قضايا وآراء

مصابيح الزمن الآخر (1)

 لاشك تنبعُ من بواطنٍ في الغالب لا تبارحُ عشقَ رغباتِ الاعتبار مهما علت همتُها، ولذلك صار الفقهُ اليومَ كلُ الفقهِ طيناً لا ماءَا زلالا ولا محض تراب.

لكل هذا لن يتمكنَ الفقهُ من صناعةِ إنسانٍ بمعنى الشعور بالجوهر الذي كلما انتبه الإنسانُ لحظةً أحسَّ بأنه مدفونٌ في أعماق أعماقه كما كنوز البحار التي دفنها الطمي حتى صار إمكان العثور عليها مغامرةً قلما تكللت بالنجاح..

ساحة الأنبياء حتما مبرئةٌ تماما من كل ما من شأنه أن يصورهم بصورةٍ تنافي الروح وتجعل حركتهم نوعَ تمسكٍ بالتراب، الأنبياءُ يا صاحبي محض نورٍ أشرق على صحراء نفوسنا البائسة فصار رملها نارا أحرقت أقدام السائرين، فإستحال الوصول محض انتحارٍ مهما انطلت الخديعة، فالذنبُ ذنبُ الصحراءِ وإلا فالشمس لولاها لما أزهرت زهرةٌ ولا فاحَ عطرها، هذا والشمس ليست سوى قبَسٍ من نور الأنبياء...

 

مصباح (2)

هب إنّي وأنت صدّقنا بما يقوله جاك دريدا ولم يُكشف بعدُ الغطاءُ عن أبصارنا، لوجدتنا ألان نجوب البلاد لا همَّ لنا سوى تفكيك الكلمات، فهذا يضرب ذاك، وذاك يناقض هذا ولا شيء يصمد أمام معول الحفر حتى ينتهي الحفر الى آلة الحفر ليحفر بها قبرا لها، بعدما يكون قد فكك بين جذع المعول و صلبه.

 انه عبثٌ ليس أكثر، محض لعبٍ لا ينتهي بنا إلا الى مزيد من الدوران السريع حول الذات التعيسة، ومن ثم الدوار فالقيء لينتهي الأمرُ بعد ذلك الى عودةٍ أخرى الى الدوران....

لا ازعم أن الفلاسفة بلغوا من التفاهة او الغباء أقصى الحدود، لكن لا شك في أنهم اتعبوا الأرواحَ المطمئنةَ كثيرا، بما سفسطوا من أشياء لم يعد لها في فمي من مذاقٍ سوى مرارةَ التيهِ ونتانةَ اللاقَرار...

مؤكدٌ أن الفلاسفةَ والمتكلمين والفقهاء، وسائرَ من بذلوا العمر بحثا في العلوم الإنسانية الأخرى كان جهدهم ونتاجهم مهما جدا.

 بيد أن هذه العلوم لا تمثل شيئا أكثر من قشرِ بيضة (هذا لمن جعلَ حقيقةَ أن الإنسان يموت ماثلةً بين عينيه وشَغلَهُ هَمُ التساؤل عمّا بعد الموت) لولاه لما حُفظ بياضها ولا الصفار، فإن فرطنا بالقشر ضاعَ الصفار والبياض، وإن وقفنا على القشر لم نشاهد لا صفارا ولا بياضا...

عقدان ونصف العقد كانت حصة اهتمامي بالقشر كنت فيهما دائما ابحثُ عن البياض والصفار، فأكسرُ القشرَ حيناً وأرممه أخرى، ريثما فارق الاهتمام بالقشر قلبي تماما وكان ذاك قبيل إشراق نورك الذي أخذ بمجامع قلبي وانتهى بي عاشقا يحن الى رؤياك أخرى وأخرى وأخرى، وهل يملُ الحبيب من التحديق الى وجه حبيبه...

تعسا لهيجل ودريدا وكل المساكين الذين جعلوا المعقول كبير همهم، وهل يتعقل الإنسانُ كل الحقائق، أهذا معقول؟؟ إن الإنسان إذا آمن بعقله فهذا يعني الإيمان بصناعة التاريخ للإنسان فالعقل ابن التاريخ ليس له أن يتخطى حدود تاريخه بما حُمّل من معارف، فتصور انك ستعود ثانية الى هذا العالم بعد ألفي سنة مثلا فهل سيصدق عقلك ما يرى وهل سيعتبره معقولا..

الحقَ أقولُ لكم إن اللامعقولَ معقولٌ هو أيضا، فلا يستبعدنَّ أحدٌ إحتمالاً لعلّه يكون حقيقةً واقعة..

محض نصيحةٍ ليس أكثر..

 

مصباح (3)

حدثنا الدرويش العظيم جلال الدين الرومي: أن فقيهاً سُئِلَ عن صوفيٍ فقال: هو يطالعُ كتبَ القدماء ويقول ما وجدَ من مقالاتهم، فقيل له: وأنت أيضا تطالع كتب القدماء فلماذا لا تقول كما يقول ولا تؤثر كما يؤثر، فقال الفقيه: انه رجلٌ صاحبُ جدٍ وكدٍ ومجاهدة..

العرفاء يا سادتي متكبرون جدا ولذا لا يمكن أن يجدوا لهم في قلبي مكانا، اقصد طبعا من قالوا أنهم عرفاء، إنما قلبي مرتع للدراويش الصادقين، المتصوفة الأحرار، الراغبين المخلصين، المريدين السالكين، الفقراء المساكين.

 كل أولئك على هدى من ربهم، كل أولئك في اعتقادي يمثل أفضلَ ما استطاع نوعُ الإنسان أن ينتجه بعد الأولياء والأنبياء طبعا. فهؤلاء لا يصدر عنهم إلا التسامح والحب والزهد. لا يزاحمون طالبا لجاهٍ او سلطانٍ البتة، لكنهم بالحق ينطقون، لا يخافون من سلطانٍ ولا له عليهم سلطان،  وليس للخشية منه مكانا في مهجهم المليئة بأمنيات الخير لكل الغير دون استثناء.

 لا يزاحمون صاحب دنيا على دنياه بيد أنهم بوجودهم يدللون عظيمَ الدلالة على حمق الإنسان إذا لم يتعلم درسَ أن يكون إنسانا فيرحم، فكيف يرضى إنسانٌ أن تكون له المائدة كلها ولأخيه كسرةَ خبزٍ وبعضَ ملحٍ ملوثٍ بالطبيخ..

كيف يرضى إنسانٌ أن يحكمَ إنسانا ثم يكون له من بيتِ مالِ الدولةِ ما يُعد بالملايين شهريا وليس لمن حكَمه سوى بضع آلاف لا تغني ولا تسمن ولا توجب حفظَ ماءِ وجهٍ ولا كرامة..

الفقيرُ الزاهدُ يقول: تعسا لكم من حكام، ثم تعسا لهم من محكومين لا يهبوا الى المائدة فينتزعون رغيفَ الخبزِ من بين نواجذ السلطان كائنا من كان، ثم يرتعون في باحة قصره حتى يقيمَ عدلا ويعرفَ الحق حقا...

الدراويش يا سادتي هم الزهادُ العرفاءُ، وليس من صاروا محضَ فلكلورٍ روحيٍ هو الى السحر والشعوذة أقربَ منه الى طريقة الدراويش الأوائل كشمس الدين وجلال الدين و أبي حامد وغيرهم من أهل الحكمة والمجاهدة والفكر...

نكتفي بهذا القدر ولنا عودة إن شاء الله.

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1113  الاحد 19/07/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم