قضايا وآراء

توظيف الفلسفة في التفسير عند السيِّد الشهيد محمَّد الصدر

لأنَّ عقل الإنسان بطبيعته لا يستطيع إطلاقاً أن ينكر الفلسفة إلا بالفلسفة نفسها، وهذا لا نقاش فيه، لكننا نقصد أنَّ بإمكان المفسر أن يعلن تمرُّده على كلِّ المناهج والمقولات الفلسفيَّة الموروثة، وأن يستقلَّ تماماً بطريقته في التفكير داخل الحقل البيانيِّ التفسيريِّ الخاصِّ به، وليس هذا بالشيء الصعب أو المستحيل على فيلسوفٍ مجتهدٍ كالسيِّد محمَّد الصدر قدِّس سرُّه.

لكننا مع ثقتنا التامَّة بقدرة السيِّد الشهيد على أن يفعل ذلك، نراه قد اتجه نحو الفلسفة فاتخذ منها مجالاً للحوار وبناء الأطروحات، مع أنه كان يعيش في ذروة الإستقلال بفكره ومنهجه، كما إنه كان معترضاً في منهجيته العامَّة على الإستلاب الكبير الذي يبديه العديد من كتّاب الفكر الإسلاميِّ أمام الفلسفة بشقَّيها القديم والحديث، وكان يدعو صراحةً إلى أسلمة كلِّ مناهج التفكير الإسلاميَّة على كافَّة المستويات.

فالسؤال هو: لماذا إذن هذا التوجُّه نحو الفلسفة لمناقشتها نقضاً وإبراماً، أو لبناء المزيد من الأطروحات المحتملة حول العديد من المسائل التي شكَّلت محاور أساسيَّةً طبعت هذا الكتاب بطابعها، وجعلته متميِّزاً في منهجيته وأطروحاته وأساليب تفكيره بشكلٍ عامّ؟

 

الجواب  

ليس من المحتمل أن يكون مثل هذا الإتجاه نابعاً من تناقضٍ أو تنافرٍ بين المنهجيَّة العامَّة للسيِّد الشهيد، الداعية إلى أن تكون للفكر الإسلاميِّ شخصيته المستقلَّة عن كلِّ ما هو خارج الفضاء العامِّ للثقافة الإسلاميَّة، وبين أن يقوم بمثل هذا العمل، ويمكن بيان ذلك من خلال ما يلي:

 

تأصيل الفكر الإسلامي لا يعني التخلي عن التراث الفلسفيّ

ما هي الثقافة الإسلاميَّة، أو ما هي الموادُّ الأوَّليَّة التي يتشكَّل منها الفكر الإسلاميُّ الأصيل، فالجواب على هذا التساؤل حاسمٌ في مقام إنهاء فكرة التناقض بين المسارين في تفكير السيِّد الشهيد قدِّس سرُّه.

إنَّ القرآن الكريم والحديث النبويَّ الشريف وكلمات أهل البيت عليهم السلام والأدب والفلسفة وكلَّ ما كتب في فضاء الحضارة الإسلاميَّة هو ما يشكِّل المقوِّمات الأساسيَّة لما نسميه بالثقافة الإسلاميَّة أو الفكر الإسلاميّ.

لهذا فإنَّ من الإرتجال في التفكير افتراض وجود تنافرٍ بين أن يدعو السيِّد الشهيد إلى تأصيل الثقافة الإسلاميَّة وبين أن يستغلَّ التراث الفلسفيَّ الإسلاميَّ بما هو جزءٌ لا يتجزَّأ من هذا الكلِّ المسمّى بالثقافة الإسلاميَّة لتأصيلها وزيادة ما فيها من عناصر القوَّة والتركيز في مجال تدعيم أدلَّتها وبراهينها، سيَّما عندما تكون تلك المفاهيم الفلسفيَّة المستقاة من معين هذه الثقافة داخلةً في صميم البناء الفكريِّ والمفاهيميِّ للشريعة الإسلاميَّة ذاتها، حتى أنَّ التفكيك بينها وبين الإسلام نفسه لم يعد ممكناً في نظر السواد الأعظم من المسلمين في العالم عبر أجيالهم الطويلة المتعاقبة.

فإذا طالب السيِّد الصدر الكتاب الإسلاميين عموماً بأن يكونوا على قدر المسؤوليَّة فيما يخصُّ مسألة التأصيل وتجنُّب الوقوع ضحيَّة الإستلاب أمام الثقافة الغربيَّة وفلسفتها على وجه التحديد، فإنه لم يكن يقصد بهذا إلا أن يتجنَّب الكتاب والمثقفون المسلمون أن يفكروا في مسار هذه الفلسفة، أو أن يتبنَّوا أفكارها وأطروحاتها في مواجهة الأطروحات الإسلاميَّة والقرآنيَّة الخالصة، كما إنه قصد أيضاً أن يتجنَّب هؤلاء استخدام الإصطلاحات التي تبتعد بالفكرة عن نقائها من جهة انعكاساتها الموشوريَّة ذات العلاقة بالفلسفة الغربيَّة ومسارات تطوُّرها وصيرورتها البعيدة عن الرؤية الإسلاميَّة والقرآنيَّة النقيَّة الصافية.

 

ومن الطبيعيِّ أن يظلَّ الكاتب بعد ذلك حراً في مجال التنظير والكتابة حول الإسلام، فله مطلق الحقِّ في أن يختار المدخل الفلسفيَّ أو الكلاميَّ أو الجدليَّ أو السجاليَّ الذي تكون غايته نصرة العقيدة الإسلاميَّة وإغناء ترسانتها الفلسفيَّة والمفاهيميَّة مع الحرص على أن لا تقع الثقافة الإسلاميَّة بشكلٍ خاصٍّ في فخِّ الإغتراب والإستلاب.

 

ثمَّ إنَّ هناك مسألةً هامَّةً معلومةً للجميع، إلا أنه لا ضير من التعريج عليها من أجل انتظام سياق الكلام حول هذه النقطة، وهي أنَّ المفكرين الإسلاميين لكي يكونوا قادرين على الدفاع عن الشريعة الإسلاميَّة فليس يكفيهم في هذا المجال الإطلاع على الثقافة الإسلاميَّة بما في ذلك تراث المفسرين الكبار والفلسفة الإسلاميَّة، بل لا بدَّ لهم من أن يبذلوا جهوداً مضاعفةً في سبيل تحصيل العلم بكلِّ مفردات ومسارات الثقافة والفلسفة الغربيتين، شريطة أن يكون الهدف من هذا الإطلاع أمرين:

الأمر الأوَّل: أن يقع العلم بمفاهيم الفلسفة الغربيَّة مقدِّمةً للردِّ على الشبهات المعروضة والمتوقَّعة، لوضوح أنَّ الردَّ على كلِّ ذلك مستحيلٌ تماماً ما لم يتقدَّمه العلم التفصيليُّ وليس الإجماليّ فقط بكلِّ ذلك.

الأمر الثاني: إنَّ الإطلاع المعمَّق على الفلسفة الغربيَّة نفسه يترك أثره الإيجابيَّ على الثقافة الإسلاميَّة نفسها، عن طريق توفير الردود والإجابات على كلِّ الأسئلة المثارة ضدَّها، وهذا واضحٌ من خلال استعراض التطوُّر الحاصل على صعيد الخطاب الفلسفيِّ الإسلاميِّ المعاصر كما يتجلى في مؤلَّفات الجيل الإسلاميِّ التنويريِّ الأوَّل والجيل الإسلاميِّ التنويريِّ الثاني، أي جيل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وهبة الدين الشهرستاني والنائيني وجيل محمد حسين الطباطبائي وتلميذه الأستاذ مطهري والسيِّد محمد باقر الصدر وأسماء أخرى عديدة في أرشيف الفكر الإسلاميِّ التنويريِّ المعاصر.

 

شحن المقولات الفلسفيَّة بالمعنى الدينيّ

نتحدَّث في هذا المقام عن هدفٍ آخر، وهو أن يعمد المفكر إلى المقولة الفلسفيَّة ذاتها فيحاورها، أو ينحرف باتجاهها نحو الهدف الدينيّ، ويشحنها بالمعاني العقائديَّة الصحيحة، حتى تفقد المقولة إيحاءاتها وظلالها السابقة، لتكتسب الإيحاءات والظلال المناسبة والمنسجمة مع المغزى الدينيِّ تماماً، وليس هذا بالعمل السهل طبعاً، لأنه يفترض في المؤلف قدرةً هائلةً على تغيير المسار لكلِّ المقولات الإيجابيَّة في نظر الإنسان المعاصر، ليس بنفيها، ولكن بتبنيها وشحنها بما يجعلها في خدمة الغرض العقائديِّ والدينيِّ الصحيح، مستهدفاً بذلك:

الهدف الأوَّل: أن يتغلغل الغرض الدينيُّ في ذهن الإنسان المعاصر ليس من نافذةٍ غريبةٍ عن ثقافته ومعطيات عصره الفكريَّة والفلسفيَّة، فغالباً ما يكون مثل هذا الدخول عسيراً بل مستحيلاً بالنسبة إلى الأغلبيَّة الساحقة من الناس، خاصَّةً بين ذوي الثقافة العصريَّة الكبيرة منهم، بل من نافذة ثقافته نفسها، ليعرف أنَّ هذه المفاهيم الفكريَّة والفلسفيَّة التي جذبته إلى ساحتها بما أوحته إليه من إيجابياتها، كانت فعلاً تستحقُّ التقدير لولا أنها تحتوي على مقدارٍ كبيرٍ من المغالطة على المستوى التأمُّليّ، فإذا أفلح المفكِّر أو الفيلسوف الإسلاميُّ المعاصر أن يكشف هذه المغالطات الدقيقة للقارئ الحديث فإنه سوف ينقلب على المفهوم بتعديله واكتشاف الثغرات الفلسفيَّة والمنطقيَّة فيه، بدلاً من أن يكون مضطراً إلى رفضه جملةً وتفصيلاً، فلا يكون مقتنعاً من الناحية الآيديولوجيَّة آنذاك بصحَّة مثل هذا التصرُّف، لأنه سيحسُّ أنه تخلّى عن مقدارٍ كبيرٍ من الحقّ، إن لم يحسَّ أنه ضحّى بالحقِّ النظريِّ كله من أجل السلامة على المستوى الدينيِّ والعقائديّ، ولن يكون من شأن إيمانٍ كهذا إلا النكوص الفعليّ على صعيد القناعة العقليَّة أو على صعيد عدم استقرار الإيمان نفسه في النفوس، فتنقلب في لحظةٍ مفاجئةٍ إلى ما كانت عليه من الضلال والإنحراف.

الهدف الثاني: أن تكون المفاهيم الفلسفيَّة الإسلاميَّة قادرةً على التنافس والسباق مع مفاهيم الفلسفة الغربيَّة في المجال التداوليِّ العامِّ للفلسفة في العالم، فلم تعد المفاهيم الفلسفيَّة المستقاة من الفلسفة الإسلاميَّة القديمة قادرةً على خوض مثل هذا الصراع، ليس لأنها ضعيفةٌ في نفسها، ولكن لأنها خضعت لسنَّة التطور أوَّلاً، فبدت فاقدةً للكثير من المسائل التي تهمُّ العقل الإنسانيَّ الحديث، فإنها لم تكن مطروحةً على هذا العقل في طوره الموجود إبان كتابة تلك الفلسفة وتشييد صرحها المهمّ، ولأنها رغم قوتها لم تعد لغتها مناسبةً أصلاً لخوض هذا السجال في المجال التداوليِّ للفلسفة الحديثة.

الهدف الثالث: تعميق المعنى داخل المفهوم الفلسفيِّ الإسلاميِّ نفسه، بمعنى أنَّ كثيراً من المفاهيم الفلسفيَّة الإسلاميَّة تحتمل الإضافة والتطوير، ومن الطبيعيِّ أن يكون الحوار المستمرُّ مع الفلسفة الغربيَّة هو السبيل إلى تحقيق هذه الغاية.

 

هذا بعض ما يمكن احتماله من الفوائد المهمَّة على هذا الصعيد، دون أن نزعم أننا بالحديث السابق قد توخينا الإستقصاء التامّ.

 

باسم الماضي الحسناوي

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1119  السبت 25/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم