قضايا وآراء

الطبيعة اللغزية والتحيين الزمني في مجموعة: عربة النهار لـ (هاشم تايه)

اذ لاتوجد بالواقع العياني عربة للنهار واخرى لليل، ال ان التشفير التشكليلي يبدأ من هنا، وهو مستند الى محمولين دلاليين يحملان مرجعية مختلفة، اذ ان / العربة / لها دلالة التقدم الى امام، أي ان مدلولها يؤكد عدم رجوعها الى الخلف لذلك تمثل الزمن بكل محمولاته واثقاله ام النهار فهو بداية حياة، انكشاف، ويحمل ايضا" بنية التجديد واللاثبات .اذن هذين المكونين يتعاضدان عن قصدية ترمي الى انفتاح النص على ماهو زماني / بندولي يتحرك باتجاهات مختلفة الى الحد الذي حمله النصيص من مفردات حسية تميل الى ماهو عياني اكثر مما تميل الى ماهو تجريبي .

في الاشتغال على قصائد المجموعة نلمح في قصيدة / على فوق الحجر / ولعا" كبيرا" بالصورة وطريقة رسمها، وتغير متعمد لــــ / انا / السارد وحضوره بصيغة الجمع الذي يخضع لمقصدية شعرية ترشدنا دلالاتها اليها، فالشاعر يحاول ان يستجلب مضامين فكرية الى دائرة شعرية، اذ القصيدة اعلان عن الاخر / نحن الذي يستجمع في التوصيف العام كل الافعال الانسانية التي تفضي الى سعادة الانسان من دون الالتفات الى حسابات الربح او الخسارة . هذا المنظور الملتبس بمنظور الـــ / نحن / ماهو الا ترجمة لنزوع انساني شامل ملتصق بكل الممارسات التي يقوم بها الـــ / نحن / . هذا الـــ / نحن / ليس العامة بل هم الخاصة الذين نذروا نفوسهم من اجل ان تستعيد الانسانية طهرها الاول وبراءتها البكر، والتي يتخطى الانسان فيها عتبة المجهول بروح صافية شفيفة . هذا الانشداد النفسي مرده الايمان بقضية الانسان كونه الغاية والوسيلة .

 

نحن حصاد الاسئلة

نجيب النهار

بالعمل

وبحر الليل

بقوارب الاحلام

والقطارات

بالدموع

والطرق العمياء

بخيول الاقدام

 

وتستمر هذه السلسة التقابلية بينما تفعل الايام وما يقابلها من فعل انساني لايأبه بما نفعل بل يقابلها بفعل انساني راق . ان ثنائية الحضور المكلل بما هو كلي مقابل الغياب المكلل بما هو تجريدي / فكري ينبثق عنها نسيج دلالي جدلي لايخرج عن النواة الاصلية التي محورها الاساس الانسان وهمومه ومواقف الجماعة من ذلك كله .

ويتحرك نص / بعيدا" عن الوحل / في اكثر من مستوى تأويلي، فمن الناحية الصوتية يتكرر الحرف الين (الياء) كثيرا" ليوحي ببعدين اولهما دلالي بما يوحي اليه الياء من نزوع ذاتي اضافة الى ما يحمله من بعد توكيدي على تلك الذات . اما من الناحية التركيبية، فالنص يبدأ بظرفين زمانيين هما / منذ، امس / اذ ان الثاني مقطوع عن الاضافة الى غيره حتى لايبتني فعلا" توالديا" يستدعي تشتيت الفكرة . اما المبنى الثالث فيتوالد من المبنيين الاوليين والذي ينهض من جملة اسمية تميل الى الركون والثبات لكي لاتتخلخل بنية الراوي الرئيسة فيما يذهب اليه / بين قدمي تراب اليوم / هذه الجملة الاسمية تتناوب مع ضميري المتكلم والغائب الذين يتناوبان من اجل خلق مستوى نحوي يحقق اكبر قدر ممكن من الازاحة . كما وينبغي الوقوف ايضا" عند صيغ الافعال المضارعة / اتعثر، اسير،’ارئ، امشي / ذات البعد الحركي الذي يساير افعال الحياة المتحركة بمعنى انها افعال توالدية تتسارع بتسارع الحدث والزمن الذي يحتويها .

في القصيدة التي تحمل المجموعة عنوانها / عربة النهار / ينم عنوان القصيدة عن بنية سردية اذ ان / العربة + النهار / مقترننان بزمن ومكان . تبدأ القصيدة بسرد خارجي / قذفت الشمس بنفسها / مؤطر بحدث ماضوي يكتنفه الفعل الماضي / قذفت / كما وان الاحداث المتوالية التي يضج بها النص تتبؤر في المدلول الذي يقترحه النصيص . في الجانب التركيبي يواصل النص ضخ المتواليات اللسانية التي تدور في فلك ماهو زمكاني . اذ تبدأ القصيدة بدال لساني مكمنه الرئيس هو المكان / قذفت الشمس بنفسها في عيني / وكأن العين هي المثابة الاخيرة التي تأوي اليها الشمس لتكون مستقرا"امنا" لها ويستمر النص على هذا المنوال الزمكاني القائم على مسميات عينينة مثل / الشمس، عيني الصباح . كيلو متر / .... ليوازن بين الزمكاني موازاة تعادل لاتقابل مع ماهو عام بما هو خاص بدليل القرينة المشاركة في كل ما سبق / الطير في ابواق الهوى / و/ الاشجار بأذانها الخضر تعب اصوات الطيور / .

ان بنية الدلالات الحسية تتراكم بنحو كبير في النصوص وهذا ما ادى الى تدفق شعري فياض وطوفان من اللواعج التي تتعتلي اشرعة الراوي والتي تبحث عن مستقر لها في مثلث الوجود الانساني في المجتمع الشرقي .

 

لابد

من طيريين

اضعهما في قدمي،

وبيت ارتديه

وامراة

تعد فطوري

وطفل

اربت على شعره

حين يشيعني

الى الباب،

واخذ معي

ضوء عينيه

في عربة النهار

لاقطع الفا" من الكيلومترات

واصل الى

                   الصباح

 

ان التوكيد الذي يقوم على المفارقةكما بينا فيالبداية يعمق بنية التلغيز والتحيين الزمني التي اشرنا اليها بدليل ان منتج / ضوء عيني الطفل في عربة النهار / قد قطع الفا من الكيلو مترات/ للوصول الى الصباح . نستنتج مما تقدم ان المشوار برمته حاصل في/ الليل / وان عربة النهار ما هي الا رمزا اشاريا لحدوث تغيير تركيبي في بنية الزمن الذي رصدناه في بداية القصيدة . ان دخول / عربة النهار / هو لفسح المجال لفعل الزمن المتحرك باتجاه الامام ليمارس دوره كي يمهد لانبلاج الصباح الذي يروم الراوي الوصول اليه بعد ليل روحي بهيم .

ساقف عند قصيدة / صحراء / التي اعدها شخصيا اهم قصيدة في المجموعة بسب من التداخلات والاصوات والاحداث . التقديم للقصيدة قصيدة بحد ذاته. فالقصيدة مرسومة رسما دقيقا، فهي تبحث في الافق الاتي المتيقن / بفتح الياء والفاء / حصوله . يبدا النص باسم معرف نحويا لكنه مستتر دلاليا، وعلى الرغم من هذا التستر الضمني الا اتها في الوقت نفسه تكشف بنحو تدريجي عن نفسها بدليل القرينةى / الغاربة صنعت لي الاشواق /، بيد ان النص يفاجئنا بمستتر ثانمؤخر الكشف عنه. هذا التاخير علامة على مضي الزمن من بين يدي الراوي . ونلاحظ ايضا القلب السيروري للدلالة ، فالرياح هي حاضنة الرمال وليس العكس،لكن عملية الصناعة الحاصلة نصيا هي صناعة شعرية، فعملية صنع الرياح من قبل الرمال له دلالة الضياع، ضياع الذات في خضم الوجود المتلاطم بدليل القرينة الاحقة / تائهة بلا دموع / . ان اقتران التيه من دون دموع اعطى رؤية اتساعية لبنية الرياح التي تعصف بكل شيء . ويكتمل افق اللوحة بالسماء الوديعة المكتنزة بالثقة على الرغم مما تحتها من رياح ورمال اذ انها / قريرة اليدين / مما تكتنز .

ان صيغ النفي المتكررة والمقترنة مع ما يتساوق وبنية الضياع والرمال هو لفسح المجال للاتي من السردالذي يضج بالقوى الضاغطة للاسلبة،والسارد / هنا / يريد ان يزرع بذرة للشك والريبة من النواة الاولى المتمثلة / بالغاربة / التي هي كما اسلفنا شخصية افتراضيةتدور في عالم تجريدي. فصياغةالاسئلة في هذا النص اسئلة تجريدية ايضا اذ تنحى منحى وجوديا / من الوجود /، ولم يات هذا اعتباطا بل نتيجة لمجموعة من الاسترجاعات الروحية المكتنزة داخل روح شفيفة تبحث عن افقها وتومىء الى مجهولية الطرف الاخر، وبهذا حققت الاسئلة مرجوها المطلوب اذ ان اجوبتها اللاحقة تضعنا امام لا جدوى المتحقق امام الناظر،اذ انه، أي المتحقق

 

                               يقبع كالندم

                              قابضا على لحيته

                              في دوامة الصفير

                              تحف به مدبرات العدم

                              وكافلات الهلاك

 

ان عملية نقل المسرودجاءت على شكل مجموعة من الوصايا

 

                            ان الموت ليس عقيما

                            اليد الجرداء

                           تضرب الريح

                           فتضربها الريح

                          الجسد يبحث عن الجسد

                         والذكرى ترتطم بالذكرى

                         والروح تتعثر بالروح

 

ان استثمار بنية المقابلة جسدت مجموعة من الفيوضات الذهنية عبر علاقة اسناد متشابكة مع بعضها . تواجهنا بعد هذه السطور عملية تشكيلية جديدة . اذ ان عملية  رسم السطور بهذه الطريقة المتعرجة متبوعة بالفراغ المنقوط المتكرر يؤشر انحرافا في سيرورة السرد اذ ان تكرير اداة النداء / ايها / كناية عن / صيحة الغريق / الذي يتفيا ظلال ما بعد الوجع والحرمان بحثا عن بصيص ضوء يفتح كوة في ظلمة الروح

 

                                 زعزعتنا ريحك

                                 نحن ارقاء الامل

                               يدور بنا افق مرتعش

                               في كيس عواء

                               ايها الجناح السعيد

                              والخضر الغرير

                               والراكض العنيد

                              ايها القابض على الدم المذعور

                             ايها الطارد عن ظله كل ظل

 

ان عملية النداء بقيت في ظل افقها، إذ أن المنادي لم يطلب أي شيء بقدر ما عرض كينونته .هذا العناد الروحي متأت من نفس لا تتوق الى النكوص بل تبحث عن افق لا تغيب عنه الشمس.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1136  الثلاثاء 11/08/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم