قضايا وآراء

الصكــّار ليونة الحرف وصلابة المبدأ

قبل ستين عام، حينما كان في الخامسة عشر من عمره وعلى أسفلت أزقـّة البصرة بدأ لعبه بالحروف وراحت خطوطه البكر تاخذ أشكالها وأهلـّتها وألتواءاتها، التي وجد بين زواياها المخاتلة مسرحاً لعبث فتوّته وصباه .. وقبل ستين عام، تلبّسته لعنة الشعر فأمطرت على جبينه أوزاناً وقواف، فخرجت قصيدته الأولى .. وقبل ستين عام أستوعبت مداركه ما كان يعانيه الفقراء من شعبه، فأوجع قلبه الغض وقرّر منذ ذلك الحين أن يختار الطريق الذي  فيه الحل والخلاص، فلم يجد غير الشيوعية ، فأتخذ مسار طريقها الوعر والمحفوف بالرعب والترقـّب الممض والمصطلى بنار الحقد والكراهية .

هكذا بدأت أوجاع الحرف وأوجاع القصيد وأوجاع الأنتماء تقسو وتضغط دفعة واحدة على جسده النحيل الممشوق الرهيف، وتمتصّ رحيق فتوّته وشبابه، لكنـّه حوّلها الى طاقة خلاّقة وترجمها الى شكل لوحة أو قصيدة أو نشاطاً نضالياً أبداعياً.

سعى (الصكـّار) منذ بداية مزاولته الخط العربي أن يفهم شخصية كل حرف ويعرف مكامن الفتنة فيه، واكتشف أن هناك حروفاً مشاكسة جامحة وأخرى مسالمة طيّعة وثالثة كسولة تعيى القصبة من نقلها ولويها، فأستطاع وبقدرة الفنان أن يروّضها جميعها لتصبح طوع بنانه يقودها كيفما يشاء، فراحت بتنوعاتها كوفيّة، ديوانية، ثلثية، فارسية  تتبع خطى قصبته وتتسلـّق برشاقة أضلاع السطور لتتشكـّل بالتالي رُقماً خطيةً بالغة الجمال والمهارة .

لقد كان الصكـّار أوّل من حوّل الخط العربي من صنعة تعتمد الحرفية الى عمل فني مستوفي شروطه كاملة، بعد أن نجح في تجاوز القوالب الكلاسيكية التقليدية الصارمة، وأستغـّل طاقات الحرف ومنحة حريّة التمدّد والأستطلات ومحتفظاً في ذات الوقت بأبعاده وقياساته المعتمدة، وهو بذاك قد هذّب الحرف العربي وألبسه حلـّة جديدة بألوان جديدة وجعله يسبح في فضاءات لم يعتادها من قبل بعد أن جرّده من الأطر الزخرفية والمنمنمات، كما أبتدع أنواعاً اخرى جديدة من الخط تتسم بالحداثة وترتقي الى اعلى مراتب الأبداع .

أمّا القصيدة لدى (الصكـّار) فأنها دائماً ما تنسى نفسها معلـّقة على أطراف ذاكرته فترتمي على سطح الورق حال أستدعائها وهي تضجّ بالعاطفة وسحر البيان وجمال المفردة .. قصيدته مبرّئة من الخطايا، أذ لا أذكر أني قد قرأتُ له بيت شعر واحد يجرح عذرية الوجد، أو يخدش حياء العفـّة، ولم أعثر على بيت شعر واحد أشمّ فيه رائحة الكراهية، بل العكس تماما أن جميع قصائده مفعمة بالبراءة وشرف القصد ونقاء السريرة، والقصيدة تفرض شكلها لديه سواء جاءت عمودية أو تفعيلية أو حتى قصيدة النثر رغم ندرتها ..شعبية أو فصيحة وجميعها مستوفية جماليات وشروط وروح الشعر .

أن شخصية (الصكـّار) ظريفة طيبة محببة بأمتياز، وظلـّت على حالها لم تغادرها الفكاهة  رغم كل ظروف القهر والملاحقات والمراقبة اللصيقة واحتمالات الأعتقال، أذ امتلأت أدراج مكتبه سواء في بغداد أو في بلاد المنفى بمساجلات ورسائل أدبية وقصاصات ورق خُطّ عليها الكثير من المشاكسات البريئة والمكابدات والطُرف والمُزح الذكية بينه وبين رهطٌ  كبير من الشعراء والكتاب ورفاق العقيدة، أستطاع الأحتفاظ بها الى أن نجح أخيراً في جمعها في كتابه الشيّق (أخوانيات الصكـّار ومجالسه الأدبية) .

أختار (الصكـّار) باريس منفاه الأخير، بعد ان تمكـّن من الأفلات من الشبكة الأستخبارية العنكبوتية للنظام الدكتاتوري المباد التي كانت تراقبه وترصد تحرّكاته خاصة بعد أن أثارت أبجديته الشهيرة ب (أبجدية الصكـّار) حفيظة ذلك النظام العشائري المتخلف، وبعد أن أخترعوا بدعة المقارنه بين حروفها وبعض حروف العبرية . ومنذ 1978 وهو تأريخ بدأ اقامته الطويلة في باريس وحتى اليوم، وهي فترة عجائبية في طبيعة ظروفها الأستثنائية الخطيرة التي شهدت الأنهيار السريع للمنظومة الأشتراكية ومعسكرها العتيد الذي كان بمثابة المعادل الموضوعي لسطوة المعسكر الرأسمالي الغربي أمام دهشة وأستغراب وخيبة ملايين كادحي العالم وحتى منظري الماركسية ومثقفيها الذين أنزووا خجلين وراء مكاتبهم وهم يعيدون قراءة (رأس المال) فلعلّ خطأ ما جرى تجاهله قاد الى هذه الكارثة  أو لعلهم يجدوا مخرجاً لحراجة موقفهم أمام الاف الضحايا الذين دفعوا حياتهم ثمنا في أقبية التعذيب أو على أعواد المشانق لأسعاد الأجيال القادمة وتمتعها بفضائل الأشتراكية ونظريتها العلمية، كل هذا الذي جرى لم يحرّك قدم واحدة من قدمي (الصكـّار) نحو دائرة التنكـّر و التبرئة والتخلـّي عن الفكر الذي آمن به طيلة حياته، وظلّ وفيّاً مخلصاً

 لمبادئه يحدوه أمل كبير لأنتصار قيم الأشتراكية العلمية في التغيير وتطبيق العدالة الأجتماعية وتحقيق الرفاه للشعوب المقهورة والمعدمة .

أخيرا .. فاتني أن أقول أن (الصكـّار) كتب القصة والمقالة والمسرحية ومثل على خشبة المسرح وأقام العديد من المعارض لرسومه ولوحاته في العديد من دول العالم، فهو بحق آخر ما تبقـّى من رموز وقامات العراق العالية،فهو النموذج الأمثل للعراقي النبيل والعراقي المترفـّع عن الصغائر والعراقي الذي لم يعلق بأذياله درن من الأدران طيلة مراحل عمره الشاقة التي قضاها بين الملاحقة والأغتراب عن تربة الوطن، أنه بحق مبدع العراقي الكبير .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1177 الاربعاء 23/09/2009)

 

 

في المثقف اليوم