قضايا وآراء

ما وراء الفقه في الميزان الفلسفيِّ لعلم الفقه

 ناهيك عن الآراء الفقهيَّة المبثوثة في الموسوعات الإسلاميَّة المختلفة، لكنهم جميعاً تقريباً لم يختطوا لأنفسهم هذا التوجه الصدريَّ في اجتراح منهجٍ يأخذ على عاتقه اكتشاف البنى العميقة والأساسات العقليَّة والشرعيَّة والنظريَّة والفلسفيَّة التي تستند إليها منظومة الفقه الإسلاميّ، فلم يكن الفقه في بعده الإستدلاليِّ الذي يتخذ لنفسه المنحى العقليَّ الذي هو أقرب الأنماط إلى التفكير الفلسفيِّ إلا تطبيقاً لاحقاً لقواعد المنطق وبديهيات العقل على الآيات والأحاديث النبويَّة والروايات المعصومة عن آل البيت عليهم السلام، فهي تستمدُّ قيمتها من هذا التطبيق اللاحق لنفسها على مادَّة الفقه التي هي الآيات والروايات حصراً، فلا يكون الإنسان مطلعاً على الأفق الذهنيِّ والعقليِّ الواسع الكامن خلف التشريعات الفقهيَّة العديدة، ولا يعرف إلا على وجه الإجمال ما للفقه من العبقريَّة المفترضة، حيث يسلِّم بها بدوافع إيمانيَّةٍ ودينيَّةٍ محضةٍ، على استيعاب كلِّ تفصيلات الحياة الفرديَّة والإجتماعيَّة وتغطيتها التغطية القانونيَّة والسلوكيَّة العقليَّة الكاملة، لكنه لا يستطيع إطلاقاً أن يتصوَّر بشكلٍ عقليٍّ محضٍ المصدر الواقعيَّ لهذا الإستيعاب، بل هو مكتفٍ بالإعتقاد بالقضيَّة البسيطة القائلة: إنَّ الفقه هو تشريع الله، ولا يمكن أن يكون تشريع الله إلا كاملاً ومستوعباً للحياة، إذن فلا بدَّ أن يكون الفقه الإسلاميُّ على هذه الدرجة من الكمال وكفى، أما لو طلبت منه أن يحدثك لمدَّة ربعِ ساعةٍ مثلاً عن تفصيلات هذا الكمال حديثاً مستنداً إلى العقل والفهم الواقعيِّ منه للمنظومة الفقهيَّة فإنه عاجزٌ تماماً، إلا أن يجبهك بالقول أنك شاكٌّ بالله وبكمال الشريعة، ولولا هذا لما تقدَّمتَ بهذا المطلب التجديفيِّ العجيب.

مع أننا نستطيع أن نشير إلى كتاب (علل الشرائع) بصفته أنموذجاً قديماً لمثل هذا التوجه ضمن الإطار الذهنيِّ التقليديِّ القديم المحكوم بثقافة ذلك الزمان ومناخه العلميِّ والمعرفيِّ عموماً، ولا شكَّ أنه مناخٌ مختصرٌ وضيِّقٌ جداً بالقياس إلى المناخ المعرفيِّ والثقافيِّ والفلسفيِّ للعصر الحديث، وعلى هذا فلا بدَّ من أن يتمَّ النظر إلى كتاب (ما وراء الفقه) من هذه الزاوية، لأنَّ غايته هي هذه بالضبط، وهي أن يفتح هذا الأفق الواسع على تعقُّل الشريعة ما أمكن، أي أن يصبح الفقه منظومةً قانونيَّةً متعقلةً متسلحةً بفلسفةٍ تجعلها واقفةً على قدمٍ راسخةٍ أمام الأطروحات القانونيَّة والإجتماعيَّة والسياسيَّة والإقتصاديَّة الحديثة، وليس هذا فحسب، بل أن يكون واضحاً أمام الإنسان على أساسٍ عقليٍّ مدى ما تتمتَّع به الشريعة الإسلاميَّة من التفوُّق على كلِّ ما يخالفها من الشرائع في الأديان الأخرى، وعلى كلِّ ما يقابلها من المنظومات والأطروحات الوضعيَّة المعاصرة، وليست هذه بالمهمَّة السهلة بالطبع، بل ربما كانت أعقد مهمَّةٍ تواجه الفيلسوف والمفكر الإسلاميَّ على الإطلاق، كونها تتعلَّق بالجانب المهمل في الشريعة الإسلاميَّة على طول الخطِّ التأريخيِّ الطويل، فلو بذل الباحث قصارى الجهود في متابعة المكتبة الإسلاميَّة القديمة والحديثة فإنه لا يجد من المؤلفات ما يشفي غليله في هذا المضمار، على كثرة ما كتب في الفقه تنظيراً واستدلالاً وتأصيلاً في الجوانب المختلفة" فالكتب الإستدلاليَّة في الفقه كثيرةٌ، ليس كتابنا هذا منها، وإن صادف أن مارسنا الإستدلال فيه في فصولٍ عديدة، إمعاناً في إيضاح الفكرة، إلا أنَّ الهدف الأساسيَّ منه ليس هو ذلك.

وإنما الهدف الأساسيُّ منه هو التعرُّض إلى ما سميناه ما وراء الفقه، وهي العلوم والمعلومات التي تدخل في عددٍ من مسائله مما هي ليست فقهيَّةً بطبيعتها. وإنما تندرج في علومٍ أو حقولٍ خارجةٍ عن الفقه. والتي قلنا قبل إنها – مجازاً – جانبيَّةٌ وثانويَّةٌ في الفقه، لأنها تتضمن التفاتاً من داخل الفقه أو صلب العلم إلى ما هو خارجٌ عنه.

والفقه له ارتباطٌ بهذا المعنى بمعلوماتٍ لا تُعدُّ ولا تحصى. لا يستطيع هذا الكتاب، ولا ما هو أوسع منه الإحاطة بها، بل قد لا يمكن للطاقة الفرديَّة البشريَّة ذلك". ماوراء الفقه ج1 ص8

 

في هذا الكتاب يخرج علم الفقه من مداه العاديّ، ليغدو مغامرةً معرفيَّةً من الطراز الأوَّل، كونه لم يعد مجموعةً من الفتاوى التي يُستدلُّ عليها فحسب، بل هو ذو ارتباطٍ أكيدٍ بكلِّ ما هو بحوزة الإنسان المعاصر من العلوم الحديثة والفلسفة وعلم الإجتماع والقانون والإقتصاد والسياسة إلخ.

يقول السيِّدالشهيد" وبالرغم من أنَّ فصول الكتاب واضحةٌ في هذا الإرتباط، بالفلسفة واللغة والنحو والمنطق والفلك والفيزياء والكيمياء والطبِّ وعلم النفس وعلم الإجتماع والرياضيات وغيرها من العلوم وكثير من المعلومات العامة التي لا حصر لها.

إلا أنه مع ذلك يحسن هنا إيجاز بعض الأمثلة:

أوَّلاً: ارتباط الفقه بالفلك من عدَّة زوايا منها ضبط الأشهر بحركات القمر، وضبط أوقات الصلاة بحركات الشمس.

ثانياً:  ارتباط الفقه بالجغرافيا من زاوية اتجاه القبلة، وموارد أخرى أيضاً.

ثالثاً: ارتباط الفقه باللغة من زاوية فهم المفردات اللغويَّة الواردة في الكتاب والسنَّة.

رابعاً:ارتباط الفقه بالإقتصاد من ناحية تعرُّضه للمعاملات كافَّةً بشكلٍ مفصَّلٍ ومطوَّل.

خامساً:ارتباط الفقه بالأمور الماليَّة، من حيث مباحث الخمس والزكاة والصرف وتبادل العملات.

سادساً: ارتباط الفقه بالكيمياء، من زاوية تحريم الكحول كشيءٍ رئيسيّ، وموارد أخرى.

سابعاً: ارتباط الفقه بالرياضيات في موارد عديدةٍ من أوضحها كتاب الإرث في اشكال تقسيم الثروة.

ثامناً: ارتباط الفقه بالمنطق من زاوية الإلتفات الى صحَّة البراهين والإستدلالات وفسادها هناك، وهو أمرٌ مفروضٌ ضمناً في كثيرٍ من الأحيان.

تاسعاً: ارتباط الفقه بالعرفان من زاوية فهم الطهارة المعنويَّة والقربة المعنويَّة المشروطة في العبادات وفهم ما ورد من أنَّ الصلاة معراج المؤمن. إلى غير ذلك كثير.

عاشراً: ارتباط الفقه بالنحو من ناحية تشخيص بعض المقاصد المتوقفة على طريقة الإعراب في الكتاب أو السنَّة.

حادي عشر: ارتباط الفقه بالطبِّ من عدَّة نواحٍ، منها ما هو مرتبطٌ بالعادة الشهريَّة وتشخيص الوفاة.

ثاني عشر: ارتباط الفقه بعلم الإجتماع من عدَّة زوايا، منها: الإجتهاد والتقليد والقضاء وتحريم الإحتكار وغيرها مما هو مؤثرٌ فعلاً على المجتمعات.

ثالث عشر: ارتباط الفقه بالتفسير من زاوية آيات الأحكام، وهي الآيات المتكلفة لبيان الأحكام الشرعيَّة، وتوجد ارتباطاتٌ أخرى بالتفسير أيضاً.

رابع عشر: ارتباط الفقه بعلم دراية الحديث، من حيث تشخيص المعتبر من غير المعتبر من الروايات، وتقسيمها إلى صحيحٍ وموثقٍ وحسنٍ وضعيفٍ ومرسلٍ ومرفوعٍ وغير ذلك.

خامس عشر: ارتباط الفقه بالفلسفة يتضح عند الحديث من السحر أو التنجيم أو الموت وغير ذلك.

وأما ارتباطه بالكتاب الكريم نفسه والسنة الشريفة وعلم أصول الفقه، فهو ارتباطٌ عضويٌّ لا ينفكّ، إذ لا فقه من دون هذه الثلاثة على الإطلاق، إلى غير ذلك كثير، مما يتضح كثيرٌ منها من فصول هذا الكتاب، وقد لا يتضح بعضها أيضاً، كما سنقول الآن.

فإنَّ المعلومات (الثانويَّة) في الفقه عديدةٌ جداً فوق الإحصاء، إلا أنَّ الذي ينبغي التعرض له في هذا الكتاب هو ما كان له درجةٌ من الأهميَّة والتوسع والتركيز، أما المعلومات المختصرة التي لا يعدو الحديث عنها عدَّة أسطرٍ أو لا يزيد على صفحةٍ، فهذا مما يصعب التعرُّض له. لأنه كثيرٌ وفي نفس الوقت يسير". ما وراء الفقه ج1 ص8-10.

إنَّ هذه النظرة الجديدة إلى علم الفقه، تلقي على الفقيه مسؤولياتٍ كبيرةً أكبر من تلك التي كانت ملقاةً على عاتقه في الأزمان السالفة إلى عهدٍ قريب، فعلى الفقيه إذ يستنبط فتواه من أدلته التفصيليَّة أن يكون مستعدّاً تماماً للدخول في السجالات الفلسفيَّة والعلميَّة التي لا يكون التكهُّن بها مستطاعاً في بعض الأحيان إثر كلِّ فتوى ينطق بها في محفلٍ علميٍّ أو مناسبةٍ يكون فيها المثقفون والمفكرون حاضرين، لأنَّ المثقف المعاصر حساسٌ للغاية اتجاه أيِّ كلامٍ مهما كان محترماً أو مقدَّساً من زاويةٍ دينيَّةٍ ما لم يكن تعقله وفهم أساساته الفلسفيَّة والنظريَّة ممكناً، فلم يعد بالإمكان أن يتمَّ إنقاذ الفقيه من ورطته بأن يقال إنَّ اختصاصه إنما هو استنباط الفتوى من الأدلة الفقهيَّة التفصيليَّة في الشريعة الإسلاميَّة، فربما كانت النظرة القديمة للفقه يتمُّ حسمها بهذا الجواب، إلا أنَّ الفقيه المعاصر يجب أن يكون بمستوى التحديات المعرفيَّة المعاصرة، وإذا لم يكن كذلك فليكن قديساً في نظر الجماهير الدينيَّة دون أن يفتح فاه مدعياً الإدعاءات العريضة حول الأعلميَّة وما إلى ذلك من الأمور.

 

باسم الماضي الحسناويّ

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1124  الخميس 30/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم