قضايا وآراء

مشكلة التقريب وأزمة تعدد المقاربات .. المقاربة التاريخية والمقاربة الأصولية، ضرورتان

 اللحظات الأليمة والمنعطفات الكبرى التي تمر منها الأمة الإسلامية. وقد وضح بما فيه الكفاية اليوم أن عنوان الأمة الإسلامية ومفهوم الرابطة الإسلامية ليس أنه بات مهددا بالانقراض فحسب، بل إن أكبر مفارقة يعيشها المسلمون اليوم هي أنهم أصبحوا أغرق الأمم في آفة التجزئة والتشظي. ففكرة الأمة والعالم الإسلامي هي تعبير مجازي لا يجد في دنيا المسلمين مصداقا واقعيا مشخصا. ربما ستظل الأمور على حالها ما دام العقل الإسلامي اليوم قد ركبه العناد في الأعم الأغلب حتى بات غير محصن من اختراق النزعات الطائفية المقيتة. وهي ذلك الداء المزمن الذي ما برح فناء الأمة منذ زمن بعيد . لم يكن العالم الإسلامي منذ فترة طويلة مهيئا لطرح الأسئلة الجذرية في مواجهة مشكلاته الكبرى. بل اكتفى بأنصاف الحلول والترقيع والمجاملة والالتفاف على مشكلاته. إننا بتعبير آخر لم نكن في قامة الحلول الممكنة لأننا لم نكن في قامة الأسئلة الجذرية التي سمحت لآفاتنا وأمراضنا أن تستفحل أكثر فأكثر، حتى غدا داء الفرقة والطائفية سرطانا ما فتئ يتوسع في جسد الأمة ويعدها بموت محقق. لقد ظلت الثقافة الإسلامية منذ عهد بعيد مرتهنة لثقافة عدم الدنو من الاستشكالات الكبرى والأسئلة الجذرية. فكان الخوف من الفتنة خوافا يجتاح العقل المسلم ويبعثه على الانزواء والسلبية، دون أن يدرك بأن الفتنة هي في جوهرها امتحان وابتلاء للأمة وجب فيه على العلماء التصدي له بالقول الصادح و الصبر على البلاء. وقد بات واضحا أيضا أن بعضا من العلماء وقعوا في فخ هذا الامتحان، وبدل أن يرأبوا الصدع صبوا الزيت على النار.

يتساءل المتابعون لوقائع المؤتمرات والفعاليات التي تعقد من أجل بحث مسألة التقريب بين المذاهب والوحدة بين المسلمين، حول ما جدوى هذه الفعاليات إن كانت تأتي بما هو حقيق ببناء الثقة وخلق مناخ للاستئناس بين الفاعلين الدينيين من شتى المذاهب الإسلامية. لكن ما يبدو ملحا في هذا السياق: هل استطعنا أن نؤسس مباني تقريبية ووحدوية ونسق تقريبي ووحدوي مفهومي يجعل لهذه المسألة معجمها الذي يرفد الوعي التقريبي والوحدوي بعلم كامل في المقام وثقافة نسقية تحول النداء إلى التقريب والوحدة إلى علم وليس مجرد نداء يتيم وتظاهرات ينفرد بها فاعلون، قد يكونون نافدين في مجتمعاتهم وقد لا يكونون..قد تكون لهم صولة بالغة وقد لا تكون..قد يشكلون الوسيط الكفوء وقد لا يفعلون..فالتحول بتظاهراتنا وفعالياتنا الوحدوية والتقريبية إلى نموذج إرشادي جديد أمر مطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى. كما أن رسم استراتيجيات جادة ومتخصصة تنبني على مقاربات ليس فقط وعظية وخطابية، بل تحتل فيها تخصصات كثيرة مكانة محترمة. أي أن المطلوب والملح أن تعالج مسألة التقريب والوحدة ليس فقط بنموذج إرشادي فقهي ووعظي وكلامي وربما إنشائي كما هو حال نداءاتنا اليوم للتقريب والوحدة، بل المطلوب أن ندخل تخصصات تغور بالمطلب بمقدار عمق الآفة والمرض. فإذا كانت مشكلة التقريب والوحدة ليس بالضرورة أنها دينية أو فقهية بحتة، بل هي ثقافية واجتماعية واقتصادية وجغرافية ومناخية و..و..وجب حينئذ أن تكون المقاربة سوسيو ـ ثقافية وتاريخية واقتصادية وانثربولوجية وسيكولوجية الخ. إن المعاينة السريعة لما عليه واقع الفعاليات والتظاهرات التي نشهدها اليوم في بحث هذه المسألة، هي تكرار ممل أحيانا يصيب الوعي بالملل ويفقد جاذبيته عند المخاطب، فكأننا أمام حالة مهرجانية ومواسم يضرب لها موعد روتيني، فلا تأتي بجديد يرفد انتظارات الناس بالجديد. إننا نتسائل : لماذا المذاهب نفسها المتصارعة في هذا البلد قد تتآخى في بلد آخر..ولماذا كلما حلت الأزمات بالمسلمين إلا وانبعث من جديد مشكل الطائفية والفرقة كما لو لم تعالج هذه الآفة في عالمنا الإسلامي قط. لماذا يصر المسلمون أن يفتخروا بأنهم أمة بلغت المليار والنصف بينما هذا الرقم لا يكون كذلك إلا إذا استدمجنا كافة الطوائف والفرق الإسلامية. لماذا أصبح لنا موعد ونوبات مع المشكل الطائفي وأصبح يسيرا على دوائر الاستكبار العالمي أن تزف لنا من خلاله كافة مخططاتها وتنسج على منواله كبرى مؤامراتها؟

أسئلة كثير يتعين وضعها في عين الاعتبار قبل أن نمضي حثيثا في بحث هذا السؤال الخطير في تاريخنا وراهننا.

 

المقاربة التاريخية ضرورة

 

نقصد بالمقاربة التاريخية، توثيق أولى مظاهر الخلاف الإسلامي ـ الإسلامي، وأيضا رصد صيرورة الخلاف عبر أطواره المختلفة، قصد الوقوف على تمثلاته وتعبيراته وتوتراته أولا بأول. فالمقاربة التاريخية تضع المتلقي لخطاب الوحدة على مستوى من الفهم والاستيعاب لظاهرة الخلاف يخفف من غلوائها البنيوي، ويجعلها قابلة للفهم والنقد. لولا أننا في العالم الإسلامي تجدنا الأمة الوحيدة غير القادرة على نقد الخطاب التاريخي. ولعل غياب السؤال التاريخي هو جوهر مشكلة نهضة المسلمين وسبب إخفاقهم. إن ثقافة رفض التأثيم ومنع الدنو من السؤال التاريخي من شأنها أن تؤبد الخلاف الإسلامي ـ الإسلامي لقرون كثيرة.

تفيدنا المقاربة التاريخية في تقويض مظاهر الأسطرة التي خضعت لها الصورة النمطية المتبادلة بين المتخالفين. فالمقاربة التاريخية تدفع باتجاه الاقتصاد في الخلاف. ذلك الضرب من التقويض المقاصدي الذي يوقف الباحث أمام الحد الأدنى من الخلاف الذي تتبدد على هامشه حالة التضخم في طلب الخلاف والانزواء والتسامح في القبول بعناصر الاختلاف بدل التعسير. حيث مقتضى التسامح، التعسير في اعتبار ما من شأنه مخالفة المقصود من الائتلاف. إن إطلالة سريعة على أدبيات الصراع الطائفي تظهر إلى أي حد بلغ الإسراف في قبول الصورة النمطية عن الآخر المسلم، إلى حد طغت موارد الاختلاف الزائفة وابتلعت معها عناصر التوافق والتلاقي التي هي عناصر من الأهمية بحيث يعظم على اللبيب تجاوزها لأنها تمثل أعظم القيم الإسلامية. لا نعتقد أن مسألة التوحيد والنبوة والمعاد وما إليها من باقي الأصول التي بها يكون المسلم مسلما، هي دون سائر الأصول المعتبرة في ديننا الحنيف حتى لا يلتفت إليها في المقام أو التدرع بعدم كفايتها في بناء التقارب المنشود والوحدة المتوخاة.

تتيح المقاربة التاريخية إمكانية النظر إلى موضوع الخلاف بوصفه ثمرة لاعتمالات سياسية متراكمة وصيرورة من التشكل الثقافي على خلفية الانزواء بالمذاهب والطوائف وإحاطتها بسور منيعة لا تؤمن حدا أدنى من الذهاب والإياب بين الطوائف والمذاهب الإسلامية. لقد فعلت السياسة الكثير في التاريخ الإسلامي وساهمت في تحويل المذاهب الإسلامية بوصفها مدارس للفكر والمعرفة والاجتهاد إلى محميات مغلقة ومدن محروسة إمعانا في النفور المذاهبي ومبالغة في تدمير الجسور بينها. وإذا كانت السياسة قد فعلت فعلتها في التاريخ الإسلامي فلما لا تنهض سياستنا اليوم بتدارك خطأ الماضي والعمل على مد جسور الوصال بين المذاهب ومنح المجتهدين الحق في الاندماج في مناخ من التواصل كما سارت عليه العادة في حواضر العلم الإسلامي منذ أمد بعيد.

إن المتتبع لجملة الشبهات التي يحملها بعضنا عن البعض يلاحظ أنها انزلقت بالخلاف من حدود الأمر الطبيعي إلى حدود المبالغة والتخريف. وإذا كان التحقيق يصادم هذا النوع من التهريج الطوائفي، فإن ضربا من النسيان والتجاهل تؤمنه السياسات في الأعم الأغلب يعطي الحكومة لما في يد الناس من صورة نمطية على حساب التحقيق والنظر. هكذا نجدنا مثلا نحاكم بأثر رجعي الخواجة نصير الدين الطوسي في تعامله مع هولاكو ونعتبر سقوط بغداد ثمرة لهذه المؤامرة التي لعب فيها ابن العلقمي دورا بارزا. ولكننا ننسى أن ابن العلقمي كان هو الشخصية الأكثر استقامة في دولة العباسيين وهو وحده بحسب الفخري من لم يخمر. بل إنه صاحب فكرة شرح النهج حيث طلب من ابن أبي الحديد المعتزلي النهوض بهذا المشروع الكبير. ويمكن معرفة رأي هذا الأخير في ابن العلقمي الوزير في الشرح نفسه. لكن لم يبعثنا وازع البحث والتحقيق أن نتأمل في محاولة ابن العلقمي تجنيب بغداد كارثة التدمير الوحشي المغولي. بل إن اختزال سقوط بغداد في دور سري لابن العلقمي دونه في المقام خرط القتاد. فابن خلدون حينما يصف قوة التتر، يعتبرها الدولة الأقوى في العالم، بل لا وجود لأمة بهذه القوة منذ آدم. فهل كان يحتاج المغول إلى ابن العلقمي أو رجل أسير مثل الخواجة نصير الدين الطوسي حتى يتمكنوا من بغداد؟

لكن لا أحد يقف عند الطريقة التي تعامل بها ابن خلدون مثلا مع تيمورلانك حسب ما يصف ذلك بنفسه في سيرة ابن خلدون من آخر جزء من كتاب العبر. وهو حديث مطول جمع ابن خلدون مع تيمورلانك، حيث أعطاه ابن خلدون معلومات جغرافية غاية في الخطورة عن المغرب، وكتب ذلك وترجم فورا إلى اللغة المغلية، وهي معلومات ليس من شأنها أن تغري أي غازي عسكري لغزو المغرب فقط، بل تمكنه أيضا من فعل ذلك على أيسر السبل. إن مقايسة سريعة بين علاقة الخواجة نصير الدين الطوسي الأسير مع هولاكو وبين ابن خلدون الذي يروي لنا بنفسه كيف تكسر وانحنى وقبل يد تيمورلانك وأظهر له من الانغلاب والدونية ما لم يجد مندوحة في وصفه بنفسه، تعطينا صورة عن التعاطي المزدوج مع التاريخ الاسلامي، وأيضا تستبعد التحقيق التاريخي من عملية مد الجسور بين المختلفين.

وقس ذلك على فرية التآمر الصفوي، الذي بات اليوم شعارا ثقيلا راسخا في دنيا إعلامنا كالطود الأشم. بينما تحقيقا سريعا يكشف عن أن الصفويين ليسوا سوى تلك الفرقة الصوفية التركية الأردبيلية التي تبنت التشيع وفتحت المجال للدور العربي في هذا المجال. إن التشيع الصفوي إذن هو بالأحرى التشيع العربي، حيث ما من دولة في تاريخ إيران مكنت العرب من النفوذ ومنحتهم مناصب عليا في الدولة كالدولة الصفوية.

المقاربة التاريخية لجملة الشبهات التي يستقوي بها إعلام التفريق اليوم، منهجا واستراتيجيا ضروريا للتخفيف من وطأة الخلاف، وعلى الأقل يرفع الخلاف إلى قاب قوسين أو أدنى من الممارسة العلمية وأخلاقية الحوار بين المختلفين ولا يهدم أسس التواصل المطلوب بين المسلمين.

 

المقاربة الأصولية: إشكالية القطع

 أنتهز هذه الفرصة كي أبديرأيا في هذا الجدل الذي سيتيه بنا إلى مالا تحمد عقباه، إن لم نستحضر الحكمةونحكم العقل ونتقي الله في فتنة لها رجال شداد تأخذهم العزة بالإثم وربك لايرعوون..وليس ذلك أن المرء ليس مطالبا بإحقاق الحق والذود عن حمى الثقلين الذينجعلهما الله تعالى عصمة للمسلمين من الضلالة..لكن لا بد من أن يحكم النقاش الرغبةالصادقة في المعرفة، والخلق الرفيع في الحوار، فليست الصراحة هي المشكلة في البين، بقدر ما أن المشكلة في القلوب حينما تعميها المكابرة وتراخي الوازع الدينيوالأخلاقي وضمور الإحساس الإنساني الذي يجعل الإنسان لا يدري متى وقع على الفتنة أووقعت عليه. من المؤكد أن مجال النقاش والمناظرة بغض النظر عن الشروط العلميةوالأخلاقية اللازم توفرها فيمن ينوي الخوض

في هذا الخضم، لا بد من أن يكونالهدف متجها إلى تعزيز موقف الأمة ووحدة المسلمين. فحينما أناقشك أخي المسلم سلفياكنت أو غير ذلك، فالغاية أن أجعلك تتعرف على آراء من كفرتهم عدوا بغير علم. لكيأقول لك أنا مسلم مثلك، فلنتعايش ونحب بعضنا البعض ونعبد ربنا حتى يأتينا اليقين.  إن الفقهاء تحدثوا كثيرا عن القطع بوصفه حجة. ولكن لا يكفي هذا عزيزي المسلم، حيثاختلفوا إن كان يجب أن يكون الطريق إلى القطع المعتبر مشروعا أو غير مشروع، حتى لوقلنا أن حجيته ذاتية من غير جعل جاعل شرعي أو عقلائي.. وكذا قطع القطاع وشديدالقطع ممن يحصل له الاطمئنان بيسر وبغير المعتاد من حصول القطع الطبيعي عندالأسوياء، فأمثال هؤلاء في حكم الجاهل الذي يجب أن يحتاط لنفسه بالرجوع إلى العالممتى لم يكن في ذلك حرج.لأن أمثال هؤلاء قد يحصل له القطع عن طريق الأطروحة ونقيضهاسواء بسواء. غير أنه لا بأس من الحديث عن أن القطع المعتبر في المقام، مما قال بهالفقهاء والأصوليون، لجهة تناسب المطلب مع مجال الاشتغال، حيث مجال الفقه هو الظنونالمعتبرة التي تحتل المساحة الأكبر في مجمل الأحكام بعد الانسداد. إن الشارع المقدس، لعدله وحكمته تعبدنا بهذه الظنون دفعا للحرج. وحيث ليس في الوسع إحراز الواقع،فكان القطع هاهنا في منزلة الواقع كما لا يخفى. غير أن القطع في مجال الاعتقاد ليسله إلا طريق الدليل. ولكن أي دليل؟ هل يقال أن الدليل في المقام هو البرهان؟ من قالذلك؟ نعم القرآن يقول" قل هاتوا برهانكم". لكن البرهان هنا لا يعني البرهان المنطقيالذي يقابل صنوف الحجاج التي تقوم على غير القياس البرهاني بالضرورة . لأن المتلقيالمفترض في الخطاب الوحياني هو الإنسان كل الإنسان، بكل مستوياته الادراكية. فمادامهذا الطريق يؤدي الغرض فلا إشكال ما دامت الحقيقة الوحيانية التي قد يتوصل إلىمستوى من مستوياتها عند الأعرابي، يمكن الاستدلال عليها بالبرهان المنطقي، وذلكهو معيار صدق المضمون. وكل متلقي هو محاسب بقطعه وبالوسيلة التي توصل بها إلى قطعه، حيث هو مكلف بأن يستثير دفائن عقله قدر الوسع. لكن لا يخفى أن من ضروب القطع ماخالف الواقع، فكان بمنزلة الجهل المركب.وقد حار المناطقة في أمر الجهل المركب، هلهو من ضروب العلم أم هو لاحق بالجهل. والحق أن هذه الحيرة راجعة إلى الزاوية التي نظر منخلالها إلى مسألة الجهل المركب. والمسألة في اعتقادنا هي نسبية بامتياز. فالذي غلبعليه الذوق المنطقي جعلها من أقسام الجهل، والذي غلب عليه الذوق الفقاهاتي جعله منأقسام العلم. ومن هنا نعتقد أن الجهل المركب، هو من الناحية المنطقية جهل في جهل،وإن كان في نظر الفقه ضرب من العلم. فالمنطقي يستحضر الواقع الوجودي على نحوالحقيقة. سواء أكان الوجود ذهنيا أو خارجيا. فالقطع الذي يخالف الواقع، هو جهل. فكأن الجاهل هنا جهل مرتين بالمطلوب. جهل بالمحمول، وجهل بحقيقة الجهل بالمحمول. فمن قال مثلا لمؤمن، إنك كافر، فهو جهل حال المؤمن في الواقع، وجهل أن يكونجاهلا. ولذا فهو جهل مرتين، وبتعبير آخر ظلم مرتين: ظلم مكثف، بخلاف الجهل البسيطهو جهل مرة واحدة بالمحمول، يلازمه علم بالجهل بالمحمول. النقاش الذي جرى حولالتجري، والعمل على خلاف القطع بوجوب قتل النبي في الواقع

أمر يتطلب مزيد نظر،وليس هاهنا متسع لذلك. لكن لنقل إن القطع في مجال الاعتقاد، بخلاف الفقه هو جهلوليس علم، لأن ثمة فرق بين الوجود والوجدان كما لا يخفى. وفي مجال الاعتقاد، لنيكون الجهل المركب علما، بل جهلا.وهكذا كان أمر الخوارج الذين طلبوا الحق فلميصيبوه، فكانت منزلتهم أعلى من منزلة من طلب الباطل فأصابه، لجهة اعتبارالنوايا..لكن الخوارج حوربوا لما حاولوا أن يرتبوا آثارا عملية على جهلهم المركب، حيثالقاطع بكفر المؤمن، يرتب آثارا تستبيح دمه وعرضه وماله..من هنا كان الاجتهاد فيالاعتقاد واجبا خلاف للاجتهاد في الفروع. نقول نعم المطلوب الحد الممكن من الاجتهادالذي يتفاوت تضعفا وشدة بحسب ملكة أو جهد المعتقد . ومن هنا أهمية استمرار النقاش،وبأن لا يقطع المعتقد في مجال المناظرة إلا بدليل، لأن منهج الرسول ـ ص ـ في الدعوة: "قلإني وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين".

 وحتما لم يكن الرسول الأكرم ص يشك مقدار ذرةأو أدنى في مضمون رسالته، لكنها قوانين التواصل والحوار، تفرض أن يخرج المناظر عنقطعه، لنقل الخروج المنهجي عن القطع، حتى يكون الحوار ممكنا.إن الناظر في مجملالوقائع التي ذهب ضحيتها أبرياء من البشر، حدثت بجهل مركب . ولذا حتى في مجالالحدود كان القتل مورد احتياط كبير..فمن المعتقد ما قتل. ومن هنا أيضا شدد الشرععلى عدم اتباع الظن، حتى لا نصيب قوما بجهالة، حيث الظن هنا يشمل القطع المخالفللواقع أيضا حتى لو جاء من طريق ظني متى اقترن بآثار وغايات تؤدي إلى الظلم، فأمرنابالتبين والتثبت، وثمة من الفقهاء من رأى أن آية النبأ، ليست دليلا كافيا للتعبدبالظنون حتى في مجال الشريعة، وأن لسانها ليس لسان دليل على حجية خبر الواحد..إنكان ذلك حدث في مجال الأحكام فبالأولوية القطعية حاصل في الاعتقاد، لا سيماالمقرون بغايات فيها ظلم وتترتب عليها غايات تستبيح الدماء المسلمة والنفوسالمحترمة..المهم من كل هذا أن الحوار بين المختلفين المذاهبيين يجب أن يستأنسبمباحث القطع استئناسا يهذب العقول ويلطف النفوس، ويجعل المناظرة قائمة علىالاحتياط في أحكام القيمة والتثبت والتبين.إذا أدركنا ذلك، كان لابد من الحديث عنالغاية الأخلاقية والدينية والإنسانية التي تؤطر الحوار المذاهبي . أعني أن يكونالمتناظران يريدان دينيا وجه الله في إحقاق الحق، فلا حيلة مع الله، أمام منيحاول ركوب متن المكابرة والتجديف. وأما الغاية الأخلاقية، فهي أن يكون الحواروالمناظرة هادفة إلى تهدئة النفوس ونزع ما من شأنه تجييش النفوس وتهيئتها لتكونمطية الشيطان. وأما إنسانيا، فلأن إدراك الحقيقة والمعرفة مطمح إنساني على كل حال. يمكننا الحديث إذن عن ضرب بديل من المناظرة، "هي المناظرة المسؤولة". فأي ضرب منالمناظرة يهدف التخريب ونشر الكراهية والعداوة والتكفير ..هو خارج عن شروط ومقوماتالمناظرة المسئولة. لذا نعتقد أن استفزازات بعض الإخوة السلفيين، وإمعانهم فيالسباب والشتم والتكفير، لن يثني الموالي الحقيقي لأهل البيت ـ ع ـ عن التمسكبالأخلاق الحميدة والهدف الكبير الذي ائتمنوا عليه.هناك من يستغل هذه الأخلاقالرفيعة، ويأنس من تعفف أتباع أهل البيت، لمواصلة التهريج والتجديف الطائفي من طرفواحد، لكن أمثال هؤلاء وجدوا دائما وسيظلون في صناعتهم لا يحسنون سوى تكفيرالمسلمين. ومع ذلك، لن نكفر أحدا ولن نسيء لأحد..فالذين امتلأت قلوبهم بأخلاق محمدوآل محمد ـ ع ـ، ليس أمامهم من مندوحة ليقعوا في فخ من هذه الفخاخ. فلا نحاججالمغالط إلا بمثل ما حاجج به محمد ـ ص ـ المشركين وعلي ـ ع ـ الخوارج..فما خاب منتمسك بكم سادتي..وليعلم كل موالي أن المشكلة ليست مع المنصفين من الجمهور، بل هيمشكلة مع من فتح نار التكفير على من خالفهم من المسلمين، بدون فقه وبدونفكر..

إن الغائب في مقاربتنا لمسألة التقريب والوحدة هو المقاربة التاريخية القائمة على السؤال التاريخي الجذري، وأيضا المقاربة الأصولية الناهضة على تفكيك مفهوم القطع وفلسفته، تلك الفلسفة التي أبدع فيها العقل الأصولي، لا سيما الإمامي، وحقق وفرع، لكن ضرورات التواصل وما نراه من نوازل من أحكام القطع تذهب حد إزهاق الأرواح البريئة، يقتدي مزيدا من التحقيق والبحث والنظر. فكون الدماء عندنا شديدة حسب الإمام الصادق ـ ع ـ، سواء في باب الطهارة أو باب الحدود والديات لمقام مقاصد الشرع الضرورية الموجبة لحفظ النفس، تفرض تفصيا استثنائيا وجهدا آخر مضاعفا لبحث مسألة القطع، لا سيما ما كان من جنس القطع الذي به يكفر المسلم المسلم، وبه يستحل دمه ويستهتر بالحرمات.

 

إدريس هاني

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1106  الاحد  12/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم