قضايا وآراء

الصورة وما وراء الصورة

غادرت وحمّلتْ عينيها بأمواه نهر فرات بابلَ صافيةً رقراقةً كالدرِّ المنثورِ... ذكرى مَنْ أحبّت وتركتْ هناكَ ومناديلَ لتجفيف الدموع هنا وجبران الخواطر.

 

إليها في برلين تعاني من الغربة والوحدة وآلام المعدة. لا من يُشاركها الوحدة  إلا دُبّها الأزرق الصغير. تكلّمهُ فلا يردُّ فأي مُوأسٍ صامتٍ قاسٍ هذا؟ همستُ في الهواء ناصحاً: بدّليه بقطّة حيّة تموءُ إذا جاعت وتجاملُ وتنامُ على ذراعك. إنها تتحرّك ودبّك ساكنٌ لا يتحرك ولا يموء}. 

 

قالت همساً في الفضاء تكلّم دبّها أو دبتها:

(ما يهم عندي هو رؤيتك  ما وراء الصورة  و ما وراء الأشكال).

كيف أرى ما وراء الصورة من غير أن أراها أولاً؟ الصورة أولاً يأتي بعدها المخفي  وراءّها بحكم طبائع الأشياء. المنظور ثم المستور. من خلل المنظور يبدو المخفي جليّاً واضحاً وقد يتعكر ولا يصفو. الصورة هي مفتاح الدخول إلى عوالم وأرواح البشر. الصورة ولا سيّما العيون. العيونُ هي نوافذُ ومنافذ الرؤية... خلا ذلك لا من شيءٍ إلاّ العَتمة والظلام. كيف أرى ما وراء الصورة وليس في عينيَّ أشعة سينية {أشعة رونتكن، أشعة أكس}؟ بلى، أشعة أخرى موجودة تختلف عن أشعة أكس. أسميها تحصيل أو محصلّة تبادل وتفاعل إشعاعات النفوس البشرية لا بين سائر الناس عامةً ولكنْ بين بعضهم وخاصة هذا البعض. أفلم يقصد الشاعر أبو الطيب المتنبي هذا النوع من الإشعاعات الخاصة التي تربط قوياً بين إنسانين حين قال مخاطباً الأديب الكاتب إبنَ العميد:

نافستُ فيه صورةً في سترهِ

لو كُنتُها لخفيتُ حتى يظهرا

 

الصورة هنا هي صورة الرجل الممدوح. لكنها صورةٌ أخرى سريّة مستترة وراء حجاب لا يستطيع خرقه إلا نفرٌ معدودٌ من البشر. إخترقه المتنبي بالفعل والقول. نافس الممدوحَ في صورته أو شكله المستتر الغائب وراء ستار لا يُرى. نافس الصورة ولم ينافس صاحبها الواضح للعيان. ليس المتنبي مهتماً بالعيان وبالظاهر للعيان. العيان مبذول ومبتذل ورخيص. القيمة الحقيقية تقبع خلف العيان الشاخص المرئي. في الصورة. فيما وراء وجه الإنسان. العيان يتبدل ويتحول دواماً فهو خدّاعٌ مراوغٌ وهو رمال متحركة فيها بعض الخطر وتحمل ضمن ما تحمل في تضاعيفها مسألة أو مشكلة التمرد على الثبات والثوابت. فيما وراء الصورة يأتينا مما هو أمامها فماذا نرى في المرآة؟ صورتنا أم صورة ما وراءها؟ يتطابقُ في المرآة الإثنان: الظاهر والمخفي وتلك من المعجزات التي لم يولها البشرُ ما تستحق  من دراسة وإهتمام. المرايا تجمع الشبح وصورته لكنه جمع تفريق لا جمعُ صهر وضم ودمج وحلول صوفي. الظاهر ـ خلاف المخفي ـ سريع التحول كثير التبدل فكيف إذا ما إجتمعا في جسم ثالث هو المرأة؟ المرآة من الزجاج أصلاً، وفي قديم الزمان كانت المرايا تُصنعُ من الفضة الصقيلة أي الممرّدة أو حتى من الذهب الخالص، حسب مرتبة ودرجة ثراء أصحابها وكلهم من عليّة أقوامهم كالملوك ومن هم في مستوى الملوك وإلا، ففقراء الناس ليسوا مهتمين برؤية وجوههم البتّة. لذا فإنهم لا يعرفون ما في هذه الوجوه ولا كيف هي إلا من خلال وصف الآخرين لها. هل كان في بيت زليخا، قرينة عزيز مصر، مرآة يرى فيها يوسف {الذي أكله الذئبُ البريءُ وما أكله أبداً} صورته ويدرك أنَّ وجهه جميلٌ يستهوي نساء عصره وزمانه؟ أم أنه كان جميلاً في عيني هذه المرأة لا أكثر؟

 

كان جميلاً في عيون العديد من النساء بدليل أنهنَّ قطّعنَ أيديهنَّ لما أخرجته زليخا، التي راودته عن نفسه، من سجنه عليهنَّ  (فلما رأينه أكبرنه وقطّعنَ أيديهنَّ وقُلنَ حاشَ للهِ ما هذا بشراً إنْ هذا إلا مَلَكٌ كريمٌ / سورة يوسف، الآية 31). على أية حال، إنْ لم يرَ هذا الفتى صورته في مرآة زليخا فقد رآها في عينيها وتصورها في وصفها لمعالم وجهه وقوة جاذبية شخصيته إذْ يكفي أنْ تقول إمرأةٌ لرجل [ إنك جميلٌ أو أراك جميلاً ] فكيف إذا راودته عن نفسه وأغرته أنْ يمارسَ الجنس معها؟ لقد أقسم الشاعر المصري أحمد شوقي في يعض شعره بجمال يوسفَ إذْ قال:

الحسنُ حلفتُ بيوسفهِ

والصورةِ، أنك مُفرَدهُ

 

... من قصيدة " مضناكَ جفاهُ مرقده " التي جارى فيها قصيدة الحصري القيرواني:

يا ليلُ الصبُّ متى غدهُ

أقيامُ الساعةِ موعدُهُ

 

أو:

يا ليلَ الصبِّ متى غدُهُ

أقيامُ الساعةِ موعدهُ

 

وفي هذا الشكل ضعف لغوي بيّن، فالصياغة الأولى أفضل وأكثر دقةً وأقومُ لغةً. هل رآى شوقي أو سواه صورة يوسفَ؟ الجواب معروف. إذاً كيف جوّز لنفسه شوقي أنَّ يتخذَ من وجه أو شئ لم يره قطُّ مثالاً للحسن؟ الخيال؟ خيال الشعراء؟ نعم، إنهم يقولون ما لا يفعلون وفي كل وادٍ يهيمون على وجوههم. وفي كل عزاءٍ تراهم لاطمين، وفي كل عُرسٍ راقصين وفي كل حفلٍ ومحفلٍ تجدهم ثملين.   إنهم الشعراء وكفى ! قسمُ أحمد شوقي هذا لا قيمة فنية له سوى الإشارة إلى جمال وجه لا أحد يدري بالضبط هل كان صاحب هذا الحسن موجوداً فعلاً أم أنه محض أساطير وخرافات موضوعة؟ أقول هذا الكلام إذْ أقارنه بما قال المتنبي قبل شوقي بقرون وقرون عن حسن الوجوه وكان يخاطب إمرأةً لا رجلاً ! قال أبو الطيّب:

ما لنا كلُنا جوٍ يا رسولُ

أنا أهوى وقلبكَ المتبولُ

كلّما عادَ مَنْ بعثتُ إليها

غارَ منّي وخانَ فيما يقولُ

...

 

زوّدينا من حُسنِ وجهكِ ما دا

مَ، فحسنُ الوجوهِ حالٌ تحولُ

وصِلينا نصلْكِ في هذه الدن

يا، فإنَّ المُقامَ فيها قليلُ

 

فما أروع هذا الكلام وما أشد وقعه في أذن ونفس قارئه. فيه حرارة وفيه صدق معاناة وفيه تحرّك وتحرّق ولوعة وخوف من المجهول ومما قد يأتينا مع مرِّ الزمان [[ فحسنُ الوجوهِ حالٌ تحولُ ]] فالتحول طبع وقانون الحياة. [[ وصلينا نصلكِ في هذه الدن / يا فإنَّ المُقامَ فيها قليلُ ]]... أعمارنا قصيرة وأجلنا محتوم. المتنبي في سباق محموم وصراع مُرٍّ مع الزمن لكأنه يتنبأ بقرب أجله ومفارقته الحياة. وبالفعل، أغتيلَ الشاعر بعد عامين من كتابته لهذه القصيدة التي إختصَّ بها صديقه السابق سيف الدولة الحمداني. لم يتكلم أبو الطيّب عن حسن يوسف لأنه ـ ربما ـ كان يتغزل بفتاة يحبها وليس بفتى. لا أتذكر جيداً هل ذكر أبو نؤاس يوسفَ في غزله بالفتيان والغلمان أم لا؟ عليَّ الرجوع إلى ديوانه لأقطع في هذا الأمر. كان أغلبُ غزله الغلماني بالنصارى أتباع المسيح، ربما لكثرتهم في بغدادَ عهدذاك مقارنةً باليهود.

الصورة وما وراءها

 

 أين يقبعُ هذا [الوراء]؟ أيّةُ مسافةٍ تفصلُ الحقيقةَ الظاهرة عن الشبح الغائب عن العيان؟ مقدارُ وسعة وطبيعة هذه المسافة تختلفُ بإختلاف البشر وطبائعهم وتراكيبهم العصبية والعقلية والجسدية وحسب جبلّتهم التي وُلدوا فيها، بل وحتى ثقافتهم وأوضاعهم في السلّم الطبقي الإجتماعي. يكادُ التطابق بين الحقيقة الظاهرة وشبحها الغائب يكونُ تاماً لدى بسطاء الناس. ليس لديهم أو فيهم ما يخفونه أو يخافون عليه. إنهم شفّافون تقريباً. جلودهم لباسهم الذي يقيهم من حر الصيف وقرّ الشتاء. فالباحث عن الحقيقة لا يجدها إلاّ هنا، في عالم البساطة والبسطاء. الحقيقة بسيطة رغم عِظمِ شأنها وجلال قدرها.

 

الآن، الفيزيك والميتا فيزيك ! هل صورة المرء الظاهرة فيزيك وشبحها المخفي ميتافيزيك؟ الطبيعة وما وراء الطبيعة؟ لا أحسبُ الأمرَ كذلك. ليس الأمرُ كذلك. كلاهما فيزيك، لكنَّ أحدهما ظاهرٌ بيّنٌ يتحدى المجهول ويرفض الغياب. أما الآخر الغائب أو المختفي أو المُغيّب فإنه غائبٌ لأنه أُريد منه أنْ يغيبَ. فعلُ الأول فعلٌ حرٌّ واضحٌ سافرٌ يتحدى حتى الظلام. أما الآخر فإنه تحت ضغط، لذا فإنه فاقدٌ للحرية. غُيّبَ قهراً وقسراً. وعليه فإنه في طبيعته يختلف جذرياً وكليّاً عن المياه الجوفية المخفية تحت الأرض ولو أنها واقعة تحت ثقل أو ضغط طبقات الأرض فوقها. لكنها من حيث المنشأ سقطت مطراً ثم سالت حرّةً فاخترقت طبقات الأرض عنوةً لتجدَ نفسها في نهاية المطاف حبيسة هناك في جوف الأرض. شبح الصورة ليس كذلك.

 

هل يتغيرُ ما وراءَ الصورة إذا تغيّرتْ هذه؟ أتبقى كما هي إذا ما بقيت الصورةُ الأصل كما هي في أول عهدها؟ الجواب: إذا كانت الصورة وما وراءها {شبحها} خاضعتين للزمن الواحد الأزلي الطبيعة والحركة فلا من سبيل للتغيّر أمامهما أو فيهما. الزمن سيد وخالق وقاتل الجميع دون إستثناء. إذاً، يبقى شبح الصورة الخافي ما بقيت الصورة الأصلُ نسخةً طبق الأصل منه. الصورة وشبحها في المرآة. الزمن لا يميّزُ بين الصورة وشبحها سواءً أكان مخفيّاً أو ملاصقاً لأصله. لا يخفى شيء على الزمن. الزمنُ ثاقبُ وقاهرُ وسيدُ المكان رغم أنهما معاً لم يفترقا يوماً أو لحظةً وسوف لن يفترقا.هل المكانُ صورةٌ والزمن إطارها؟ سؤال ساذج. لأنَّ من شأنِ هذا السؤال أنْ يفصل الإثنين عن بعضهما وذاك أمرٌ محالٌ. بل إنهما معاً معاً معاً وأبداً، الصورة والإطار. الصورة في إطارها والإطارُ في صورته. لكأنما يتبادلان الأدوار ثانيةً فثانية حتى لو فنيَّ هذا الكون غير المتناهي. لا من نهايةٍ للزمن ولا من نهاية للمكان فالمكانُ هو مادة هذا الكون.

 

تعقيبٌ لاحق / صورتها معي لكنها هناك. فمن الفيزيك ومَن الميتافيزيك؟ صورتها معي هنا أم هي نفسها جَسَداً وروحاً هناك؟ ماذا لو كانت هي هنا وصورتها هناك؟ ما الذي سيتبدّلُ في أطراف هذه المعادلة المعقّدة من الدرجة العاشرة بعد المائة؟ أحسبُ أنني أنا مَن يتبدّلُ وتلك هي المصيبة. أنا الذي يتبدّلُ فيا ويلي من صورتها ظالمةً ويا ويلها مني مظلوماً ! هل أريدُ المزيد من الصور ثم المزيد؟ نعمْ، ظمأي لماءِ فراتِ بابلَ لشديدٌ. ظمأي قاسٍ صامتٌ قسوةَ صمتِ دبّها الأزرق الذي يقاسمها حجرة نومها ولا يُجيدُ تقبيلَ أناملها.

 

بابلُ يا بابلُ يا بابلُ... ردّي بناتكِ المغتربات لجنّاتك المُعلّقة فالفراتُ يبكي وينتحبُ وقواعد وعُمُد الجنّات تهتزُّ وتختضُّ إذْ لا مِن جنّةٍ دون بناتِ بابلَ من حورِ العِين. قال دبّها همساً كأنه يكلّمُ نفسه: وهل سيهون عليك فراقها؟ لا واللهِ... لا واللهِ يا دبُّ... لا يهونُ عليَّ فراقها وسوف لن يهون. أما سمعتَ ما قال الشاعر العراقي معروف عبد الغني الرُصافي:

وإني جبانٌ في فراقِ أحبّتي

وإنْ كنتُ في غير الفراقِ شجاعا

 

هل كان هذا حُلُماً أم رؤيا خيال؟ فيزيك أم ميتافيزيك؟ حقيقة أم لوحة بالألوان إفتراضية مُعلّقة على شاشة الكومبيوتر؟ نهض حمورابي من قدّام مسلّته الشهيرة ليقولَ مؤشّراً نحوي بعصاه: أوهام... أوهام... قضيّتَ عمرك يا رجل وأنت تحلم وتتمنى وتتوهم. أفقتُ من نومي مرتعباً وَجِلاً أردّدُ شعر الأخطل الصغير:

كفانيَ يا قلبُ ما أحملُ

أفي كلِّ يومٍ هوىً أوّلُ؟

 

تلفّتُ هنا وهناك فلم أجدْ معي في بيتي إلا الدب الصغير الأزرق !

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1134  الاحد 09/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم