قضايا وآراء

المـولى إدريس بن عبد الله .. قائد لم ينصف وتاريخ لم يكتب (2)

فليس إلا من تأثير الصورة النمطية التي يحملها عن التشيع. وهي الصورة التقليدية السائدة عند أغيارهم. وذلك لأن أدلته ليست متينة من حيث أن شهادة أبي الفرج الأصفهاني بحسن مذهبه، لا تفيد خصوص السنة. فأولا، لم يكن مذهب أهل السنة بالمعنى الصناعي للعبارة قائما في زمن إدريس الأكبر كما ذكرنا. حتى أنه كان من الصعوبة أن ننسب شخصا لمذهب التشيع أو التسنن يومئذ إلا من خلال مواقفه السياسية والولائية العامة وليس الفقهية. أي يمكن أن يكون بعض المحسوبين على السنة ممن شاركوا الشيعة في الكثير من عقائدهم وفروعهم أيضا. ناهيك عن أن حسن المذهب في مثل هذه الحالة هو عام فضفاض فيه من التسامح في مقام المدح والتعديل. والشيعة تقول الكلام نفسه عن أصحابها. وأبو الفرج الأصفهاني لا سيما في مقاتل الطالبيين هو إلى التشيع أنسب منه إلى التسنن.. فالتنوخي يؤكد على شيعيته حينما يقول: «ومن المتشيعين الذين شاهدناهم أبو الفرج الأصبهاني". والذهبي في ميزان الاعتدال يصفه بأنه الأموي، صاحب كتاب الأغاني،" شيعي، وهذا نادر في أموي، كان إليه المنتهى في معرفة الأخبار وأيام الناس، والشعر، والغناء والمحاضرات.يأتي بأعاجيب بحدثنا وأخبرنا".

وقد كان صاحبا للوزير المهلبي وزير معز الدولة البويهي منقطعا إليه حسب الثعالبي في يتيمة الدهر حتى قبل استوزاره. ويؤكد على المسألة نفسها أغا بزرك الطهراني في «الذريعة إلى تصانيف الشيعة» أنه قال متغزلاً:

 أنت - يا ذا الخال في الوجنة - مما بي خالي

لا تبالي بي ولا تخطرني منك ببال

لا ولا تفكر في حالي وقد تعرف حالي!

أنا في الناس إمامي وفي حبك غالي!

فهو يتشيع في الأبيات إلى الأمويين، ولعل هذا يرجع إلى أنه كان من سلالة الأمويين وورث التشيع عن أسرة أمه، وكانت من الرافضة أو الزيدية، كما أن الفترة التي قضاها أبو الفرج في الكوفة زادت في شعوره نحو الشيعة والتحمس لهم. وظهر أثر هذا التشيع واضحاً في كتاب "مقاتل الطالبيين". ولذا وصفه الحافظ بن الجوزي في المنتظم وهو من أقطاب السنة بأنه "كان يتشيّع ومثله لا يوثق بروايته، فإنّه يصرّح في كتبه بما يوجب عليه الفسق, وتُهّون شرب الخمر وربّما حكى ذلك عن نفسه ومن تأمّل كتاب الأغاني رأى كل قبيح ومنكر". أقول: هذا رأي أعلام السنة الكبار في أبي الفرج الأصفهاني تمتد من الذهبي والخطيب البغدادي وابن تيمية وابن الجوزي إلى آخر أعلامهم. وهم من خلال مقاتل الطالبيين وكتاب الأغاني فسقوه واعتبروه فاسد المذهب ومن أهل الأهواء، فكيف يجعله علال الفاسي شاهدا على حسن مذهب غيره، ومن يقول أن حسن المذهب عند الأصفهاني يعني به السنة؟ هذا مع أنني لا أثق في أحكام أولئك الأعلام في حق الأصفهاني الأديب، وما نقموا عليه إلاّ لأنه فضح تاريخا أريد له أن يكون طهرانيا فيما هو في واقع الأمر تاريخ مجون بامتياز كما صوره الأصفهاني من خلال كتاب الأغاني، وهو أيضا تاريخ مقاتل ومحن ودموع واستبداد كما صوره الأصفهاني من خلال كتاب " مقاتل الطالبيين ".

ولمزيد من التوضيح أقول: إن وصف الأصفهاني ليحيى بحسن المذهب لا يقصد منه الوصف المذهبي الذي يعبر عن المتخيل النمطي للثقافة الطائفية. فمثلا نجد الأصفهاني في مفتتح مقاتل الطالبيين يقول:" ومقتصرون في ذكر أخبارهم على من كان محمود الطريقة، سديد المذهب، لا من كان بخلاف ذلك، أو عدل عن سبيل أهله ومذاهب أسلافه، أو كان خروجه على سبيل عيث وإفساد".

ولو كان مقصوده بسداد المذهب ومحمودية الطريقة هي الكون على مذهب السنة والجماعة، إذن لبان ذلك في أسانيده حيث اعتمد على رواة شيعة. فمثلا وجدنا أن الأصفهاني الذي اعتبر نفسه لا يروي في مقاتله إلا عن من كان سديد ومحمود المذهب وحسنه كما وصف يحيى بالوصف نفسه، يروي عن أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة الحافظ أبو العباس، محدث الكوفة. وهو الرجل الذي ترجم له الذهبي في ميزان الاعتدال على أنه "شيعي متوسط". وقال عنه أنه ضعفه غير واحد، وقواه آخرون. قال ابن عدى: صاحب معرفة وحفظ وتقدم في الصنعة. رأيت مشايخ بغداد يسيئون الثناء عليه، ثم قوى ابن عدى أمره، وقال: لولا أني شرطت أن أذكر كل من تكلم فيه - يعنى ولا أحابى - لم أذكره للفضل الذى كان فيه من الفضل والمعرفة، ثم لم يسبق ابن عدى له شيئا منكرا. وروى حمزة بن محمد بن طاهر عن الدارقطني، قال: كان رجل سوء، يشير إلى الرفض. قال أبو عمر بن حيويه: كان ابن عقدة يملى مثالب الصحابة - أو قال: مثالب / الشيخين - فتركت حديثه. وقال ابن عدى: رأيت فيه مجازفات، حتى كان يقول: حدثتني فلانة، قالت: هذا كتاب فلان قرأت فيه: قال: حدثنا فلان - قال: وكان مقدما في الشيعة14.

ولم يلتفت علال الفاسي إلى أن الأصفهاني في ذيل الوصف إياه بحسن المذهب، ذكر أن يحيى روى عن جعفر الصادق وهو إمام الشيعة الجعفرية. كما روى عن أبان بن تغلب من أصحاب الإمام الصادق وقد وصفه الذهبي في ميزان الاعتدال بأنه شيعي جلد. يقول الأصفهاني عن يحيى:" وقد روى الحديث وأكثر الرواية عن جعفر بن محمد. وروى عن أبيه، وعن أخيه محمد، وعن أبان بن تغلب". وقد ربّاه الإمام الصادق، فكيف يقال ما يقال. علما أنّ من ربّاه الإمام الصادق لا يمكن أن تكون حركته في غفلة عنه. وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الإمام جعفر الصادق كان الزعيم الروحي لحركة العلويين ولحركة يحيى وإدريس. يقول الأصفهاني عن هذه الصلة بين يحيى وجعفر الصادق:" حدثنا علي بن العباس، قال: حدثنا الحسن بن علي بن هاشم، قال: حدثني علي بن حسان عن عمه عبد الرحمن بن كثير، قال: كان جعفر بن محمد قد ربى يحيى بن عبد الله بن الحسن، فكان يحيى يسميه حبيبي، وكان إذا حدث عنه قال: حدثني حبيبي جعفر بن محمد"15.

هذا بالنسبة لشهادة أبي الفرج التي استدل بها الأستاذ علال الفاسي على سنية إدريس بن عبد الله. أما ما يتعلق بقيام مالك بن أنس لأخيه يحيى وبيعته له، فهذا أيضا لا يكفي دليلا ما دام أن له نظائر من مواقف مالك بن أنس رحمه الله. فلقد كانت له مواقف شبيهة مع الإمام جعفر بن محمد الصادق الإمام الشيعي. وقد كان دأب مالك مخالفا لهذا الادعاء، فمن جهة كان صاحب توازنات. وهو الذي بعث برسالة النصيحة إلى هارون الرشيد ويحيى البرمكي اللذان سمّا إدريس بن عبد الله وحاربا يحيى أخاه أيضا، بعد ذلك. وتحدث فيها مالك عن كل صغيرة وكبيرة فيما يعد من السياسة الشرعية والأخلاق الشخصية وتفاصيل الفروع ولم يحدثه عن المقاتل ولا نهاه عما كان يقترفه هذا الأخير في حق العلويين. حيث موقف إدريس من هارون هو نفسه موقف يحيى أخيه من هارون. ولا عليك من هذا الدليل، فمنحى مالك التوازني الغارق في التقية أيضا لا يخفى، فضلا عن أنه كان ـ رغم هواه الأموي ـ ميّالا محبا لأهل البيت. بل لعله أوضح سبب هذا الميل حتى وإن كان من هؤلاء من خالفه الرأي والمعتقد. وهذا حاله مع الإمام جعفر الصادق إذ على الرغم من المودة التي كانت بينهما وتتلمذه عليه ومدحه إياه وتفضيل علمه عليه، سلك مسلكا فقهيا وكلاميا وغن اشترك معه في بعض الفروع الا انه خالفه في أمور ليس ها هنا محل تفصيلها. لكنه ورد عليه تبجيل وتوقير أهل البيت مهما كانت آراؤهم، ولو على طريق الاعتزال فرضا. وثمة حكاية طريفة يوردها الشبلنجي الشافعي في نور الأبصار نقلا عن الشيخ عبد الرحمن الأجهوري المالكي عن المغربي الذي عزم عليه التوجه إلى الحج بمائة دينار، طالبا منه أن يسأل فور وصوله إلى المدينة عن أحد من الأشراف يدفعها له قربة وطمعا في الوصل مع جدّه.فلما وصل المبعوث إلى المدينة سأل عن الأشراف، فقيل له: إن نسبهم صحيح غير أنهم شيعة. فكره المبعوث أن يدفع لهم ذلك المبلغ. ولما جلس إليه أحدهم وعلم منه أنه شيعي قال له: لو كنت من أهل السنة لدفعت إليك مبلغا عندي. فشكا الشيعي فاقته وشدّة حاجته وأصرّ على الرجل أن يعطيه بعضا منها لكن عبثا. يقول الراوي: لمّا نمت تلك الليلة رأيت أن القيامة قد قامت، والناس يجوزون على الصراط، فأردت أن أجوز، فأمرت فاطمة بمنعي، فمنعت، فصرت أستغيث فلم أجد مغيثا حتى أقبل رسول الله (ص) فاستغثت به وقلت: يا رسول الله، فاطمة منعتني الجواز على الصراط، فالتفت إليها وقال: لم منعت هذا، فقالت: لأنه منع ولدي رزقه، قال: فالتفت (ص)وقال: قد قالت إنك منعت ولدها رزقه، فقلت: والله يا رسول الله ما منعته إلاّ لأنه يسبّ الشيخين، قال: فالتفتت فاطمة وقالت لهما: أتؤاخذان ولدي بذلك؟ فقالا: لا، بل سامحناه بذلك. قال: فالتفتت إلي وقالت: فما دخلك بين ولدي وبين الشيخين؟ فانتبهت فزعا، فأخذت المبلغ ودفعته إلى الشريف. 16.

قلت هذا هو منحى مالك بن أنس رحمه الله في توقير واحترام أهل البيت مهما كان أمرهم. يؤكد ذلك ما ورد عن مالك في حق جعفر بن سليمان الذي ضربه حتى غشي عليه، فقال مالك: أشهدكم أنّي قد جعلت ضاربي في حلّ، فقيل لم؟ قال: خفت أن أموت فألقى رسول الله (ص) فأستحي أن يدخل أحد من آله النار بسببي. وكذلك قال للمنصور لمّا عزم هذا الأخير على الانتقام لمالك من جعفر17.

وكان إدريس الثاني قد عيّن عامر بن محمد بن سعيد القيسي قاضيا. وقد اختاره من بين جملة الوفود التي جاءته من أفريقيا والأندلس. وما يميز عامر بن محمد هو ما كان يتمتع به هذا الأخير من صلاح وورع وعلم، فقد كان ممن سمع من مالك وسفيان الثوري، وكان يقضي على مذهب مالك18.

بعد هذا ليس لعلال الفاسي أن يستدل بالدليل أعلاه. وقد علمت كيف أن دأب مالك أن يقف إجلالا لأهل البيت حتى لو كانوا يخالفونه المذهب للنكتة التي جئنا على ذكرها في المقام.

 وهناك من المؤرخين المغاربة من ناقضوا بصراحة هذا التغليط في حق ما كان يدين به إدريس بن عبد الله. لأننا حقيقة لم نرد أن نسمو في مقاربتنا إلى شموخ التجربة الإدريسية وتعقيداتها، كي ندرك أننا أمام حركة ناضجة لقيادي علوي استطاع أن يحتوي كل الاختلاف الحاصل على صعيد المذاهب الكلامية والتركيز على المحتوى الأساسي والمجمل الذي كان محوره الدعوة لقيادة أهل البيت كضامن لاستمرار الدعوة والدولة. فهل سيكون انفتاح إدريس على المذاهب الاعتزالية والسنية وغيرها مما لم يكن مطية لتخريب الدولة دليلا على أنه كان منتميا لها؟ هذا التبسيط يرده مؤرخ مغربي هو إبراهبم حركات بقوله: " إذا كان إدريس الأول ومن خلفه سنيين، فإنه لا يوجد أي نص أو رواية تاريخية تثبت أنهم دعوا إلى مذهب مالك رسميا ولا أن مؤسس الدولة الإدريسية أخذ بالمذهب المالكي. وعلى العكس من ذلك فلا غرابة مطلقا في أن يكون الأدارسة شيعيين وهم جاؤوا بالذات إلى المغرب لا مجرد لاجئين بل لتأسيس دولة من سلالة البيت النبوي"19.

ومثل هذا نجده عند كل من أرّخ لدولة الأدارسة بحياد وموضوعية. حتى أن باحثا مثل د. سعدون عباس نصر الله يوقل متعجّبا في كتابه (دولة الأدارسة في المغرب):" ومما يثير الاستغراب أن الأدارسة كانوا علويين شيعة والقضاء في دولتهم على المذهب المالكي، لقد كان الأئمة الأدارسة يعتبرون أنفسهم أئمة المسلمين بصرف النظر عن هوياتهم المذهبية إذ كانوا يؤمنون بالإسلام بدون مذاهب..."20 .

إنني أعتقد أنه إذا غمّ علينا الموضوع ولم نجد بين أيدينا ما يصلح وثيقة دالّة على ذلك، أن نتتبع حركة إدريس بن عبد الله من المشرق وصولا إلى المغرب. ثم نقرأ المطالب التي تضمنتها أجندة الحركة العلوية التي كان إدريس أحد رموزها وأخ شهيد من شهدائها الذين كان من المتوقع أن تعقد له البيعة على أنقاض دولة بني العباس؛ أعني محمد بن عبد الله. لنقرأ في الخلفية السياسية والعقدية لمعركة فخ والأدب الذي خلفته الواقعة المذكورة تعبيراتها ورموزها. فالتاريخ ليس أحجية بل تأمل وتحقيق. إذا كانت حجة من أنكر شيعية إدريس ابن عبد الله المتجلية كالشمس في رائعة النهار لمجرد أنه لم يذكر الوصية، فإنني أذكر هؤلاء بأن خطبته ذات النفس السياسي المتفهم للبيئة المستقبلة والمجال الجديد أيضا لم تحضر فيها الشعارات العلوية التي كانت ترفع بشكل جليّ في المشرق. مقارنة بسيطة بين إدريس وأخيه يحيى مثلا من نفس التنظيم العلوي والثقافة الشيعية تكشف عن أن السياسة كانت تحدد نوعية الخطاب. إن أئمة أهل البيت وقيادات الحركة العلوية اكتفوا منذ فخ بقبول الحد الأدنى من الولاء، وفي كثير من الأحيان قبلوا بالموجود حتى لا يعرضوا أنفسهم للمخاطر المحدقة. ولست أدري ما هو نوع الوثائق التي يجب الاستناد عليها لإثبات شيعية إدريس بن عبد الله أكثر مما في يدنا. المشكلة هنا أننا لا زلنا مدينين لخلط غير مبرر بين المعتزلة والزيدية كما لا زلنا مدينين لتفريق متعسف بين رموز الحركة العلوية. وإذا كان من المستبعد نسبة إدريس وأبيه عبد الله الكامل ولا حتى زيد بن علي إلى الاعتزال، لأسباب لا تحتاج إلى تكلّف في التّأويل لشدّة وضوحها، فإننا نرى أن زيدا نفسه أكد على إمامة جعفر الصادق وأشار إليه بوصفه الحجة. وهذا كافي لتعيين معنى الإمامة بالاصطلاح الشيعي. فهو القائل عن ابن أخيه: " في كل زمان رجل منا أهل البيت يحتج الله به على خلقه، وحجة زماننا ابن أخي جعفر لا يضل من تبعه ولا يهتدي من خالفه"21.

إن وقفة سريعة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك تشيع الزيدية الكامل بخلاف ما حاول محمود إسماعيل البناء على شروح كتاب الملل والنحل من مخالفيهم أو حتى متأخري الزيود، من أن المسألة تتعلق بالحل والعقد وتقديم المفضول على الفاضل. فذلك لم يحدث في التاريخ قط حيث خصوم الإمامية أنفسهم وقعوا في منطق الوصية والتوريث بعد أن نقضوهما. هذا ناهيك عن أن المراد بالإمامة هنا الحجة التي هي أبعد مدى وأوسع من مدلولها السياسي الذي هو مختلف موضوعا عن ذلك. فوجود حجة في كل زمان يحتج به الله على خلقه تلخص المضمون الإمامي كله وتنطوي على تفاصيله الكلامية كلها. وليس أدل على ذلك من أمر الحسين زعيم معركة فخ التي لم ينج منها سوى إدريس وأخيه يحيى؛ ذاك اتجه ناحية طبرستان وهذا اتجه إلى المغرب الأقصى. فقد طلب الحسين صاحب فخّ من بني هاشم ذات مرّة أن يجتمعوا، فدعى عبد الله بن الحسن الأفطس أن يؤذّن المؤذّن ويذكر: حيّ على خير العمل، وهي مسقوطة من الآذان الذي ورد عن الرسول (ص). حينئذ قام الحسين بن علي خطيبا قائلا:" أيها الناس أتطلبون آثار رسول الله في الحجر السعود وتتمسحون بذلك وتضعون بضعة منه؟ فأقبل الناس على مبايعته على كتاب الله وسنة نبيه للمرتضى من آل محمد"22.

 إننا لم نجد إدريس يحدّث المغاربة بذلك رغم إيمانه به ورغم أن" حي على خير العمل" كانت شعار العلويين في ثورتهم ضد العباسيين. وهي تحيل كما رأينا مع الحسين إلى مقطع من الآذان الشرعي السني الذي تم التخلي عنه بلا دليل. وللفاطميين حكاية أخرى مع مقطع "حي على خير العمل" لسنا في واردها هنا23. ومما يؤكد على شيعية الزيود وتبنيهم لمذهبه في الأصول والفروع، ما دلّ عليه الخبر الذي أورده ابن كثير في مورد غسل الرجلين والخلاف حول مفاد الآية ما بين قائل بالغسل وقائل بالمسح. فقد أورد ابن كثير في معرض الآية الكريمة (وامسحوا برؤسكم وأرجلكم) من تفسيره، وجهات النظر المختلفة. حيث رجّح الغسل مستدلاّ بخطبة للحجاج بن يوسف الثقفي.واستطرادا أورد بن كثير قصة عن أصحاب زيد بن علي (رض) قال: " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا إسماعيل ابن موسى أخبرنا شريك عن يحيى بن الحرث التيمي يعني الخابر قال نظرت في قتلى أصحاب زيد فوجدت الكعب فوق ظهر القدم وهده عقوبة عوقب بها الشيعة بعد قتلهم تنكيلا بهم في مخالفتهم الحق وإصرارهم عليه وهكذا قتلوا في المعركة ومسخت جثتهم"، حيث انقلبت أكعابهم إلى ظهر الرجل24.

يؤكّد هذا أن الزيود في تصنيف القدامى هم شيعة روافض كانوا على اعتقاد الجعفرية في الفروع والأصول. فيفترض بهذا المعنى أن جيش زيد أو الحسين الفخّي أو يحيى أو إدريس بن عبد الله تنطبق عليهم حكاية ابن كثير تلك، فهم بهذا المعنى شيعة روافض.

إن علاقة زيد والحسين ويحيى وحوادث من ثورة زيد وفخ مع أئمة أهل البيت كالصادق وابنه الكاظم وإبنه الرضا وأيضا الجواد تؤكد على وحدة الدعوة والمصير وتكامل المسار لا يفرق بينهم سوى متعمل فاسد التأويل. يقول الإمام الكاظم:"لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخ"25. وقال الإمام الرضا أيضا:" ادريس بن عبد الله الكامل من شجعان أهل البيت وساداتهم ووجهائهم وله فضل كبير في نشر الدين والعلم في المغرب"26

كما ذكرت قبل قليل أن الإحالة على الخلفية السياسية والتاريخية لحركة إدريس بن عبد الله وحدها تضعنا في الطريق الصحيح. وهذا ما فعله كل من أرخ لهذه الدولة، آخرهم صاحب الاستقصا، حينما يعود بالقضية إلى أول نزاع في الإسلام حول من هو حقيق بخلافة الرسول (ص). ويبدو من صيرورة الأحداث أن ثورة العلويين على حلفائهم بني العباس الغادرين بدعوتهم، هي استمرار لهذا المطلب التاريخي كما لا يخفى. إن ثورة العلويين على العباسيين تقع في سياق ارتداد بني العباس عن دعوة شاركوا جميعا لتحقيقها كما جسدها شعار ثورتهم ضدّ دولة بني أمية: الرضا من آل محمد. والحق أن هذا الإجمال الذي اقتضته صيرورة المعركة الشرسة التي ستنتهي بالإطاحة بدولة الأمويين، هو ما جعل العباسيين يطمعون بها ثم ينقلبون على حلفائهم شر انقلاب. صاحب الاستقصا لما يشرح الحوادث السابقة سرعان ما يدخلنا في التصميم المذهبي المعتاد، هربا من شيعية إدريس ابن عبد الله وتعويضها بغيرها في حالة هروبية واضحة ومفضوحة.

وأما رد القول بشيعية إدريس لأنه لم يكن شيعيا على الطريقة الإيرانية، فهو تغليط آخر، وتبلّد في الفهم والاستيعاب. المغالطة التاريخية هنا دفعتها مرارا وتكرار بأن التشيع المغربي سابق في الزمان على التشيع الإيراني. ولأنني كرّرت مرارا أنني أتحدث عن مرحلة من التشيع قبل أن يدخل التشيع إلى فارس وفي مرحلة كان التشيع فيها على مستوى معين من التطور، لأنه في زمن لم يكتمل فيه نصاب الأئمة الإثني عشر ولم تنكشف تعاليمهم وبيانهم كله حيث كانت تتناسب مع كل مرحلة وتتصل بظروف وموضوعات خاصة. وقد ذكرت شهادة بعض من هؤلاء الأئمة الإثنا عشر في حق الإدريسين الأول والثاني. فهذا كلامي كيف يردّ عليّ: ألا يحسنون القراءة؟! وأما القول إنه كان تشيعا لا يتجاوز كونه تمردا على الأمويين، فإن مرددي هذا الكلام لم يقفوا عند حديثي عن بعض الحقائق التي تتعدى هذه الأحكام التي نعرفها قبلهم وجيّدا، لكننا لم نقبل بها لسذاجتها وتكلّفها. لأن التشيع ليس مجرد محاربة الأمويين. فلقد فعلها العباسيون وهم من بني هاشم فلم يعتبر تشيعهم. وكثيرون حاربوا الأمويين أوالعباسيين من أمثال أبي حنيفة ولم يعتبروا شيعة. لكن البعض يرى أن تشيع اليوم احتضنه الفرس وأضفوا عليه سبغة مشتقة من العقلية الفارسية ممزوجا بالتصوف الفارسي وما إليها من محفوظات الأسطوانة المشروخة ـ ونسوا أن الجنيد هو نفسه من أصول فارسية/تركية من نهاوند بهمدان. وأن أبا الحسن علي بن هند القرشي أحد أبرز علماء بلاد فارس هو أحد أفضل أصحاب الجنيد ـ والغزالي خراساني حتى النخاع ولم تمتد فارسيتهم إلى التسنن: كما لو أن تأثير الفارسية لا يجوز إلاّ على التشيع لا التسنن. وتفريس التشّيع كلام ينقله بعض المغرضين وأحيانا بعض المقلدين القشريين محفوظا من دون إعمال عقل وروية. وما يخفى على المغالط الذي يبدو أنه يجهل التاريخ جهلا فاضحا، أن تشيع اليوم هو تشيع عربي بامتياز. وحسبي أن أذكر بأن هذا التشيع بحذافيره انتقل إلى فارس الصفوية المتشيّعة بفضل العرب. وليس ثمة من زائد سوى مظاهر الاحتفال وهو معروف وله حدوده التي يدركها العلماء الشيعة الذين يميزون بين المظاهر الاحتفالية والشعبية وبين الآراء العلمية. فالولاية والوصية لعلي أثبتها ابن خلدون في حقّ الصحابي الجليل عمار بن ياسر. غير أن المدعي يحاكم التراث العلمي الشيعي من خلال الطقوس الشعبية التي يتفرج عليها من التلفزيون مثل باقي العوام وليس من مجالس العلم والنخب ومن المظان العلمية وما استقر عليه اجماع واعتراف المدرسة. وكان من المفترض أن لا ننسى بأن التسنن الشعبي هو أيضا أفرز طقوسه الشعبية والفولكلورية. ومع ذلك لا أحد يعتبر أن التسنن هو ما نجده في المواسم والاحتفالات والطقوس الشعبية. تعريف التشيع من خلال المظاهر الاحتفالية الفولكلورية مغالطة أشبه بأن نعرف التسنن من خلال طقوس موسم بويا عمر أو سيدي علي بن حمدوش أو سيدي الهادي بن عيسى. وعجبا كيف تضخّم العدسة من حفنة من المطبرين وهم في كل مسيرات الاحتفال الشيعي العاشورائي لا يزيدون على رؤوس الأصابع وبالضغط على الـ "zoom" ليبدو للمغفلين وكأنّ المشهد كله دم في دم. دون أن يعلموا أن الكثير من الممارسات الشعبية هي غير معتبرة في الفقه الشيعي ولا يندب إليها ولا حتى تعتبر من الشعائر. ولكن ديمقراطية الشيعة لا تمنع بالحديد والنار ما يتشبت به العوام. ماذا لو استعملنا لعبة الـ"zoom" على عينات وبؤر في إحدى مسيرات سيدي علي بن حمدوش وما شابه، ثم يسمح الضمير الفاسد لنقول هذه طقوس السنة؟! وهي كما لا يخفى لو قورنت بالفولكلور الشيعي تجدها غارقة في المفارقة. فأن يلطم الشيعي على صدره تعبيرا عن الحزن في حق حادثة تاريخية حقيقية أمر آخر عمّن يفترس الأكباش بأمعائها وصوفها في مناسبة المولد النبوي. لكنني لا أدري كيف يكون التسنن الفارسي غير متلبس بالعقلية الإيرانية فيما نقبل بأن يكون التشيع الفارسي هو خليط من تلك التصورات. وهل كان ابو حامد الغزّالي الخرساني الفارسي رائد السنة فقها وأصولا وكلاما وتصوفا يحمل من أثر إيرانيته هذا القدر. وكذا سائر الفرس من بنات السنة ومأصّلي علومها. وقد جاء التشيّع متأخرا عن السنة في إيران وبنى عليها. فالصفويون والايرانيون هم متشيّعون بفضل الشيعة العرب الذين أسسوا في العصر الصفوي لهذه العلوم وجمعوا الأخبار ودوّنوها وأصّلوا الأصول. فهم قبل أن يكونوا شيعة كانوا سنة. فهل إنهم لمجرد أن تشيعوا عادوا الى ما قبل التسنن؟! تاريخ تشيع إيران الصفوية أعقد من هذا التوصيف الساذج المكرور الذي يزيف الحقائق وتتشقلب عنده الأزمنة التاريخية. لقد أوضحت من القرائن ما يكفي لإثبات شيعية ادريس ابن عبد الله، غير أن البعض فضّل النطّ والإغضاء عن النصّ كاملا. وهكذا نحلل حوادث تاريخية بوعي لاتاريخي حينما نفسر بعض مفاصل الصراع بين الفاطميين وبقايا دولة الأدارسة انطلاقا من خلاف عقائدي. أليس أقرب للنزاع السياسي ذلك الخلاف منه إلى الخلافات العقائدية ذات الوظيفة السياسية. وكيف قبلنا أن يكون الخلاف هنا عقائدي ليس سياسيا ثم نقبل أن نختزل التشيع الإدريسي في مجرد ولاء سياسي. فالمقاربة السياسية تحضر حينما نريد ووجب أن تغيب حينما نريد. إننا نمسك العصى من الوسط ونعلنها ببهلوانية: بائي تجرّ وباؤك لا تجرّ. قد تملك إقناعي بأن المغرب ليس شيعيا بالمعنى المذهبي للعبارة. لكن بما أنك لا تملك أن تنفي أن ادريس بن عبد الله هو شيعي ولو بالمعنى السياسي، فإن ما لا تملك اقناع العامة به قبل اقناعي، هو أن المغرب مهما ادعى من سنيته هو على تشيع سياسي وثقافي، تماما كالصورة التي لا يملك أن ينكرها من أخرج ادريس من التشيع المذهبي المتأخر إلى التشيع السياسي المقبول. انظر هنا، ففي منتهى ما يمكن فعله، وجب الاعتراف أن التشيع برسم السياسة والولاء العام وما شابه لا يملك أحد نكرانه عن هذا البلد. فإذا أدركت ذلك، لم يبق أمام تكلف المتكلفين بنكران شيعية إدريس بن عبد الله ما يدعوا للاعتبار.لأننا قلنا وكررنا حتى بححنا أن ليس التشيع إلاّ الحب المميز حدّ الولاء لأهل البيت (ع). وما عدا هذا الجوهر هي أمور المعول فيها على الدليل وليس إلاّ الدليل. وإنّ إنكار شيعية إدريس بن عبد الله، بعد الذي ذكرنا، دونه خرط القتاد.

 

إدريس هاني

[email protected]

.......................

هوامش

 1 ـ عبد الله العروي: مجمل تاريخ المغرب، ص 151 ط 2 ـ 2004، المركز الثقافي العربي/ بيروت

2 ـ انساب العترة الطاهرة لبيب بيضون ص94 ـ 95مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت ط1 ـ 2004م.

3 ـ انظر المنوني ادريس جماعي ص 69

4 ـ حسن الأمين: دائرة المعارف الإسلامية، ص 7 ج1، دار التعارف، بيروت

  5 ـ المصدر نفسه، ج1 ص 63

6 ـ ابن شهرآشوب:مناقب آل أبي طالب، ص 147ج 2، تحقيق محمد باقر البهبودي، 1992، دار الأضواء/بيروت

7 ـ تاريخ ابن خلدون، ص 614 ج 7 دار الكتب العلمية ط 1 ـ 1992 بيروت

8 ـ أبو الفرج الأصبهاني، مقاتل الطالبيين ج1 ص 51، انظر موقع الوراق

9 ـ محمود إسماعيل: الأدارسة: حقائق جديدة، ص 48، ط1 ـ 1991، مكتبة مدبولي، القاهرة

 10 ـ لم أقف على ما يدل في كتب المؤرخين على زيارة لإدريس بن عبد الله سابقة لأفريقيا أو المغرب قبل هجرته الأخيرة. وما أورده محمود إسماعيل هنا يحتاج إلى بعض التّأمل.

11 ـ انظر المنوني 64: الإمام إدريس مؤسس الدولة المغربية، ص 64، كتاب جماعي، مطبوعات الجمعية المغربية للتضامن الاسلامي، الرباط 1988، شركة بابل.

12 ـ محمود اسماعيل، المصدر نفسه، ص 49 ـ 58

13 ـ الإمام إدريس مؤسس الدولة المغربية، المصدر السابق، ص 24 ـ 25

  14 ـ الذهبي، ميزان الاعتدال، ج1، ص 136 ـ 137 ـ 138، انظر موقع يعسوب

 15 ـ أبو الفرج الأصبهاني: مقاتل الطالبيين، ج1 ص 122، انظر موقع الوراق

 16 ـ الشيخ الشبلنجي: نور الأبصار، ص 454 ـ 455، ج 1 ط1 انتشارات ذوي القربى، قم

17 ـ المصدر نفسه، ص 450

18 ـ سعدون عباس نصر الله: دولة الأدارسة في المغرب؛ العصر الذهبي، ص 125، ط1 ـ 1987، دار النهضة العربية، بيروت

19 ـ إبراهيم حركات: المغرب عبر التاريخ ص 121، ط1، دار السلمي 1965، الدار البيضاء

 20 ـ د. سعدون عباس نصر الله: دولة الأدارسة في المغرب؛ العصر الذّهبي، ص 126 دار النهضة العربية، بيروت، ط 1 ـ 1987م

21 ـ ابن شهر اشوب: المناقب ج2ص147، المصدر نفسه

22 ـ انظر الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ص 197 ج 8، دار التعارف، القاهرة 1968 وانظر مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني، ص 447، ط 1987، بيروت مؤسسة الأعلمي

23 ـ يذكر التفتزاني في حاشية شرح عضد الدين على المختصر في الأصول أن حيّ على خير العمل كانت على عهد الرسول (ص) وإنما أمر بالكفّ عنها عمر مخافة أن تثبط الناس عن الجهاد، انظر المذاهب الاسلامية الخمسة، كتاب جماعي، ص 43، ط1 ـ 1998، مركز الغدير، بيروت

24 ـ سورة المائدة (آية 28) ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وإنه لا بد منه، (تفسير القرآن العظيم الجزء الثاني لابن كثير) دار بيروت لبنان

25 ـ أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص 448

26 ـ انظر كتاب الأنوار في ذكر آل النبي المختار لمحمد الفيزازي، ص 55، دار الفرقان ط 1985 المغرب/الدار البيضاء

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1104  الجمعة  10/07/2009)

 

في المثقف اليوم