قضايا وآراء

قراءة في معلقة "حالة حصار" للشاعر محمود درويش (2)

 وكذلك على لسان المرأة الفلسطينية سواء أكانت حبيبة أو زوجة أو أختا.. فهذه المرأة تناجي الغيمة في  عليائها كي تظلل جسد حبيبها، لأن ثيابها مبللة بدمه، إن روح الشهيد تخترق السماء مخضبة بجرحها.. وإذ تخترق الروح الغيوم نحو العلى.. فإن الجسد النبيل يعتصركفنا من ريش الغيوم..

/ قالت امرأة للسحابة غطي حبيبي/ فان ثيابي مبللة بدمه../

 

تجد أم الشهيد كينونة شاملة في جسد ابنها الشهيد – فالأمومة سلطة أرضية.. ولكنها تتعالى لتغدو سماوية ومقدسة عندما يستشهد ابنها.. لذا يتحول كلامها إلى سلطة خارقة كسلطات الإله مردوخ عندما يقول للشيء كن فيكون في ملحمة الخليقة البابلية (عندما في العلى)، إنها (أي أم الشهيد) تتمنى على ابنها أن يكون مطرا أو شجرا أو قمرا.. فهي عاشقة له.. وهل هنالك أسمى من عشق الأم لابنها.. إن جسد الشهيد الفلسطيني يتشظى ليكون مطرا يغسل جسد فلسطين.. ويكون شجرا يمنح الظلال والثمار والخصوبة.. أو يكون حجرا ثمينا وثقيلا ومميتا يهوي على رؤوس  القتلة.. أو يكون قمرا ينير الظلمات الدامسة التي صنعها الصهاينة المارقون .. لتقطفه الحبيبة في نومها:-

/ إذا لم تكن مطرا يا حبيبي/ فكن شجرا/ مشبعا بالخصوبة/ كن شجرا/ وإن لم تكن شجرا يا حبيبي فكن حجرا/ مشبعا بالرطوبة/ كن حجرا/ وإن لم تكن حجرا يا حبيبي/ فكن قمرا/ في منام الحبيبة كن قمرا/ هكذا قالت امرأة لابنها في جنازته ".

 

الشهيد الفلسطيني يحاصر الشاعر في كل يوم جديد يعيشه/ وكأن الشاعر يتمثل روح الشهيد وجسده/ ترى إذا كان الشهيد قد قدم حياته ودمه قربانا لفلسطين/ ترى ما الذي سيقدمه الشاعر لها.. الكلمات؟!.. ولكن هل توازي الكلمات قطرة واحدة نزفها الشهيد، إنها معادلة صعبة تميل فيها الكفة أبدا لدم الشهيد.. فالكلام يتقزم أمام الدم.. وإذا كان من الصعب إرجاع الدم إلى شرايين الشهيد، فإنه من الصعوبة بمكان أن يعيد الشاعر كلماته للقواميس بالرغم من إحساسه بأن الكلام سيخسر أمام الشهادة فهو ليس إلا طنينا يخدش على النائمين صحوتهم العميقة:-

 

/ الشهيد يحاصرني كلما عشت يوما جديدا/ ويسألني: أين كنت؟ أعد للقواميس كل الكلام الذي أهديتنيه/ وخفف عن النائمين طنين الصدى/.

 

الشهيد الفلسطيني لا يبذخ دمه مجانا كما يصوره الإعلام المعادي، إنه إنسان يحب الحياة وله أحلامه وأهدافه الجميلة، له حبيبة يتمنى الزواج منها وإنجاب أطفالا لفلسطين.. لتستمر الحياة على أرضه ووطنه.. إلا أنه لم يستطع تحقيق ذلك لأن القتلة يحيطون به من كل الجهات يعدون عليه أنفاسه، هم يمارسون عليه العبودية والإهانة اليومية.. فماذا يفعل سوى أن يكسر هذا القيد ويروض القتلة ويعيد تأهيلهم كي يكونوا بشرا.. هم يقتلون من أجل شهوة القتل.. وهو يبذخ دمه اللازورد من أجل الحرية.. وشتان بين من يقتل لينشر العبودية ومن يستشهد ليصنع الحرية..

 

/ الشهيد يوضح لي، لم أفتش وراء المدى/ عن عذارى الخلود فإني أحب الحياة على الأرض/ بين الصنوبر والتين/ لكنني ما استطعت إليها سبيلا، ففتشت عنها بآخر ما أملك الدم في جسد اللازورد.

الشهيد الفلسطيني لا يجامل ولا يهادن.. ولا يريد بكاء ولا زغاريد.. ولا يريد نفاقا.. ولا تصفيقا.. ولا تأليها، الشهيد اختصر المسافة نحو الحرية.. وأمسك بالمجد من جانبيه:

/ الشهيد يحاصرني: لا تسر في الجنازة/ إلا إذا كنت تعرفني، لا أريد مجاملة من أحد.

الشهيد يحذر الشاعر بأن زغاريد النساء مكابرة تليق بعظمة الشعب الفلسطيني الذي يضع يده على جرحه ويستمر في الحياة، فالحقيقة.. مخبأة في عيون أبيه وهو يتلعثم باكيا أمام صورته.. حيث انقلب الزمن على عقبيه ليدفن الآباء الأبناء فأية معادلة مجنونة هذه:-

 

/ الشهيد يحذرني: لا تصدق زغاريدهن/ وصدّق أبي حين ينظر في صورتي باكيا: / كيف بدلت أدوارنا يا بني/ وسرت أمامي/ أنا أولا..، أنا أولا/..

 

تنوع حالات الحصار

حالات الحصار متنوعة في نص (محمود درويش)، ابتداء من العتبة فإنه (أي الشاعر) يضع ملفوظي (حالة حصار) ثريا للنص بأكمله.. والثريا موجه قرائي مهم يضيء متن النص.. ومقاطع النص تمثل حالات متنوعة للحصار وهي تمارس ضغطها الشديد على الشاعر.. والشعب الفلسطيني داخل أسوار الوطن.. وإذ يمسك الشاعر (درويش) بالزمكان الفلسطيني حاضرا فإنه لا يتوانى عن تمديده ليغدو هذا الزمكان الحاضر مطلقا يغطي الأمس فضلا عن المستقبل (غدا).. إلا أن الأمس معروف لأنه اجتاز حاضره ليغدو أمس.. إن استدعاء الأمس يستوجب الذاكرة فاضا طياتها وكاشفا عن أسرارها .. ولكن استدعاء المستقبل يستوجب خيالا باذخا فهذا يعني تشغيل قوى الخيال الإنساني لتعيد تشكيل الحاضر والماضي ببنائية جديدة وملهمة..

الشاعر (درويش) يؤلمه الأمس فما حدث هناك.. ولـّد الحصار بوصفه حاضرا ومعاناة غير عادية.. لذا فهو يتمنى أن يقذف بالأمس إلى المستقبل ليعيد صياغة الزمكان الحاضر.. وكأني بالشاعر يرى في الأجيال الطالعة خيرا وفيرا باستطاعتها صياغة الحاضر ليكون مغايرا لما هو عليه الآن: وهذا يعني أن الماضي حالة من حالات الحصار التي يعانيها الشاعر:-

/ كلما جاءني الأمس، قلت له: ليس موعدنا اليوم فلتبتعد/ وتعال غدا!

 

إن ذاكرة الشاعر تستدعي (الأمس)، وبالرغم من أن الأمس يزور الشاعر لا إراديا (جاءني الأمس) وكأن الأمس يريد أن يعيد نفسه للحياة.. إلا أن الشاعر يقمعه عن طريق القول (قلت له) والقول زمن يموت حال التلفظ به، فهو يتشاكل مع الحاضر وعمره بقدر عمر الحاضر، إذن فالشاعر يعيده لعدم آخر.. ولكنه عدم ما قبل الحياة (الحاضر) قائلا له (فلتبتعد/ وتعال غدا؟) وهذا لن يحدث إلا عن طريق الخيال.

اللحظة الحاضرة لحظة متحركة مولودة بالآن المعيش، وهي تمثل الشاعر وزمنه.. والحصار في اللحظة الحاضرة يمارس ضغطا آخر على الشاعر وزمنه الآتي.. حيث يلعب النرد.. ويقرأ جرائد الأمس الجريح! ويقرأ زوايا الحظ (يشي إلى المستقبل وهو مجهول) ولكن مهلا فالحصار ليس عقيما فله مواليده (مواليد برج الحصار) وهذا هو سر ابتسامة العام (2002) فلا أحد يدري ما سيفعل هؤلاء المواليد الجدد بجند الاحتلال:

 

/ نجد الوقت للتسلية: نلعب النرد، أو نتصفح أخبارنا في جرائد الأمس الجريح/ ونقرأ زاوية الحظ: في عام/ ألفين واثنين تبتسم الكاميرا/ لمواليد برج الحصار./

 

العتبات غير الوادعة

كل هذا يحدث وجنود الاحتلال يقفون عند (عتبات البيوت) وإذ يخترق هؤلاء الجند العتبات كافة ليصلوا عتبات البيوت بيوت الفلسطينيين فذلك يعني أنهم قد اخترقوا كل ما هو مقدس عند البشر.. فالعتبة (حسب مارسيا إلياد) هي الحد الفاصل بين عالمين عالم الغمر وهو عالم عدائي.. وعالم البيت وهو عالم آمن ووادع.. ويبعث الطمأنينة عند الشاعر وإذ يصرخ الشاعر بهؤلاء المتلصصين على حياته بالخروج من صباحاتها.. فإنما هي دعوة لعودة البيت لحالته الطبيعية وهي حالة الطمأنينة والأمن:-

/ نطمئن إلى أننا بشر مثلكم /

 

إلا أن الشاعر يرى هنالك نوعا آخر من الواقفين بعيدا عن عتبات البيوت أي (العتبات).. فهو يدعوهم للدخول إلى عالمه الآمن وشرب القهوة العربية.. وكأني بالشاعر يستلهم الآية الكريمة (ادخلوها بسلام آمنين)..

فالواقفون خارجا سيكون الخارج بالنسبة لهم عالما غير آمن.. أما الداخل فسيكون العالم الآمن.. وهو ما يعزز حقيقة أن الساكنين خلف العتبات (أية عتبات) هم بشر مسالمون وليسوا عدائيين بالمرة..

إن الشاعر درويش في هذا المقطع يبدي مقدرة عالية في توصيل أفكاره عن طريق استخدام الملفوظات استخداما مكينا وغير عادي.. وهذا ما لا تجده سوى عند كبار الشعراء وهم قلة نادرة.. ولكني مع ذلك أرى أن الشاعر يجد في اليهود (الواقفون) فئتين.. إحداهما مسالمة.. والأخرى عدائية.. لأن النص يبوح بشيء من هذا القبيل..

/ أيها الواقفون على العتبات ادخلوا/ واشربوا معنا القهوة العربية/ وقد تشعرون بأنكم بشر مثلنا/ أيها الواقفون على عتبات البيوت! أخرجوا من صباحاتنا/ نطمئن إلى  أننا بشر مثلكم!/

 

يبقى الحصار يمارس ضغطه على يوميات الشاعر/ حيث يبادرنا الشاعر في إحدى مقاطعه قائلا (أفكر)، فيتبادر إلى أذهاننا  كوجيتو ديكارت (أنا أفكر إذن أنا موجود) .. فالشاعر موجود بوصفه أنا وآخر وموجود أيضا وبوصفه (دازين) حسب هايدغز منذ عدة آلاف من السنين.. فوجوده ليس طارئا على هذه الأرض، وإنما يصل إلى لحظة عمقها الدايكروني (الزماني) رجوعا بما لا يقل عن ثمانية آلاف سنة، الفلسطيني موجود على أرضه  قبل مجيء سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى (يبوس).. إنه امتداد لذلك الرجل الذي يقف هناك على قمة التل منذ ثلاثة آلاف عام.. ولكن هل يعلم ذلك الرجل الفلسطيني القديم ما حل بأحفاده اليوم طبعا لا يعلم ذلك.. فالأرض التي عاش عليها وأنجب عليها سرقت في وضح النهار. وأبناؤه يقتلون ويشردون ويستبدلون بأناس آخرين.. إذن هذا هو السر الذي يجعل الشاعر يتألم ويجعله أكثر التصاقا بأرضه فللشاعر ذكرياته وتاريخا يشده إليه شدا. إن الشاعر يريد أن يقول لنا (أنا أتذكر.. إذن أنا موجود):-

/ أفكر/ من دون جدوى:/ بماذا يفكر من هو مثلي هناك/ على قمة التل/ منذ ثلاثة آلاف عام/ وفي هذه اللحظة العابرة؟/ فتوجعني الخاطرة/ وتنتعش الذاكرة/..

 

يكرر الشاعر في مقطع آخر عدائية الزمكان الحاضر ومطلقتيه.. وهو يدعو لتمطيطه (أي الزمكان الحاضر) عسى أن تخفّ وطأته قليلا .. بقسيمه الأول (الزمان) وبقسيمه الثاني المكان.. لعلهما ينظفان من أفعال البشر ليعود (الزمكان) أكثر أمنا وأقل وطأة:-

/ قليل من المطلق الأزرق اللانهائي/ يكفي لتخفيف وطأة هذا الزمان/ وتنظيف حمأة هذا المكان/..

 

إن الحصار وكما يصفه الشاعر يئد الزمكان الإنساني.. ليحل كل منهما محل الآخر.. فحالة الحصار ومعاناة الشاعر في ربوعها ما هي إلا فردوس في الجحيم، فالزمان يغدو مكانا ويتحول إلى الحالة المادية (تحجّر في أبده) بعد أن كان في حالته المجردة.. والمكان يصير زمانا معطلا وميتا فليس هو بلاحق أمسه ولا براجع إلى غده.. إذن فهي صيرورة مرعبة وغير طبيعية يتشظى إزاءها الإنسان بوصفه تمظهرا طبيعيا لفعاليات الزمان:-

/ في الحصار يصير الزمان مكانا/ تحجر في أبده/ في الحصار يصير المكان زمانا/ تخلف عن أمسه وغده/..

 

روح الشاعر

نوع آخر من الحصار يتبدى في مقاطع "درويش" بوصفها حالات متنوعة للحصار.. وهو نوع لا يرهق الشاعر بوصفه جسدا فقط.. بل يرهقه بوصفه روحا أيضا.. فالروح صنو الجسد الإنساني تنتشي بانتشائه وتحزن لحزنه،  وما يصيب جسد الشاعر يصيبها، إن صحا صحت وإن مرض مرضت.. إن روح الشاعر قد أصابها ما لا يطاق من جسده.. لذا فهو يدعوها كي تترجل لتمارس حياتها وصخبها وعنادها ووجدها ودلالها ولكن متى يحدث ذلك؟!

/ على الروح أن تترجل وتمشي على قدميها الحريريتين/ إلى جانبي/ ويدا بيد/ هكذا صاحبين/ قديمين يقتسمان الرغيف القديم/ وكأس النبيذ القديم/.

 

إن الصحبة هذه ما بين جسد الشاعر بوصفه (أنا) ومادة مع روحه بوصفها (آخر) وميتافيزيقا ستنفرط حتما في يوم ما/ بعد رحلة الحياة المضنية.. ليتحلل الجسد الفيزيقي إلى مكوناته.. أما الروح فستجلس القرفصاء عند صخرة عالية قريبا من السماء:

/ لنقطع الطريق معا/ ثم نذهب في اتجاهين مختلفين: / أنا ما وراء الطبيعة/ أما هي/ فتختار أن تجلس القرفصاء على صخرة عالية/

 

يتحول الحصار في بعض الأحيان إلى مزحة قاتمة.. وقديما قالت العرب (شر البلية ما يضحك)، ترى أي ابتلاء هذا عندما لا يرن هاتفك، أو لا يطرق عليك الباب أحد.. فالوجود الشخصي للشاعر مرتهن بوجود الآخرين وعندما يحاصر الآخرون في بيوتهم/ فهذا يعني أنك لست موجودا في بيتك بالرغم من وجودك فيه.. حيث تمارس حياة معطلة وهي عديمة الجدوى قطعا.. وكأنك غير موجود بالمرة (لم أكن ههنا)، إن المأساة تتجمل بغياب يشبه الحضور/ وحضور يشبه الغياب/ ومن هنا تنشأ الكوميديا السوداء التي تنعش الذاكرة ويستفيق إليها الوجدان.. وهي رد فعل حاسم للصراع من أجل البقاء ودحض الحصار بكل أشكاله.. ومن هنا تنشأ عظمة الإنسان لأنه يستخف بعظائم المصائب ويروضها لصالحه ويخرج منتصرا دائما:-

/ يجد الوقت للسخرية:/ هاتف لا يرن/ ولا جرس الباب أيضا يرن/ فكيف تيقنت من أنني لم أكن ههنا؟/..

 

الوحدة والموت يحاصران الشاعر أيضا

إن وحدة الشاعر مريعة وقاتلة/ وكم يبدو حزينا عندما يتعاور عليه الليل والسكون.. فموسيقى الحصار وقفت دون الشاعر وتفاصيل الحياة.. إذ منعت عنه اللقاء والكلام والسلام.. الحصار بركة آسنة سقط الجميع في حمأتها.. لقد تحول البيت الوادع إلى مكان عدواني.. ترى من سيشارك الشاعر نشوته عندما يجد ضوءا خافتا في نهاية النفق (نفق الحصار القميء).. والذي يبدو بعيدا وخافتا (ضوء الفراشة).. الشاعر يخبرنا بحاجته إلى مشاركة وجدانية من شخص ما تعلن فيها عن نهاية الرعب والحصار:

/ سلام على من يشاطرني الانتباه إلى نشوة الضوء/ ضوء الفراشة في ليل هذا النفق./

 

وفي ليل باذخ وطويل، من سيقاسم الشاعر قدحه.. فالمقاعد خالية، ولا طرق على الأبواب والصمت سيد الفصول، الجدران نائمة، وليس هنالك سوى صفير الريح، والقبض على الفراغ.. فيا لتعاسة الشاعر وهو محاصر ولا ينادمه سوى الليل وشبحه المتلاشي:-

/ سلام على من يقاسمني قدحي/ في كثافة ليل يفيض من المقعدين/ سلام على شبحي/.

 

الموت يحاصر الشاعر، ويمد يديه إلى أصدقاء الشاعر واحدا فواحدا.. وهم (أي أصدقاء الشاعر) إذ يسبقوه ليحتفلوا بموته.. مهيئين له القبر وشاهدة رخامية تضارع قوتها قوة الزمن، إلا أنه يفاجئ مودعيه سائرا في جنازة أحدهم مودعا إياه الوداع الأخير:-

 

/ أصدقائي يعدون لي دائما حفلة/ للوداع، وقبرا مريحا يظلله السنديان / وشاهدة من رخام الزمن/ فأسبقهم دائما في الجنازة:/ من مات.... من/؟

 

إذن فهي حالة خيالية مرعبة تلك التي تنسجها أصابع الحصار، تتعطل إزاءها قوانين الفيزيقا/ وتنزع الأشياء جلودها، وتبدل المخلوقات إيقاعها، فالزمن ينزع قافلا من حيث أتى والمكان يغير إحداثياته وما نزعه الإنسان على الموجودات من ملفوظات اللغة .. يتعطل ويموت في القواميس.. ترى ما الذي ينتظره الشاعر المحاصر في هذه الكوميديا المرعبة:

/ في انتظارك تمشي العقارب في ساعة اليد نحو اليسار../ إلى زمن لا مكان له، في انتظارك لم أنتظرك، انتظرت الأزل./

 

فنطازيا مرعبة

إنها فنطازيا "غرائبية" (Fantasy) مرعبة ومدمرة.. يتساوى في كفيها المقدس والزاني.. الواطي والعالي.. تتساوى فيها الخطيئة والتوبة.. الرذيلة والطهارة.. السماء والأرض.. تتساوى فيها جغرافية الأرض وجغرافية السماء.. ولكن متى صار للسماء جغرافية.. فهي فضاء عميق تغفو على أسرته النجوم.. ولكن مهلا فالحصار بعد خامس وخارجي يعطل الأبعاد الأربعة الأولى ويقود إلى ضبابية في الرؤيا:-

/ هذه الأرض واطئة عالية/ أو مقدسة زانية/ لا نبالي كثيرا بسحر الصفات/ فقد يصبح الفرج/ فرج السماوات/ جغرافية/..

 

الشاعر محاصر بأناه المخاطبة بوصفه شاعرا.. فهو يحذرها من الانزلاق إلى مجمع الآلهة، لئلا يقع في شرك تعاليها وعزلتها فالشاعر بوصفه ذاتا وموضوعا إنما يمثل قسيمين لثنائية واحدة.. هي ثنائية (حضور – غياب) ولكن لا يمكن أن يكون أيا منهما.. إن أي تهشيم للثنائية أعلاه تحول الشاعر إلى وثن ينتظره الاندحار ولو بعد حين.. ولو سقط الشاعر بوصفه إلها أو وثنا فلن يعود شاعرا:-

/ إلى شاعر: كلما غاب الغياب/ تورطت في عزلة الآلهة/ فكن " ذات" موضوعك التائهة و" موضوع " ذاتك، كن حاضرا في الغياب.

 

الشاعر محاصر بالقصيدة والناقد والقارئ

في حضرة الانتظار، انتظار الذي يأتي أولا يأتي، لا ينسى الشاعر أنه شاعر.. وإذ تتساقط القنابل وتختلط الأنوار أمام بصره إلا أن إبليس الشعر يتحول إلى وحي.. وإذ تمر القصيدة من بين أنامل الشاعر فهي تئد شاعرها لتبقى حاضرة ومكينة وسيدة:-

/ الوميض، البصيرة، والبرق، قيد التشابه.. / عما قليل سأعرف إن كان هذا/ هو الوحي.. / أو يعرف الأصدقاء الحميمون أن القصيدة/ مرت وأودت بشاعرها/.

 

قصيدة درويش.. بتعدد مستوياتها.. عندما ترى النور يتلقفها القارئ والناقد.. وهي أكبرمن أن تفسر بملعقة شاي/ أو بفخاخ الطيور فالقصيدة عند درويش هي التي تكتبه وليس العكس.. إن درويش الشاعر يرى في شعره ما هو أكبر من أن يقاس ويؤول بأدوات النقاد المحدثين وبمناهجهم النقدية الحديثة... بملعقة شاي أو بفخاخ الطيور:-

/ يحاصرني في المنام كلامي. كلامي الذي لم أقله. ويكتبني ثم يتركني باحثا عن بقايا منامي.

 

الشاعر درويش محاصر بالقارئ أيضا.. بعد أن أرعبه الناقد بفخاخه وكأني بالشاعر غير عابئ بما يقوله الناقد.. لأن هدفه توصيل ما يريده للقارئ بل نجده يحذر القارئ من مطبات القصيدة وجغرافيتها المعقدة.. ويحذره أيضا من دهاليزها وأقبيتها فهي (أي القصيدة) بنت الغياب، ولا يمكن الإمساك بها فهي تزوغ عن الرؤيا والحدس وعن تجريبية الفكر إنها بوابة نحو الهاوية، وإذا كانت القصيدة كل ذلك فكم قارئا سيقع في قاع غوايتها..

/ إلى قارئ: لا تثق بالقصيدة/ بنت الغياب/ فلا هي حدس/ ولا هي فكر. ولكنه حاسة الهاوية/

 

الشاعر محاصر بالكتابة.. فهي شاهدة الشاعر وقاع قبره.. هي عشبته وسكينه القاتل.. هي الموت والميلاد.. وهي ما يستطيع به أن ينأى  عن العدم.. ولكن ذلك لا يحدث مجانا، الكتابة سكين يدمي قلب الشاعر وجسده لينزف قصائد وأشعارا خضراء..

/ الكتابة جرو صغير يعض العدم/ الكتابة تجرح من دون دم/

 

وأخيرا نزعم ونتمنى أن تكون مقاربتنا أعلاه.. لم تفسر شعر درويش بملعقة الشاي.. ونتمنى أن لا توجد فخاخا في نصنا أعلاه.. أوقفنا فيها طيور الشاعر.. إن قصيدة درويش أسراب حمام.. لا يمكن اصطيادها بفخاخنا.. أنى للفخاخ أن تصطاد أسراب حمام الشاعر، إن قصيدة درويش تحتاج إلى شيء أكبرمن فخاخ الطيور وملاعق الشاي.. فالناقد ما عاد قناصا، وما عادت قصائد الشاعر طيورا يمكن اصطيادها بسهولة.. فللناقد نصه المحايث وللشاعر نصه السابق.

 

أبو ظبي

3/6/2002

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1105  السبت  11/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم