قضايا وآراء

الشيعة العرب .. بعيدا عن إيران كيف وجب النظر إليهم

الحركة الإسلامية المعاصرة مقالا نشر على صفحات الجزيرة نت حول الشيعة العرب وإيران. وهو مقال جدير بالقراءة لأهميته وأيضا جدير بالتأمل لعدم اكتمال الصورة التي نقلها عن تلك العلاقة. ليس لأن كاتبه قد يكون أعرف من غيره بحقيقة ما يجري في الواقع ، وهو في الأغلب أقل مما يجري في الصحافة وكلام الناس . على الأقل نجد في هذا المقال محاولة لفهم أكثر واقعية وموضوعية ، مقاربة يتشارك في مضمونها وموقف أصحابها عدد من الكتاب الإسلاميين ممن ينتمون حتى للاتحاد العالمي للعلماء المسلمين ، وأخص منهم سليم العوا وفهمي هويدي وأمثالهما وإن قلوا، والشيخ الغنوشي منهم ، ولذلك كانت لهم مكانة خاصة عند جمهور الشيعة ممن يقرأ لهم ويفيد من فكرهم. ولست هنا في وارد نقد هذه الشهادة من الغنوشي ـ لأنني أعرف حقا غيرتهم وحرصهم على وحدة المسلمين بالجملة ـ  بقدر ما أسعى لبيان بعض الخلفيات والأثقال التي تعيق النظرة الموضوعية والواقعية لهذه العلاقة. هناك على أي حال من قد تبدو له مقالة الشيخ الغنوشي غالية في تعاطفها مع الشيعة وربما هي نفسها متشيعة ومغرر بها من قبل الشيعة وإيران .. هذا الهوس الشيعوفوبي أصبح مقبولا  في ثقافتنا الدينية والسياسية كما أن النفوس مهيأة لتمثله من دون وعي، لأن مجرد التقدم الموضوعي في طريق إنصاف الشيعة هو في حكم المرفوض والممنوع. وها هنا مكمن الخطر. في هذا السياق أستلهم حديثي عن الشيعة العرب ومشكلة وجودهم في قلب عالم يعيش حساسية مفرطة تجاه إيران الدولة الشيعية الكبيرة فيما هم في أكثر البلاد العربية في حكم الأقليات، وفي بعضها كالعراق والبحرين هم في حكم الأغلبية.. على أن ما لم تذكره مقالة الغنوشي هو أن ثمة بلادا أخرى إسلامية يشكل الشيعة أغلبيتها مثل آذاربيجان.. أجل ، أستلهم حديثي هذا من بعض الكتابات التي تسعى إلى تجريم الشيعة العرب ومحاولة ربطهم بالمشروع الإيراني لمجرد أنهم شيعة وربما لمجرد تعاطفهم مع دولة إسلامية ضد النفوذ الخارجي.وسأكون مضطرا للحديث دائما عن إيران لأنهم كما في مقالة الشيخ الغنوشي هم من يحرص على هذا الربط وباسم والايرانوفوبيا تولدت عندهم حكاية الشيعوفوبيا. لقد كتب الكثير حول هذه المشكلة ، لكن ما كتب كان يعبر عن فكرة ثابتة وهواجس تسكن الرؤوس أكثر مما ينطق بها الواقع. وشخصيا لا أستثني هذا النوع من الفساد في التقييم وأحكام القيمة بلا قيمة ، عن مجمل الفساد المستشري في عالمنا العربي على نمط الأواني المستطرقة. هناك بلا شك تقدم كبير في رصد هذه الظاهرة رغم وجود بعض الاختلالات في تصور منشأ الأزمة. هنا في عقولنا تختلط هواجس التاريخ بالجغرافيا بالأيديولوجيا بالسياسة بالمصلحة : بكل شيء. كيف يمكننا قراءة هذه المشكلة في أضواء أنصع وضمن رؤى على الأقل تنتمي إلى كوننا الحديث. المعيب في مقارباتنا أننا نتصور أن المخرج من هذه الأزمة الطائفية والصراعات المذهبية الهوجاء من صميم صلاحياتنا فقط وأنه لا يوجد في العالم ثقافة تواصلية وخيارات لتقنين الخلاف وحماية وجوده وتمكين المختلف من التعبير عن نفسه يتعين علينا استلهامها وتمثلها والإنصات إلى درسها وتنزيلها معايير لمحاكمة سلوكنا وسلوك الآخر منا. وبينما عبرنا خلال قرون عن أننا فشلنا في تدبير ملف الخلاف المذهبي في عالمنا العربي بالصورة المطلوبة ، كان علينا أن نتواضع أكثر لنستلهم من الثقافات الأكثر نضجا واستقرارا ما يفيدنا في دعم استقرار واندماج شعوبنا. في أوربا على سبيل المثال هناك مجتمعات تعددية تتسع لمذاهب وطوائف ومع ذلك نتحدث في أوربا عن دول مستقلة قوية مستقرة مواطنة وأيضا هناك سعي حثيث لأوربا موحدة. الوحدة هنا ليست تجانسية كما يتخيلها عقلنا العربي بسذاجة وأرهق في طريق تنميقها الإنشائي عقله ووجدانه. الوحدة هي مشروع يرتكز على وحدة المشترك والجامع للأمة والمرتكز للجماعة السياسية. وليس أفضل من المواطنة أن تكون هذا المشترك العقلائي الذي ترتكز عليه فكرة المجتمع الموحد على تعدديته. إذا كانت الوحدة في حدود المواطنية وحقوقها هي أساس استقرار وقوة الأمة ، فإن التعددية هي مصدر ثرائها وعامل تطورها. ولأننا في العالم العربي لم نجرب التعددية بالمعنى الحضاري والمدستر ، فإننا بقينا خارج ثقافتها. أجل ، صحيح أنه بين جنبينا عاشت أقليات وتعايشت بمقادير مختلفة من الانغلاق والانفتاح الذي تسمح به سياساتنا وفق حساسياتنا وشروطنا، لكن لا شيء كان يضمن للأقليات استمراريتها بكامل حقوقها المواطنية. في موضوع الشيعة العرب الذين تحدثت عنهم مقال الشيخ الغنوشي ، لا نلمس هذا التقدم في الوعي والثقافة عند الطرف المعني تحديدا بخلق مساحات وهوامش للإفراج عن هذه المجموعات المحاصرة والمسجونة في أوطانها ، و هي لا تتمتع بأدنى حقوقها الوطنية . وفي أفضل الحالات يتفضل عليها بهامش صغير يكرس النظر إليها كحالة مواطنية من الدرجة الثانية. فحينما تسجن جماعة من البشر لمجرد اختلافهم المذهبي في كانتونات هي بالأحرى من صنع الواقع السياسي المرير الذي يواجهونه في يومياتهم ، تكون النظم هي المسئول الأول والأخير عن أنماط التفاعل داخل هذه المجموعات البشرية التي ضاق بها التاريخ والجغرافيا في عالمنا الإسلامي بصورة تفضح حقيقة الحساسيات السياسية والمجتمعية التي تجري في غياب ثقافة تسامحية ما زال العقل العربي يمانع ضدها بأساليب مراوغة ومحتالة. كأن يفتعل مؤسسات للحوار مع المختلف البعيد فيما هو يصادر أبسط الحقوق ضد المختلف القريب. وإذا كانت بعض الدول تعتقد أن الخوض في حوار الأديان والثقافات مع المختلف البعيد من شأنه أن يحقق لها مردودية سياسية واقتصادية ، فإنه لا ضير أن يقال كم ستخسر هذه الدول بممانعتها ضد الحوار الوطني والاعتراف بحقوق مواطنيها. من هذا المنطلق أعتبر أن مقالة الغنوشي لا زالت رغم تميزها بقدر من الموضوعية رهينة لهذا العقل الذي يسعى إلى إدانة الشيعة وفق مقررات كتاب الملل والنحل ولا يحاول أن يقرأ قضيتهم في إطار فكرة المواطنة ودولة القانون وحقوق الإنسان وآخرا وليس أخير إن اقتضى الحال قراءتها في إطار حقوق الأقليات . مع أنني أرفض الحديث عن أقليات مذهبية في الدول الإسلامية ، لأن حقوق المواطنة تجعل منهم شركاء في الوطن ومتآخين بالأخوة الإسلامية وليسوا أقليات. هناك في العالم العربي الكثير من السنة يتعاطفون مع إيران رغم كل ما يبدو من خلاف مذهبي بينهم وبين إيران. وبالمقابل هناك تعاطف عفوي بين الشيعة العرب وإيران انطلاقا من تعاطفهم مع قضاياهم العربية والإسلامية وفي طليعتها القضية الفلسطينية. وآخرون تحت ضغط الخواف من إيران والخشية من جعلهم طابورا خامسا لايران يسعون إلى نقد جذري للمشروع الإيراني طلبا للسلامة وفك الارتباط. وهذا هو الآخر ضرب من الترهيب يمارس ضد الشيعة. أي ليس من حقهم التعاطف مع إيران ، لأنها شيعية. ومع ذلك نقول إن موضوع الشيعة العرب وقضيتهم لا علاقة لها بما يجري في إيران ، لأنها قضية حقوقية تتعلق بمطالب وطنية داخلية. لقد صدق الغنوشي حينما ردّ تهمة الدور الإيراني في مشاريع تشييع المجتمعات العربية. وإذا كان الشيخ الغنوشي يستشهد بحديث الشيخ التسخيري  في هذا المجال ، فإني أؤكد له ـ وأنا معني بهذه التهم الرخيصة ـ بأن لا شيء إسمه مشروع تشييع العرب وتحديدا المغارب.وهو يدرك تماما أن تونس طورت علاقات مميزة مع إيران خارج قلق الشيعوفوبيا.وكذلك الأصوات التي ترتفع في الجزائر هي ليست رسمية بقدر ما هي أصوات شريحة مردت على معادات الشيعة على أسس مذهبية . وفي المغرب حصلت وعكة ديبلوماسية حاول الكثير ركوب موجتها عبثا.وفي الخليج طبعا ليست إيران في حاجة لتشييع شيعتها لأنهم كانوا هناك قبل تشكل الدولة الحديثة. كما أنها ليست في حاجة لأن تحرضهم لطلب حقوقهم التي ظلت مطالب مطروحة قبل قيام الثورة في إيران.كل ما يقال حتى الآن يراد منه التبرير وقول نصف الحقيقة وحجب الموقف العقلاني والواقعي من القضية الشيعية باعتبارها مشكلة نظم لم تعرف بعد طريقها إلى دولة القانون والحريات العامة وحقوق الإنسان في التعبير والانتماء الديني. هناك إذن فضائيات شيعية تسعى لاستعراض عقائدها الشيعية كما يذكر الغنوشي، هذا واقع مشهود . وهو عمل يجب النظر إليه من وجهة نظر أخرى. ليس الأمر هنا في تقديري هو التبشير الشيعي بل الغرض هو دفع التهم عن معتقداتهم. وهي تهم راجت قرونا لم يكن للشيعة وسيلة لتكذيبها إلا بعد تحقق الثورة الرقمية. وفي المقابل هناك قنوات فضائية من الطرف المقابل تمارس نفس الأدوار. وبعيدا عن الشاشة والمجال الافتراضي هناك مشاريع تتحرك على أرض الواقع. في بلاد المغارب لم يتمدد التشيع بالمعنى التبشيري بقدر ما تمددت الدعوة السلفوية ـ وأحترز دائما باللاحقة من احتكار هذه الصفة التي هي محل تشارك جميع المذاهب الاسلامية التي ترى نفسها على نهج السلف الصالح بما في ذلك الشيعة أنفسهم ـ التي نشطت بخلاف الأعراف والقوانين، لأنها تحركت بالمال. وأما الإيرانيون فلم يتصرفوا إلا بأقل ما يمكن أن تتصرف به أي سفارة منسية وكسولة من سفارات آخر الدنيا . لقد أحدثت هذه التموجات الكبيرة والمسنودة بدعم كبير من مؤسسات معروفة شرخا في أعرافنا الدينية ومارست التبشير لأنها كانت تقايض على معتقدات الناس بالمال. ولا نحتاج في هذا إلى دليل لأننا شاهدين عليه ومورس أمام أعيننا.ويكفي أن يقال هنا أن أغلب المتشيعين هم فرديون وعفويون وفقراء. وفي هذا الإطار يمكننا التذكير بأن مطالب الشيعة العرب في بلدانهم هي مطالب وطنية متعارف عليها في كل بلاد الدنيا وهي لا تتجاوز المطالبة بالمواطنة الكاملة والحد المطلوب من الحقوق. وهي كما لا يخفى وكما تدركها المؤسسات الدولية المعنية، حقوق مهضومة بالكامل. ولكل بلد خصوصياته التي تحدد سقف تلك المطالب الإنسانية والمدنية. وربما بعض النظم تساهم في الدفع بالشيعة إلى مزيد من الانزواء والسلبية وفقدان الثقة في بلدانهم نتيجة الضغط الزائد والمبالغ فيه وهضم الحقوق والإمعان في الاتهام. ومع أن هذه النظم هي علمانية على الأقل في إجراءاتها وسياساتها ، إلا أنها تستدعي مواقف تقليدانية غارقة في الطائفية الدينية المناقضة لدولة الإنسان والقانون. ومن هنا يجدر القول أن النظم العربية هي من يشجع الشيعة العرب على الاغتراب والإحساس العارم بالهامشية والاضطهاد. وأحيانا تتواطأ بعض الحركات الإسلامية سرا وعلنا في الوشاية والتحريض ضد الشيعة العرب بينما كان من المفترض أن تكون الحركة الإسلامية في طليعة المتبني لقضايا الشيعة العرب وحقوقهم في بلدانهم، لأنها بحكم تجاربها هي الأعرف بحرصهم على قوة الإسلام ونصرته. وربما تساءلنا : لماذا يخسر هؤلاء الأعلام احترام الشيعة لهم، لا سيما حينما يلاحظون أن قراءتهم لا تتميز عن قراءة خصومهم التقليديين؟! إنني شاهد على نضج الشارع الشيعي في تعاطيه مع موضوع احترام المجال السني وقضية التقريب والوحدة خارج الملتقيات البروتوكولية التي عادة ما يعتبرها البعض مناسبات للمجاملة أو مجالا لممارسة التقية الشيعية والتورية السنية. فشهادتي نابعة من معايشتي لمجالسهم العامة والخاصة . وعندي من الأمثل ما لا يسعه المجال. ومع ذلك أقول إن حدوث حالات من التشيع هنا وهناك أمر طبيعي جدا، حصلت له نظائر في التاريخ الإسلامي دون ضوضاء ولا بفعل تبشير ، لأن حالة الذهاب والإياب بين المذاهب الإسلامية مما تعارف عليها علماء كبار في تراثنا، فلماذا لا نحسن قراءة تاريخنا؟!

لقد انزلقت مقالة الشيخ الغنوشي من حيث درى أو لم يدري ، في اتجاه تجريم الموقف الشيعي عقديا مما يوحي بأن الموقف القاسي منهم في تلك البلدان هو رد فعل طبيعي دون البحث عن حلول ومخارج ومحاولة لفهم الموقف الشيعي خارج مقررات علم الكلام وأدبيات الجدل المذهبي. ذلك لأن أوطاننا ليست صناعة كلامية ـ من علم الكلام ـ . وهنا لم  يكن من الضروري أن يقحم الشيخ قضية التبشير الشيعي ومسألة سب الصحابة وما إليها من اجترارات كلامية تحمل مضامين الصراع والجدل الطائفي في هذا المجال. فإذا كان النشاط الديني حينما تمارسه كل مدرسة أو مذهب حتما سيحمل لونها ومبادئها ، فإن لكل بلد في العالم الإسلامي أدوارا ومهاما دينية تبشيرية إقليميا ودوليا. ففي كل بلاد أوربا وأمريكا وآسيا هناك مؤسسات ومساجد تابعة لدول عربية ترعاها عبر إرسالياتها. وإذا كان الشيعة بما هم مسلمون يقومون بواجبهم الديني في كل البلاد ـ رغم أن الغنوشي اختزل أدوارهم داخل الأمة وهذا غير صحيح كما أن العمل داخل الأمة زاولته دول عربية لصالح مذهبياتها كما لا يخفى ـ دون أن يعني ذلك ممارسة التبشير بالإيحاء نفسه الذي يقال عن التبشير المسيحي. هناك نظرة غير سوية تسعى لتحسيس الشيعة بأن لا حق لهم في أدوار دينية على أساس مذهبهم. فهل المطلوب أن لا يتحركوا دينيا أو يتحركوا طبق قوانين مذهب غير مذهبهم؟!

نعم ، إن مقالة الشيخ الغنوشي متقدمة خطوات على طريق فهم أفضل لوضع الشيعة وعلائقهم. لكنها ليس كافية وتتطلب مزيدا من الاجتهاد في تحقيق رؤية أكثر واقعية ودقة وعمقا لمسألة شديدة في تركبها كما هي المسألة الشيعية!

 

إدريس هاني

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1107  الاثنين  13/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم