قضايا وآراء

المثقف بين الرهان والارتهان / جابر مسلماني

يتلقى ويقبل ويرفض، يخلخل، حفرا وتنقيبا، وصولا إلى تشكيل تلك البنية التحتية التي تشكل مرجعيته العامة لإعلان مواقفه من مجمل المرافق الثقافية بكل محمولاتها العليا وأضلاعها في الدين والسياسة والاجتماع. غني عن القول أن النسبية حاكمة في تشكيل المثقف وإفراز رؤاه، فاختلاف الرصيف الذي يقف عليه هو الذي يؤدي الى اختلاف الرؤى والمواقف، إنتاجا وتقييما ونقدا. عند فهم هذه النقطة تحديدا، نمسك بالمدخل الأساسي لضرورة التفاهم مع انساق الأفكار والثقافات ونداءاتها التي لا بد أن تنعكس على الواقع. أما اختلاف دوائر المنطلقات، فقد قوض الكثير مما كنا نحسبه قارا، لا يمكن نحته أو مستقرا لا يمكن خلخلته، بعيدا عن الانتماء اللصيق في دوائر الأفكار ومناخاتها الذاتية حيث يتم الفصل ومن خلال آليات النظرة الخارجية، بين الذاتي والموضوعي. إلا أن ذلك لا يسقط الثوابت المرجعية الكبرى أو يلغيها، لأن للدواخل الفكرية، بمعزل عن مداخلها الخاصة ومعابرها، قواعد إنسانية كونية وفضاءات عامة تنسجم مع المتطلبات وعناصر التكون والاحتياج الإنساني وإليها ينزع الانسان ويعيش ايضا، فالمفاهيم كالحرية والعدالة والامن والكرامة وسائر منظومات القيم والاصول الاولى والمرتكزات الانسانيه العليا لا تستطيع كل النهضات الا تقعيدها وابرازها في مضمون خطابها النهضوي الثوري، إن في الاديان أو في المدارس الثورية الكبرى. دور المثقف الأساسي يكمن اولا في فهم هذه المرتكزات وتمثل هذه القيم ثم في الانتماء اليها والالتزام بها. الالتزام كوصف للمثقف هو وصف اندكاكي اندماجي، والا بات عاجيا ينتمي الى عالم الابراج ومرافقها. لا يمكن للمثقف الاستقالة من ثوابته التي كونته وأنتجته من قواعد تشكله وأسسها. الاستقالة نقيض بنيوي لموقعه ودوره، فهو مؤتمن على السياقات وعلى الحراك الباطني لجدلية الاجتماع ونداءاته المرتقبه، وهو في موقع المعارضة على الدوام والنقد البناء والهدام ايضا لبعض الصيغ المنتجة، حتى من الاتجاهات التي يؤمن انها تحمل الحلول، وتعمل على تسييلها وترسيخها فليس للمثقف انتماء كلي، واندراج كلي تحت أي من الأطر يخلع عليها مشروعية مطلقة. المثقف تقدمي طلائعي، لا يمكنه المجاملة الفكرية والسياسية، آراؤه تغييرية ويتطلع الى أقصى تخوم الممكن ويعمل على تذليل المستحيل. وظيفته نقل المجتمع تنظيريا من ما هو كائن الى ما ينبغي أن يكون، لا يمكنه خلع عقله وارتداء عواطفه، لا يمكنه بيع أفكاره أو تجييرها في أسواق المال والسياسة الرخيصة، العلم حاكم والمال محكوم عليه. من دون شك هناك مثقفون من طراز رفيع، يدفعون في كل لحظة أثمان انتمائهم الى مرتكزات ثقافتهم، ويدفعون ضريبة عدم انتظامهم في طابور السلطات السياسية بكل تشعباتها وكهوفها، يرفضون نعيم السلطة بالمعنى العريض والشامل لكل سلطة، لا تخرج كلماتهم او مواقفهم او اقلامهم من جيوبهم او جيوب المال الخاص او العام . هؤلاء قلة مغلوب على أمرها، ومن أكبر مآزق هؤلاء هو عدم سعيهم الى تشكيل جبهوي وطني وثقافي عام، ينعكس حضورا وصوتا وفاعلية في سياقات الواقع المأزوم على كل صعيد، لعلهم يحدثون كوة في جدار سميك مكون في لبنان على سبيل المثال العربي، من تجذر الطائفية بكل ظلاميتها والسياسة بكل امتيازات القائمين بها وعليها منذ عقود، وتداخل تلك المرافق توظيفا واستثمارا وانتهاكا لكل القيم الإلهية والوضعية ولحقوق الناس حتى بات لبنان وطنا بلا وطن، ومواطنين بلا إرادة، غُلّت ايديهم بقيود احزابهم وسائر انتماءاتهم المذهبية والدينية. كل الثورات العربية حملت شعار الشعب يريد اسقاط النظام والوضع القائم وحيثيات انعكاسه نظريا وعمليا الا نحن اللبنانيين، اكثر الناس تخمة بالكلام واعادة اطلاقه وديمومة سماعه وفي العمق شعارنا على النقيض من كل شعار وهو: الشعب يريد اسقاط الاصلاح"، هل هناك في الدنيا كلها وطن يستيقظ على ايقاع حزمة من البرامج التلفزيونية السياسية التي تعيد نفسها كل صباح، منذ الحرية اللبنانية العريقة وإلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة لا قيامتنا الوطنية؟ هل هناك نظام ديموقراطي في الدنيا يعيد انتاج الطبقة السياسية نفسها وبالانتخاب الحر وبرافعات متداخلة، تنتخب بالمفرق ثم تجتمع بالجملة، في المديين النيابي والوزاري لتثبيت المأزق الوطني الكبير بل وتصعيده الى خراب يستكمل خرابا متراكما. ويا للمفارقة، تتحدث عن الاصلاح وترفع شعاراته. إن غالبية المثقفين اللبنانيين منتظمون في قطارات الاحزاب. والاحزاب في لبنان، مداخل حصرية الى السلطة وبمباركة اكسير الطوائف وبما لا يشبه أي صيغة حزبية دولية، تحمل برنامجا وصيغة عمل على تماس مباشر مع ارادة قواعدها الشعبية وبما يشمل بنية الاجتماع السياسي والوطني العام فيها. في لبنان الامر مختلف، السلطة هي نعيم الاحزاب، وقادتها على خيراتها يقتاتون في رفد مواقعهم الذاتية والمنفعية لهم على الدوام ولقواعدهم عند استحقاقات العودة الى السلطة الذهبية كي لا تضمر الذاكرة الانتخابية. هناك يلقى ببعض الفتات الضامن لها، وبما لا يتعدى الى البعد الوطني والمواطني العام الا بما يخدم صيغة الخدعة الكبرى والقائلة ان هناك وطنا منسجما مع ذاته اسمه لبنان خارج منطق الطوائف ومناطقها. يغيب هنا رهان المثقف ويتقوض دوره وينتظم في سياقات التمزق. يصبح جزءا من منظومة التصدع الشامل ورافعا لها ومبررا ومبجلا على اختلاف الأهداف والمآرب والمنطلقات. أين أصبح المثقفون من ذوي الهموم الكونية والنضالية؟ أصبحوا من ذوي الاحتياجات الخاصة! من حملوا طوال فترة التمدد النضالي القديم مشاعل التحرر من سلطة الاقطاع الدولي والاقتطاع الخاص، باتوا متمرغين على اعتاب المال ولو بذريعة قيامهم بالنقد الذاتي للمراحل السابقة بما يمكنهم من تجميل الانقلاب على الثوابت والأسس التي حملوها، كالصليب على أكتاف المسير المضني إلى أوطان أجمل وأرجى. أليس هؤلاء قد طعنوا المثقف في صميم هويته ودوره الوظيفي الفكري والسياسي، وأصبحوا وظائفيين ومن مرافق السلطة والسلطان الخلفية؟ هل يستطيع المثقف أن يندرج في إطار الخطاب الطائفي او المذهبي من اجل مآرب سياسية ريعية خاصة بالسلطة المحضة ووظائفها، وهو ممن يتغنى على الدوام بفكرة المواطنة الحاضنة لكل مكونات الاجتماع الوطني؟ هل يصح من المثقف إعادة إنتاج واستحضار أرشيف التاريخ الدامي وشد العصبين الطائفي والمذهبي عبره من اجل تثبيت سلطة، من أي نوع كانت، ومهما كانت الضريبة؟ لا ينبغي ان يغفل المثقفون اللبنانيون عما يجري على الارض العربية من حراك شعبي اطاح ويطيح أنظمة سادت وبادت وما لذلك من انعكاسات ارتدادية، ينبغي العمل على الوقاية منها بتأمين مناخ انسجام مكوناتها إن سقوط الانظمة التي كانت تضبط إيقاع اختلاف مكونات اجتماعها عرقيا وطائفيا ومذهبيا، ولو لأهداف الهيمنة الدائمة بالقهر والتسلط يفتح المجال واسعا لبروزها وبروز خطابها، على أن الكثير منها لم ينجز خطابه الخاص كمشروع ممكن في مدى الوطن الجديد من حيث النظام المرتقب، ولم يعلن مشروعه الواضح، وبالاخص، الاتجاهات ذات المشاريع والبنى التاريخية. إن دور المثقف الأساسي، هو إنتاج شبكة أمان داخلية تضمن وحدة النسيج الاجتماعي في الدواخل الوطنية، والعمل على تطويق ممكنات التشرذم من أي جهة أتت ولأي مآرب صيغت. نحن الآن في أجمل سياق عربي على الإطلاق وأخطره على الإطلاق، هناك أوطان عربية تتشكل أمام عيوننا وهناك إفرازات لهذا التشكل قد تفتح المجال واسعا الى الدماء، من أوسع أبوابها وأكثرها ظلامية. المثقف هنا أول المسئولين عما يمكن أن يحدث، فهل يعيد الكثير من المثقفين، من كل سياقاتهم، انتاج أدوارهم بما يخدم أوطانهم، أو أن البقاء على التل المالي او العربي أسلم ؟؟

 

الشيخ جابر مسلماني

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2003 الأثنين 16 / 01 / 2012)

 

في المثقف اليوم