قضايا وآراء

مصابيحُ الزَّمن الآخر (2)

 سؤالٌ طالما سمعته يُطرح عبر التأريخ الطويل على أهل الله: ما لكم، أما تستحون إذ تخالطون من لا يليق شأنه بشأنكم، إنَّكم نكَّستم رؤوسنا، وصرتم عاراً علينا بصنيعِكم هذا، لا يليق بشأنكم إلا أن تكونوا مع من هو على شاكلتكم، أو أن تكونوا مع علية القوم من الساسة والتجّار الذين هم أتقياء يلتزمون بإعطاء أموالِهم لمن هم من أمثالكم، خدمةً للحقّ...

 بُعداً للنفوس التي تستحبُّ الحياة الأولى على الآخرة...

تعساً لمن أجابهم المسيح العظيم بأنَّ الأصحّاء لا يحتاجون الطبيب، إنَّما المرضى هم من يحتاجون الطبيب..

ولعلَّ تطبيب أولئك أسهل بكثيرٍ من تطبيب هؤلاء، ذاك أنَّ هؤلاء لا سبيل إلى صلاحهم بعدما كانت نفوسهم هي سبب بلاءهم، أو بعدما استحوذت الرغبة في التراب على قلوبهم، فما عاد لرادعٍ أن يردع ما هو من سنخ الجوانيّات الخفيَّة...

فلو اطلعتَ على صورهم الباطنيَّة لولَّيتَ منهم فراراً فراراً فراراً، ولملئتَ منهم رعباً...

كيف يعالَجُ مرضى النفوس الذين لم يتعلَّموا بعدُ درسَ الإنسانيَّة الذي علَّمه الأنبياء والصلحاء والإنسانيّون جميعاً، وما زالوا على تعليمهم يواظِبون..

هذا يقول الحقَّ معي، وأنا على صراطٍ مستقيم، وذلك يقول إنَّك لستَ على شيءٍ، إنَّما الحقُّ كلُّه لنا ولا مكان لك إلا أن تكون من الخاسئين.

 فالكفرُ وحده هو السِّمةُ التي يجب أن تطلق على صراطك المعوجّ...

ثالثٌ يقول: كلاكما على ضلالٍ بلا ريب، فنحن الفرقة التي أكَّد الله أنَّ الفوز نصيبها، ودونكم نار جهنَّم، فيها لا شكَّ ستكونون من المعذَّبين الخالدين!.

 وهكذا تتعدَّد الطرق والمشارب والأذواق، كلُّهم يدَّعي أنَّ الليلة ليلته والعرس عرسه!

 تعساً لهم جميعاً، أما علموا أنَّ الطرق الى الله على عدد أنفاس الخلائق، فكلُّ من قصده وجد طريقاً سالكاً متَّجهاً صوبه، ولُّوا وجوهكم أنى شئتم فثمَّ وجه الله لا غير، أينما تولُّوا وجوهكم فلا وجهة لكم على وجه الحقيقة إلا وجهه.

أيُّها الإنسان الزائل التعيس، إنَّك كادحٌ كلَّ الكدح،  بل أيَّ كدحٍ، ثمَّ لا محيص لك، ولن ينجو من هذه الحتميَّة أحد، كلٌّ إلى ذاك اللقاء يسير...تعيش لتبني الموت كما قيل..وبعد الموتِ اللقاء..إذن تعيش وتكدح من أجل اللقاء..

فتِّش في أعماق ذاتك، هل تضمر الخير أم الشرّ، هذا هو المهمّ..

فتِّش جيِّداً..هل تضمر الحبَّ أم البغض..هذا هو المهمّ..

فتِّش ثمَّ فتِّش، وانتزع كلَّ مخالب القبح التي أنشبت أظفارها في مخادع نفسك، انتزعها بقوَّةٍ وحزمٍ كي تجد المنشود من إنسانيَّتك الضائعة، أيُّها الإنسان المسكين...

 

مصباح (5)

ما بك تفتِّش عن يمينك وعن شمالك، فوقك وتحتك؟

 أنظر أسفل قديمك، طأطئ رأسك تجد تلك الجوهرة التي تبحث عنها أيُّها الإنسان المسكين...

ربما تصوَّرتَ أنَّ الرجعيَّة سوف تهيمن إن ساد خطاب الدين، وبذلك سوف تتقهقر الإنسانيَّة وتنحطُّ لقساوة قلوب من لا يجد في نفسه رادعاً عن أن يجعل الدماء أرخص من الماء الآسن.. لا أعطيك الضمان إن ساد الخطاب الطينيُّ الذي هو لا من ماء الأنبياء خالصاً، ولا من تراب الناس خالصاً، مزجٌ لهذا بذاك..أتعبنا اللون الرماديّ، تعساً، سنصاب بعمى الألوان حتماً...

لكنَّني أعطيك الضمان إن كانت كلمات الأنبياء والأولياء والفقراء هي التي ستسود، أعطيك الضمان بأنَّ الإنسان المسكين سيصبح إنساناً حقاً...سيتعلَّم درس الإنسانيَّة الصعب...

يحقُّ للفلاسفة أن يعترضوا على الخطاب الذي يدَّعي أنه مالكٌ ناصيةَ الحقيقة، الكهنوت يكذب عادةً في تمثيل الله، لكنَّ الرسل لا يكذبون، إنهم جند الله حقاً..الأولياء لا يكذبون، إنهم يد الحقِّ يقيناً..الفقراء لا يكذبون، إنهم عيال الله حقاً..هل تعلمنا من ابن الإنسان إذن ذلك الدرس الذي أرادنا أن نتعلَّمه..هل ساد الحبُّ دهاليز الظلام فأمسكَ بياقة الكراهية والتعصُّب، وضرب رأسيهما ببعض، ثمَّ دمغهما حتى أزهق روحيهما، ليخرجا من أعماق ابن آدم مذ       مومينِ مدحورينِ بلا رجعة؟!.

الإنسان هو الإنسان منذ بدء الخليقة، يحبُّ الكمال والخير، ويحنُّ إلى النقص والشرّ، حيوانٌ له عقلٌ، كتلةٌ لحميَّةٌ لها قيمةٌ فيزيائيَّةٌ كقيمة الحجر والرصاص والخارصين، ولكنَّه ذو روحٍ وقلبٍ وأحاسيس ومشاعر وجوانيّاتٍ لا يعلمها إلا خالقها سبحانه..

الإنسان كائنٌ متناقضٌ يتكلَّم بالحكمة، ثمَّ ينزو كما ينزو الكلب، ليلهث فرط اللذَّة التي سرعان ما تتلاشى، ليعيد الكرَّة أخرى وأخرى وأخرى..

إنها الغريزة. مسكينٌ أيُّها الإنسان...

لهذا على الإنسان أن يتعلَّم الدرس كما تعلَّمه يوماً حتى من الغراب، فهذا الدرس وحده ما يتكفَّل بمشروعٍ حقيقيٍّ للخلاص..أما الجدل القديم فلا يخلق إلا مزيداً من الحمم التي تشوِّه كيان الإنسان..وأما تجاهل المصير فهو غفلةٌ سرعان ما تصدم الإنسان اليقظة منها ولا ت حين مندمٍ...

بالحبِّ والخير والتسامح نكنس بيوت نفوسنا كيما تشرق فيها أنوار العشق...وحينئذٍ سوف تهرب كلُّ الحشرات بعيداً ويستوطن الإنسان أعماق نفسه ليكون إنساناً...

صلوا معي جميعكم صلاةَ العشق والحبّ ..

صلاةَ الغفران والتسامح..

صلاةَ صداقة الإنسان للإنسان..

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1114  الاثنين 20/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم