قضايا وآراء

ثقافــة المحبة – ثقافــة الخراب

وان كانت المحبة في تلك العصور حلما، فماذا غدت ؟، او ماذا عسانا نسميها اليوم ؟ وسط اهوال السياسة والاطماع وخلافات الشمال والجنوب والمنتج والمستهلك والديمقراطي والاشتراكي والغني والفقير والسنة والشيعة والعرب والعجم وعشرات الثنائيات التي لاتثبت الا بؤس دساتير الارض وخواء قوانينها .

تلك القوانين لم تكن الا لترتبط بعقل الانسان المحكوم برغباته او نزعاته او بني جنسه، اي ان قيمة كل القوانين كانت تنطلق من نظريات مادية متغيرة في هذه البيئة او تلك، وبالتالي فان كانت تتفق مع اهواء هؤلاء فانها تتقاطع مع مصالح اولئك، وحدها قوانين الله كانت تدرك خير الانسان قبل خلقه وخلال وجوده وبعد موته . فكم من البشر رضي بقوانينه دون زيف او رياء او تضليل؟

بل وحتى القوانين الوضعية التي اتفقوا على انها في صالح الانسان، كم جرى تزييفها وانتهاكها تحت ذرائع شتى فكانوا اذا سرق فيهم القوي بجلوه، واذا سرق فيهم الضعيف قتلوه .

ورغم حرص كثير من المدنيات على تطبيق واحترام قوانينها، الا ان حقيقة الامر في العالم كله ان هناك دائما قانونين، احدهم معلن وتساق به الرعية، واخر خاص غير معلن يلهو به الخاصة على اهوائهم . اي ان الزيف ابتدأ مع اول قانون وضعه الانسان ولم يطبقه حق تطبيقه .

وبسبب من تنوع البيئات واختلاف مشارب الامم والاحداث التي تعيشها والافراد الذين يسلطون عليها – اذ الناس على دين ملوكهم - فقد نشات في مجتمعات كثيرة في الارض، ثقافات عديدة نسمع او نقرأ عنها هنا او هناك، مرة ثقافة المحبة واخرى ثقافة التسامح وثالثة ثقافة التمرد ورابعة ثقافة العنف وخامسة ثقافة الكراهية واخرى ثقافة الموت .

ولاشك ان كلا من هذه الثقافات لاتقرأ في كتاب او في صحفية، لانه سلوك يجبل عليه الانسان بفعل البيئة التي يحياها ويربى عليها، ومن المؤكد ان هذه الثقافة لم تشأ لتكون كذلك الا لانها تحولت من ظاهرة بسيطة الى سلوك يبدأ بشرذمة قليلة تعمم لتشمل على اكثر مفردات الحياة التي يتعامل بها الانسان مع شرائح كبيرة من المجتمع.

وكم هي ناصعة صفحات تاريخية في مجتمعات عديدة لعل ابرزها ما اشاعه الاسلام من وئام والفة وتاخي حتى وصل الامر ان يشارك الانسان اخاه في كثير من مفردات الحياة .فبنيت مجتمعات تسودها ثقافة المحبة والتسامح والعفو من مشارق الارض الى مغاربها وضربت اروع الامثلة والماثر في بناء حياة جديدة يعمها الرخاء والعدل والمساواة . وهكذا هو شان الرسالات العظيمة ومبشريها من الانبياء والرسل والصالحين .

وحيث تسود العدالة في كافة مفاصل الحياة وتتوضح الحقوق والواجبات فيتبوء العلماء مكانتهم لبناء المجتمعات والحياة ويوضع المجانين في مصحات والجانحين في دور الاصلاح والتهذيب وينال المجرمون جزاءهم، اي ان كل فئة لاتكون الا في مكانها المناسب، فتدور عجلة الحياة على اسا س منطقها السليم.

وما من شك في ان الكثير من المجتمعات واجهت ازمات وتحديات وصعوبات ونكبات احالت حياتهم الى بؤس وشقاء، ولكن الله منح الايمان والحكمة والصبرللبشر لتجاوز محنه كما منحنا البصيرة لنفرق بين الخير والشر والى اي من هذه الثقافات ننتمي، وحتى المجتمعات التي نسيت اديانها جعلت من سلطة العلم والقانون دينا جديدا لها، الا ان ما يثير الحزن والياس والبؤس، هو ما يجري من سلوك فاق التصورات او التوقعات في العديد من المجتمعات، يعيدها تحت مسميات كبيرة الى عصر الغاب والوحوش، في ذات الوقت الذي تحيا فيها مجتمعات اخرى اخر عصر المدنية والرخاء والمحبة في كل مفردات سلوكها .فتقبل الاولى على الموت والخراب كما تقبل الثانية على الحياة والبناء . وما من شك ان النتائج ترتبط بالاسباب في كل الاحوال اذ ان لكل مسبب سبب ولكل فعل نتيجة وفقا للعقل والمنطق الارسطي في النظرية السببية .اي ان المحصلة النهائية هي تلك الخلاصة التي تنتهي اليها كل تلك الجهود الفاعلة في عمليتي البناء والهدم .وسوف لاندرك كم هي صعبة عملية البناء الا عندما نعلم كم هي سهلة عملية الهدم.

ليس من شك ان الفيصل بين عملية الهدم والبناء هو المعرفة، اي ان الانسان عدو مايجهل، وهكذا انتسبت مجتمعات الى الحضارة والرقي واخرى الى التخلف بعيدا عن كل النظريات والمسميات والشعارات الجوفاء.انه الصراع الازلي بين تلك الثنائيات التي يعيشها الانسان منذ خلق، في الموت والحياة، والنور والظلام،والخير والشر، والعلم والجهل .........

الاف المشاهد والوقائع والماسي نجدها كل يوم هنا وهناك .حتى بلغ الزيف حد ما توقعه المصطفى عليه السلام منذ قرون (ارايتم ان امرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف ......) ووصل الامر بمجتمعات ان المحرمات هو الطريق الوحيد للبقاء فيها احياء .

وكثيرة هي المفاهيم التي استبدلت معانيها بمضاداتها، فاصبح الحق باطلا والباطل حقا، والعلم جهل والجهل علما، والخير شر والشر خيرا، والامانة خيانة والخيانة امانة .........

فتحول الدين الحنيف فيها وسط الجهل الى رداء ولحية وعمامة، يلبسها وينزعها من شاء ومتى شاء وتستطيع ان تخيط لك عمامة باي حجم شئت او اي لون اردت، وتحرم وتحلل على طريقتك الخاصة، بل وتؤسس لك دين جديد، عندها تكفر من تشاء وتمنح البركة لمن تشاء .او تعز من تشاء وتذل من تشاء .

بينما نقرأ بان الدين هو محبة الله واقامة حدوده والدعوة اليه في السر والعلانية والتجرد عن الهوى والامر بالعدل والاحسان وايتاء ذى القربى واليتامى والنهي عن البغي والمنكر. وتاريخنا متخم بالاخيار والصالحين والفقهاء والمحسنين .

وتفقد الحياة كل مقوماتها عندما لاتكون امنا في مجتمعك فتقتل دون سبب او ربما بسبب ، لعله اسم تحمله او صديق تعرفه او ملبس ترتديه او ركب تمتطيه .فكيف تامن اذا كان المجتمع الذي يحميك هو من يظلمك ثم يقتلك .

 

ولاول مرة اعلم بان السياسة في بعض المجتمعات هي عمل من لاعمل له، فمن تخلف في التعليم او كان عاقا او نبذه المجتمع لسبب ما فلا بد ان يصبح سياسيا، وان اول عمل يقوم به هو الرد على المجتمع الذي نبذه بالسطو عليه والانتقام منه، بكل الوسائل، ولكي تكون سياسيا فلا بد ان تجعل تصفية خصومك دينا لاتحيد عنه، ولكي تخدم الحقيقة يجب ان لاتسمع الا صوتك، لان كل الاصوات مقرفة . ولابد ان تبدأ وبسرعة البرق ان تاخذ اكبر ما تقدر عليه من المال العام لانك معرض للزوال في اي ثانية .

بينما السياسة تكليف وعبئ ثقيل في حمل هموم الرعية والسهر على راحتها وحماية مصالح البلاد والعباد، ورحم الله بن الخطاب عندما اختصر مفهوم السياسة والمسوؤلية بقوله (والله لو عثرت بغلة في ارض العراق لسألني الله لم لم تعبد لها الطريق يا عمر) !!

وكثيرا ما يعول الاخيار في عملية الاصلاح على ذوي العقول النيرة من اصحاب العلوم والشهادات والكفاءات، الا ان واقع التعليم في هذه المجتمعات يبدأ بمسؤول كبير جاهل يحمل شهادة مزورة وينتهي بطالب ارعن يحمل مسدسا يقررفيه سياسة التعليم ، ويكفي لهذين المؤشرين ان يحسما لك مصير الاف المفردات بينهما، بان لامكان في هذه المجتمعات لعالم او استاذ او مجتهد، وهكذا تحقق هذه المجتمعات اعظم انجازاتها عندما تطهر بلادها من المفكرين والعلماء واصحاب العقول، سواء كان ذلك موتا، او حرقا، او خطفا او هجرة . والمهم ان الجيل الصاعد من الخريجين يجب ان يدرك ان التزوير عن طريق السلاح هو اقصر طريق للحصول على الدكتوراه ومقعد استاذ في الجامعة . وهكذا تتوارث الاجيال منطق الخرافة في علم جديد .

بينما تفخر الامم بمفكريها وتوليهم المكان اللائق بهم لانها تدرك يقينا ان لاسبيل الى الرقي الا بهذه العقول النيرة، وان امانة العلم لاتقل عن امانة الدين والحياة وهكذا بنت مجتمعات نظم تعليمها على النزاهة والاخلاق والحق والتجرد .

 

وعندما تتقصى الحقيقة، فانك تستنجد بما يسمى بالسلطة الرابعة - الاعلام - ورغم تعدد السلطات وكثرتها امام ضعف الانسان وبؤسه، فان الاعلام يذكي نار الفتنة في بعض المجتمعات وينشئ خطابا مسموما ويزور لك كل الحقائق ويطلق لك اعلى الاصوات ايمانا منه بان النهيق هواللغة الوحيدة المفهومة، وانه اجمل ما يطرب اليوم، وتضطر اخيرا الى سماع اخبارك من اذاعات عدوك حتى وان كانت كلها زيفا، وقد تستخدم فضائياتك اسلوب العهر الاعلامي سعيا وراء انتشارها بكل الطرق والوسائل وانت لاتعلم ان هذه الرسائل البصرية المسموعة البسيطة خطيرة في اساليبها، ومؤثرة في مغزاهاعلى قيم وسلوك المجتمع حاضرا ومستقبلا . وفي نهاية المطاف لاتجد نفسك الا محاطا بسلسلة اكاذيب يحولها لك الاعلام الى حقائق .

بينما الاعلام في مجتمعات اخرى، يدعو الى الفضيلة والى اشاعة قيم الخير عبر برامج المعرفة والتوعية والارشاد، ويوضح دور الفرد في المجتمع ويبين حقوقه وواجباته امام الله وبني جنسه وبقية الكائنات.

وعندما تعيش في مجتمع متمدن فانك تلمس ان هناك حقوق وواجبات وان جميع من حولك يقدم لك العون والرعاية ليس بسبب دينك او لونك او رايك او حزبك وانما لكونك انسان اودعك الهم امانته في هذه الحياة وتحمل كينونة انسانيتك، عندها فقط تعلم كم هو دورك فاعل فيه ومؤثر، وقد اثبتت الدراسات والبحوث النفسية والاجتماعية، ان البيئة الصالحة وحدها الكفيلة ببناء مواطنة صالحة، بينما لاتبنى البيئة السيئة الا سيئا . وكانسان في مثل هذه البيئات فانك لاتشعر ان احدا يرعاك او يقدم لك خدمة بل ان جميع من حولك يعتدون عليك وينهشون فيك ليس لذنب ارتكبته وانما كونك تعيش وسط ذئاب.

 

وفي الادارة والثقافة والاقتصاد وكل مجالات الحياة انظمة وحقوق وواجبات، تسعى الامم الى تنظيمها من اجل استقرار مجتمعاتها بينما هي في مجتمعات اخرى تعاني الخراب عندما يسطو الكبار على حقوق الصغار وينهب المال العام تحت ذرائع شتى اولها الايمان واخرها الاحسان .

ويجهل الجاهلون ان اكبر ظلم للانسان هو ظلم النفس عندما يستولي الانسان على حقوق الانسان

 

مجتمعات تبني اركان الحياة وتعمر الاوطان وتسعد الانسان، لاشك ان ثقافة المحبة .

واخرى تتهدم بها الحياة وتتدمرفيها الاوطان ويسحق الانسان ويعم الفساد، لاشك انها ثقافة الخراب .

 

أ.د إياد الحسيني

استاذ فلسفة التصميم

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1100  الاثنين 06/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم