها البعض. ونوط شجاعتها، التفاخر في إراقة الدّماء.  وهويّة فتوّتها، الانغماس في شهوات الجنس، (حيث دور ذوات الرايات الحمراء، كما يذكرها المؤرخون). و ديّدن كبرائها التلذّذ بالشهرة ونوادي الخمور. جاهليّة تقدّس الأنا، وتغيّب جميع الاعتبارات الأخرى. جاهليّة لا ترضي بأنْ تمتدح ذات رئيس القبيلة و قومه، في منتديات الأثرياء والأسواق العامّة، بل كانت تصرّ بأن تعلّق قصائد مديح سراة القوم والقبيلة، على أستار الكعبة، و تبقى هكذا معلقة عاماً كاملاً، فتحولت الكعبة، إلى قناة أو وسيّلة إعلاميّة، تنشر ثقافة الإستعلاء وجبروت الأسياد. وأصبح بيّت الله مرتعاً، لمختلف أنواع و إشكال الأصنام و الأوثان. مجتمع قيمة الإنسان فيه، لا تساوي قيمة كبش أو عنّزة. و غضب الرجل قد ينتهي، إلى قتل من أغضبه، فسار مثلهم (سبق السيف العذل). فساد في العقيدة، و خشونة في الطّباع، و انحراف في الأخلاق. في هذه الأجواء المنحلّة والمتخلّفة، ولد أمير المؤمنين(ع)، و كان لابدّ للمشيئة الإلهيّة، أنْ تلفت أنظار القوم، بأنّ هذه الولادة حدث خاصّ، لم تألفه الإنسانيّة قطّ، ولنْ يتكرر مرة أخرى مطلقاً، لذا احتفظت، بسرّ عظمة المولود، و دوره التاريخي، في تصحيح مسيّرة الإنسانيّة في الوجود. لقد ولد(ع) كما هو متّفق عليه تاريخياً، في جوف الكعبة المشرفّة، داخل فناء البيّت العتيق، بعدما انشقّ جدار البيت، أمام فاطمة بنت أسد(رض)،عندما لاذت بالبيت الحرام، طالبة مساعدة ربّ البيّت، ليسهّل أمر ولادتها، وسمي جدار الكعبة الذي انشق بـ(المستجار)، ولا زال إلى اليوم، يحمل هذا الإسم. لقد عجز أبو طالب(رض)، ومن معه من نساء بني هاشم، من الوصول إلى زوجته، لتقديم المساعدة لها، فلم يستطعْ فتح باب البيّت، للوصول إليها.

و بعد هذه المقدّمة يأتي السؤال: لماذا الإمام (ع) مدرسة صنعت حضارة ؟.

وللإجابة يجب معرفة ما المقصود من مصطلح (حضارة)، فلابدّ من تعريفه، فقد جاء في المعجم الفلسفي، للدكتور جميل صليبا : (الحضارة ... تطلق على مرحلة ساميّة من مراحل التطوّر الإنساني، المقابلة لمرحلة الهمجيّة والتوحّش)(ص/476). ولغرض إنتاج الحضارة، يجب أنْ تتوفر نهضة اجتماعيّة، ولكل نهضة لابدّ لها من مقومات أو عناصر، هي :-

 

 1. (إنسان) مؤهّل للقيام بالدّور الحضاري المطلوب، معدّ نفسيّاً وأخلاقيّاً، لتحمّل المسؤوليّة، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

2. (عقيدة) تقود خطوات الإنسان، وتلهمه وتدفعه إلى التّضحية والإيثار(البعض يطلق عليها فكر أو ثقافة أو آيديولوجيا).

 

3. (مجتمع وأشياء ماديّة) وهي الأدوات التي تبرز من خلالها العقيدة. (المصدر/ مجلة البحوث الإسلاميّة العدد 19ص33) (بتصرف) (وللمزيد يراجع كتاب شروط النهضة /مالك بن نبي).

 

وأوّل خطوّة خطاها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، كانت في تحصين نفسه عقائدياً، فانغمس وجوده كلاً، في أجواء الرسالة الإسلاميّة ومبادئها، فكانت روحه الشريفة، هائمة في ملكوت الخالق تعالى، لا ترى شيئاً في هذه الدّنيا، أحقّ من العبادة والاتصال بالله سبحانه، و إقامة العدّل والحقّ. (إن فكرة الحقّ شغلته- كلية- عن سواها. وقد اختلف عن سواه من المفكرين والمصلحين، بأنه كان فيلسوف الحقّ بلا منازع، والذي أعطى لفكرة الحقّ زخمها النضالي، الواقعي، سلاحاً بيد الناس، وليس أملاً مجرداً. كان يُريد أنْ تكون فكرة الحقّ الغاية والوسيلة، لإنشاء عالم أرضي ......، هو مدخلهم إلى الفردوس الإلهي. بهذا التوجه كان علي فيلسوف الحقّ الذي نبذ - منذ البدء- الطرح النظري الصرف عن(الحقّ)، والذي ليس له سنده المادي والواقعي. وتقوم مدرسة علي بن أبي طالب التربويّة، على وحدة مفاهيمه عن (الحقّ و العدل والحريّة)، وتطبيق تلك الوحدة في نشاطه الغني والمتنوع على خطوط السياسة، والثقافة، والحرب، والقضاء كافةً،الخ. لقد كان الحقّ قضيّته الجوهريّة، فنال الخلود من قبل البشرية الواعية، لأنّها ترى في الحقّ قضيتها الأساسيّة، التأريخيّة، وأملها الموعود الذي تناضل من أجل أنْ يتحقق.)) (علي سلطة الحق/عزيز السيد جاسم/ص 514).

أمّا الله تعالى فكان في عقيدة أمير المؤمنين(ع) محور الكوّن، فيقول (ع): (الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ تَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حالاً، فَيَكُونَ أَوَّلاً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً، وَيَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً) (نهج البلاغة الخطبة/64). والإمام عليّ (ع) صاحب الفهم العميق لهذه الحقائق، فقد قال له الرسول(ص): (يا عليّ لا يعرف الله إلا أنا وأنت، ولا يعرفني إلا الله وأنت، ولا يعرفك إلا الله وأنا).

 و أمّا الرسول (ص) عند الإمام عليّ (ع)، فهو الهادي والمبلغ والمرشد والمعلّم. فيقول(ع): ((ولقد كان يجاور بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام، غير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) و خديجة و أنا ثالثهما. أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة. و لقد سمعت رنّة الشيّطان حين نزول الوحي عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلت يا رسول الله: ما هذه الرنّة ؟. فقال: إنّه الشيّطان آيس من عبادته. إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبي، و لكنّك وزير، و إنّك لعلى خير))(انتهى). و قال(ع)، وهو يلي غسل رسول الله (ص) وتجهيزه: (بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي، لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالاِْنْبَاءِ وأَخْبَارِ السَّماءِ، ... بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ) (نهج البلاغة الخطبة/234). 

و أمّا الإسلام عند الإمام (ع)، فهو رسالة وعقيدة ومنهج و دستور، لتطبيق الحقّ. فيقول(ع): (الْحَمْدُ للهِ الَّذِي شَرَعَ الاِْسْلاَمَ فَسَهَّلَ شَرَائِعَهُ لِمَنْ وَرَدَهُ، وَأَعَزَّ أَرْكَانَهُ عَلَى مَنْ غَالَبَهُ، فَجَعَلَهُ أَمْناً لِمَنْ عَلِقَهُ، وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ، وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ، وَنُوراً لِمَنِ اسْتَضَاءَ بِهِ، وَفَهْماً لِمَنْ عَقَلَ، وَلُبّاً لَمِنْ تَدَبَّرَ، وَآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ، وَتَبْصِرَةً لِمَنْ عَزَمَ، وَعِبْرَةً لِمَنِ اتَّعَظَ)(نهج البلاغة الخطبة/ 105).

إنّ أبا الحسن(ع) قدّ خبر فلسفة الحياة بكلّ تفاصيلها، فقال يخاطبها: (....يا دنيا أ بي تعرضت ؟، أمّ إليّ تشوقت؟، هيهات هيهات، غرّي غيري، قد باينتك ثلاثاً لا رجعة لى فيك، فعمرك قصير وعيشك حقير، و خطرك كثير، آه من قلة الزاد و بعد السفر، و وحشة الطريق).

إذن الإمام عليّ بن أبي طالب(ع)، استجمع كل عناصر النهوض الحضاريّ، فهو الإنسان الذي يحترم الإنسانية، والمؤمن المخلص لعقيدته ومنهجها الفكري، و أخيرا استطاع أنْ يؤثر في المجتمع، فصدق الخليل بن احمد الفراهيدي (رحمه الله تعالى)، عندما سئل عن حال أمير المؤمنين(ع)، و قيل له: ما تقول في على بن أبى طالب (ع)؟. قال: (ماذا أقول في رجل أخفى أعداؤه فضائله حسداً، و أخفاها محبوه خوفاً، و ظهر من بين ذين و ذين ما ملأ الخافقين). فحري بشخصية الإمام علي بن أبي طالب(ع)، أن تتربّع على عروش النفوس والعقول، وتسكن أعماق الضمائر و الأرواح،لأنّها مدرسة صنعت لنا حضارة الإسلام المجيد. فطوبى لأبي الحسن إخلاصه لله سبحانه، ولرسوله(ص)، ولعقيدته، وسلام عليه يوم ولد، و يوم استشهد، و يوم يبعث حيا. 

 

محمّد جواد سنبه

كاتب و باحث عراقي

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1100  الاثنين 06/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم