قضايا وآراء

الإبهام والضبابية في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة محاولة للانسلاخ من المقدس

(مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة) قول(ديفيد هارفي) أحد كبار منظري ما بعد الحداثة: (لطالما استغلق علينا معنى الحداثة والتبس، لذلك فإن رد الفعل المعروف باسم (ما بعد الحداثة) يظل هو الآخر مستغلقاً وبكيفية مضاعفة)

ويقول الباحث المغربي علي وطفة في بحثه (مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة) نشرته مجلة (فكر ونقد): (مفهوم الحداثة يأخذ مكانه اليوم في حقل المفاهيم الغامضة، وإذا كان هذا المفهوم يعاني من غموض كبير في بنية الفكر الغربي الذي أنجبه، فإن هذا الغموض يشتد في دائرة ثقافتنا العربية ويأخذ مداه)

ويقول رضوان زيادة في كتابه (صدى الحداثة - ما بعد الحداثة في زمنها القادم): (إذا كانت الحداثة تدخل ضمن المفاهيم المستعصية على التعريف والتحديد، الرافضة لكل نمذجة، والمصنفة بعدم القابلية والقدرة على قبض مفهوم ناجز وجاهز لها، فإن ما بعد الحداثة وعطفاً على ذلك، ليس أقل من وصفها بأنها هيولي أو أميبي ليس باستطاعة أحد أن يمسك بتعريف لها)

                    

ويقول الباحث عبد الله بن محمد المالكي في بحثه (الحداثة وما بعد الحداثة .. من المركز إلى إسقاط المركز): والحقيقة أن لهذا الغموض أسباب عديدة ومتنوعة ، لعل من أهمها - في تصوري - سببان :

الأول: أن الحداثة في أصلها كانت حدثاً تاريخياً وحالة اجتماعية سبقت ظهور المصطلح.

الثاني: أنَّ الجو الفلسفي الذي جرى فيه تحديد مفهوم مصطلح الحداثة (بدايات منتصف القرن الماضي) ؛ كان جوا متأثراً بالنزعة العدمية والشكية المنتشرة في أوربا حينذاك إضافةً إلى ظهور المناهج النقدية والتحليلية مع ظهور علم اللسانيات الحديث وانبثاق البنيوية والسيمياء وفلسفة التأويل (الهيرمنيوطيقا) الجديدة.

هذا الإبهام بحد ذاته من أكبر الأدلة على وجود مشاريع سرية في هذه المصطلحات لم يتعرف عليها حتى المفكرون الذين وضعوا أسس نظريات وفلسفة الحداثة وما بعد الحداثة أنفسهم.

 وجود هذا الإبهام يؤكد إن الحداثة وما بعد الحداثة تسعيان إلى فصم عرى العلاقة بين العقل الإنساني والذات الإنسانية لأن ألذات متى تخلت عن العقل تتحول إلى بهيمة سهلة القيادة والتوجيه، والعقل متى تخلى عن ألذات يتحول إلى جهاز ملهاتي عبثي لا هدف له ولا فائدة، ثم هل أن الإنسان المعاصر بحاجة للتوفيق بين العقل والذات وهو يعيش غمار أكبر تحد يمر عليه عبر تاريخه الطويل أم هو بحاجة للمفاضلة بينهما؟ وأي الاثنين سيختار إذا كانت هناك مفاضلة؟ وما هو الأصلح له أن يختار العقل أم ألذات؟ وهل يكفي العقل وحده أو ألذات وحدها لتسيير سفينة الحياة أم أن احدهما مكمل للآخر ولا مسير إذا افترقا؟

إنها مسألة عبودية وتحرير، عبودية تنسب للعصر التقليدي وتحرير ينسب لعصر الحداثة أنتجه قلب المفاهيم وتغيير المصطلحات وتبديل السنن الذي جعل الاعتقاد الديني والإيمان بالله عبودية وجعل الانفلات والعبثية حرية. ونحن المؤمنون بحقيقة الأديان ومشاريعها المستقبلية ومنها المشروع المهدوي نؤمن عن يقين أن كل تلك المشاريع التخريبية إنما وضعت لعرقلة بناء أسس الدولة المهدوية وأنها من الأعمال الاستباقية التي يظنون أنها ستساهم في تحطيم البنى التحتية لدولة المنتظر، ولكنهم مهما فعلوا لن ينجحوا بالوقوف أمام إرادة الله سبحانه. يشرح لنا تورين هذه الإشكالية، إشكالية التحرير والعبودية فيما بين عصر التقاليد وعصر الحداثة فيقول: كنا نعيش في الصمت صرنا نعيش في الضجيج، كنا معزولين فصرنا ضائعين وسط الزحام، كنا نتسلم قليلا من الرسائل والآن تنهمر علينا كوابل من نار، لقد انتزعتنا الحداثة من الحدود الضيقة للثقافة التقليدية المحلية التي كنا نحياها وألقت بنا في جحيم الحرية الفردية، لقد ناضلنا ضد نظم الحكم القديمة الفاسدة وميراثها، أما في القرن العشرين فضد الأنظمة الجديدة والمجتمع الجديد والإنسان الجديد.

لقد نجح الغرب بخلق حداثته ونجح بتجاوزها إلى ما بعد الحداثة، وهو الآن يحاكم مرحلة جديدة من تطوره هي مرحلة (ما بعد ما بعد الحداثة). حيث يواجه تحديات جديدة وقضايا جديدة تختلف كليا عن تلك التي طرحت في مرحلة ما بعد الحداثة. وإذا كنا لا نزال دائرين في محور الحداثة فإن ولوج ما بعد الحداثة إلى مجتمعاتنا  سيكون حتما أكثر سهولة بعد أن أحدثت الحداثة تخريبا ليس من السهل إصلاحه وحتى ترميمه، كما أن ما بعد ما بعد الحداثة سيكون أرشق حركة وأيسر انتشارا بعد أن خربت الكثير من النفوس وانحرفت عن جادة الصواب. ولكن ثقتنا بالمستقبل أكبر من كل تخريب، ونحن على يقين تام أن كل مشاريعهم التخريبية سوف تتحطم على بوابات صمودنا. وإن مشروعنا ألبنائي جاهز للتطبيق والتنفيذ، ودولتنا قادمة عن قريب وستكتسح كل مشاريعهم ولن تبقي أو تذر منها شيئا وإن غدا لناظره لقريب!

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1157 الخميس 03/09/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم