قضايا وآراء

تاريخية الصراع والدين وصموئيل هنتنغتن

المتحررة من القيود الأخلاقية لجأت الحضارة الحاضرة إلى جعل الدين موشورا تنفذ من خلاله الأزمات لتخرج من الجانب الآخر بألوان شتى.

  وأعتقد أن مهمّتنا الآن هي أَن نفهم كيف ولماذا اعتقد وآمن العالم الغربي أن الدين سبباً ومنشأً الصراع والعنف مع ما في هذا الاعتقاد من تبسيط ساذج لصراع الإنسانية الأزلي مع الحياة، فالغرب ليس كيانا جاهلا بل لديه كل ما يمكنه من سبر غور الحقائق الكونية مهما عظمت و في حضارته تجتمع كل العلوم وله قدرة اختراق حجب الأسرار. فهل يعجز مع كل هذه المعطيات عن فهم حقيقة الصراع  وأسبابه حتى ينسبه للدين وحده؟ ولماذا يستحضر الدين بانتظام كقوة سببية في دوائر الصراع الدولي، ويحمل مسئولية كل عمل خسيس يقوم به الساقطون من البشر وهم قبل غيرهم يعلمون أن لا مكان للساقطين في دنيا الدين فالدين قمة فهم الإنسان للحياة، والحياة لا يفهمها على حقيقتها إلا العلماء وقد جاء في القرآن قوله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فهل رأيتم عالما في أي اختصاص شئتم اختياره يحاب الحياة أو منظومتها على حساب إيمانه فيقوم بعمل إرهابي أو يأتي بعمل يكون سببا لنشوء الصراع؟

ثم لماذا يحملون الدين مسئولية الصراعات وقبل الدين وبعده كان الصراع من أقوى المعادلات في الكون؟ وما هي الدوافع التي تدعوهم لأن ينسبوا للدين سبب وقوع النزاعات؟

 إن كبار علمائهم المتخصصين أكدوا على أن النزاع والتراضي من سنن الحياة البشرية المتدينة وغير المتدينة فالبروفسور (كار فر) يرى أن التنازع والتعاون من الصفات الأساسية في الطبيعة البشرية  والإنسان يتعاون مع بعض الناس ليكون اقدر على التنازع مع البعض الآخر والصراع الإنساني يرجع إلى سببين رئيسين  ، هما استحالة إشباع الحاجات البشرية كلها ، وحب الإنسان نفسه أكثر من حدود الحب.

 ومما لا شك فيه أن للحضارة وأيديولوجياتها الفكرية والمفاهيم السائدة فيها دوراً مهما ومباشرا في تأجيج الصراع ولكنهم بسبب الصراع القائم بينهم وبين الدين اتهموا الدين بأنه السبب فالدين هو الطرف الثاني في كل صراع تقوده الحضارة وبدل أن ينسبوا  تأجيج الصراع للحضارة ينسبونه للدين كنوع من الحرب الإعلامية التي تسبق مرحلة النزاع الذي سيحدثه الصراع.

إن العقل السياسي الغربي يحاول باستمرار تذكير شعوبه بأن حضارتهم القائمة تمثل خلاصة الجهد البشري التاريخي والمرحلة الأخيرة في سلم التطور حيث يقفون اليوم على أبواب صنع الإنسان الأخير حسب مفهم (فرنسيس فوكوياما) وحينها ستحل نهاية التاريخ ويتم العلم إنجاز كل مهامه ولا تعد حاجة للتطور على اعتبار أن ما سيكون لدى البشرية حينها يكفيها، ولكنهم يعودون ويقولون أن هذه المنجزات العظيمة تقف أمام تحد كبير يريد إعاقة تقدمها والقضاء على إنجازاتها وكانت الشيوعية أيام عزها وجبروتها هي العدو الخرافي الذي يهدد حضارتهم بالتدمير. ولما انهارت الشيوعية وتفكك الإتحاد السوفيتي تبين زيف ادعائهم مما أوقعهم في حيرة جاء صموئيل هنتنغتن لينقذهم منها بشعاره الذي أطلقه عام 1993 وأسماه (صراع الحضارات) ((The clash of civilizations ) ولأنه لا توجد في الوقت الحالي حضارة غير حضارة الإسلام تقف قبالة حضارتهم عادوا ورشحوا الإسلام  ليكون الند والعدو الجديد لحضارتهم ونسبوا  له السبب في نشوء كل الصراعات القائمة والتي كانوا ولا زالوا السبب المباشر في نشوئها.

إن مفهوم الصراع الذي جاء به هنتنغتن يمثل التحدي الأكبر في تاريخ البشرية كلها لأنه يشتمل على ثلاثة احتمالات سيتم حسم الصراع من خلالها وهي:

إلغاء إحدى الحضارات لكل الحضارات الأخرى بالقوة، أو ذوبان الحضارات الأخرى في الحضارة الأقوى تلقائيا، أو ظهور حضارة جديدة تملك كل الإمكانيات لتحل محل الحضارات القائمة. ومع تنوع هذه الخيارات ظاهريا إلا أنها تشير ضمنا إلى أن الحضارة الغربية بما تملكه من علوم وتحضر وتمدن وقوة وروح نزاعية تواقة للسيطرة سوف تكون المنتصر الأوحد الذي يهزم كل الحضارات الأخرى ويبيدها من الوجود. وإذا ما كان الصراع التاريخي قد دار من قبل حول مواضيع فرعية أو مساحات جغرافية محددة فإنه بعد شيوع مصطلح صدام الحضارات تحول إلى غاية تسعى لها القوى التي تريد السيطرة على العالم. لأن الصراع الماضية الذي انحصر خلال التسعين سنة بقطبين محددين وواضحين يبدو اليوم بلا ملامح أو حدود وكأن الكل عدوا الكل لترسيخ نمط سلوك وتفكير واحد في الكون كله، وقد يكون توقيت إعلان هنتنغتن لمصطلحه محددا من قبل سلطة مركز الصراع الكبرى لأنه ليس من قبيل الصدفة أن يتزامن مع إعلان مصطلحي صراع الحضارات والنظام العالمي الجديد. 

 (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1159 السبت 05/09/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم