قضايا وآراء

حوار الحضارات وتعارفها في الإسلام / رشيد كهوس

ويحفظ الإنسان من أن يحيا حياة الإبعاد والإقصاء ونكران الآخر. لهذا أمر الإسلام بالحوار والدّعوة بالتي هي أحسن، وسلوك الأساليب الحسنة، والطّرق السليمة في مخاطبة الآخر. يقول الله تبارك وتعالى: (ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[النحل:125].

على هذه الأسس يرسي القرآن الكريم قواعد الحوار في الإسلام؛  على أساس الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، إنه منهاج حضاري متكامل في ترسيخ مبادئ الحوار بين الشعوب والأمم والأفراد والجماعات.

أضف إلى هذا أن مصطلح الحوار يشير إلى درجة من التفاعل والتثاقف والتعاطي الإيجابي بين الحضارات التي تعتني به، وهو فعل ثقافي رفيع يؤمن بالحق في الاختلاف إن لم يكن واجب الاختلاف، ويكرس التعددية، ويؤمن بالمساواة. وعليه فإن الحوار لا يدعو المغاير أو المختلف إلى مغادرة موقعه الثقافي أو السياسي، وإنما لاكتشاف المساحة المشتركة وبلورتها، والانطلاق منها مجدداً.

وعليه، فإن الحوار بين الحضارات يهدف إلى تحقيق التعارف والتعايش والتعاون والاحترام وتبادل المنافع بينها.

والإسلام بعمرانه البشري الخالد وتجربته الإنسانية العميقة والحافلة بأشكال تطبيق الحوار في شئون الدين والدنيا بين جميع البشر؛ دون تمييز أو تحيز لأي سبب، له دوره الرئيس الذي ينبغي أن يقوم به في هذه المرحلة التاريخية المعاصرة.

وليس هذا بجديد، فقد ازدهر الحوار في ظل العمران البشري الإسلامي، وهذا لكون الحوار يمثل منهاجًا من مناهج دعوة الإسلام إلى الناس كافة لعبادة الواحد الأحد الله رب العالمين وتحقيق التغيير والإصلاح، وتطهير المجتمع الإنساني من الفساد، وتنمية العلاقات الأخلاقية بين الجماعات الأفراد والأمم.

ودعا القرآن الكريم إلى الحوار في قوله جل وعلا: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل:125].

وأوجز رسول الله ( جوهر رسالة الإسلام في كلمات جامعة شاملة بليغة فقال -فيما رواه عنه أبو هريرة ?-: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ»( ).

وقد أرسى الإسلام في أصوله الثابتة الطاهرة: القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة، وإجماع السلف الصالح مبادئ الحوار، وقد حفلت به مظاهر الحياة في العمران البشري الإسلامي في جميع مراحل تطوره التاريخي منذ ما يزيد على خمسة عشر قرناً.

إن دعوة الإسلام إلى التفاعل مع باقي الحضارات والجماعات تنبع من رؤيته للتعامل مع غير المسلمين، فعقيدة المسلم لا تكتمل إلا إذا آمن بالرسل جميعًا: ?آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ? [البقرة:285]، بيد أنه لا يجب أن يُفهم هذا التسامح الإنساني الذي جعله الإسلام أساسًا راسخًا لعلاقة المسلم مع غير المسلم على أنه انفلات أو استعداد للذوبان في أي كيان من الكيانات التي لا تتفق مع جوهر هذا الدين.

فهذا التسامح لا يلغي الفارق والاختلاف، ولكنه يؤسس للعلاقات الإنسانية التي يريد الإسلام أن تسود حياة الناس، فالناس إما أخوك في الدين أو نظيرك في الخلق، وهوية كل أمة وخصوصياتها العقائدية والحضارية والثقافية، لا سبيل إلى إلغائها، ولكن الإسلام لا يريد لهذه الخصوصيات أن تمنع التفاعل الحضاري بين الأمم والشعوب والتعاون فيما بينها.

إن شرط ازدهار هذه القيم في أي حضارة يرتبط أساسًا بمدى قدرتها على التفاعل مع معطيات الحضارات الأخرى ومكوناتها، وبالتالي الاعتراف بهذه الحضارات ومحاورتها وقبول تعددية الثقافات وتفهم مفاهيم وتقاليد الآخرين، واعتبار الحضارة الإنسانية نتاجًا لتلاقح هذه الحضارات وتفاعلها لا صراعها فيما بينها، أو استعلاء بعضها على بعض.

والعمران الإسلامي منذ نشأته وتكونه لم يخرج عن هذه الدائرة التواقة إلى التفاعل مع الحضارات الأخرى أخذاً وعطاءً، تأثرًا وتأثيرًا. لقد حمل العرب قيم الإسلام العليا ومثله السامية وأخذوا في نشرها وتعميمها في كل أرجاء الدنيا، وبدأت عملية التفاعل بينها وبين الحضارات الفارسية والهندية والمصرية والحضارة الأوروبية الغربية فيما بعد، ومع مرور الزمن وانصرام القرون نتج عمران بشري إسلامي جديد استفاد مما عند الحضارات والشعوب والأمم التي دخلت في الإسلام، فاغتنى العمران الإسلامي بكل ذلك عن طريق التلاقح والتفاعل، وكان هو بدوره فيما بعد عندما استيقظت أوروبا من سباتها وأخذت تستعد للنهوض مكوناً حضاريًا ذا بال أمدّ الحضارة الأوروبية الغربية بما تزخر به من علوم وقيم وعطاء حضاري متنوع.

يقول العلامة يوسف القرضاوي-حفظه الله-: "إننا -نحن المسلمين- نؤمن بالحوار؛ لأننا مأمورون به شرعاً. وقرآننا مليء بالحوارات بين رسل الله وقومهم، بل بين الله تعالى وبعض عباده، حتى إنه سبحانه حاور شر خلقه: إبليس. ولهذا نحن نرحب بثقافة (الحوار) بدل ثقافة الصراع سواء بين الحضارات أم بين الديانات. ولا نوافق على منطق بعض المثقفين الأمريكيين مثل "هنتنجتون" الذين يؤمنون بحتمية الصدام بين الحضارات، وخصوصاً بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. فلماذا لا تتفاعل الحضارتان وتتكاملان، ويقتبس كل منهما من الآخر ما تفوق فيه؟ وماذا نريد نحن من الغرب؟

إننا نريد من الغرب أن يتحرر من عقدة الخوف من الإسلام، واعتباره الخطر القادم، (الخطر الأخضر) كما سماه بعضهم، وترشيحه ليكون العدو البديل بعد سقوط الاتحاد السوفيتي الذي سماه "ريجان" إمبراطورية الشر !

كما نريد من الغرب أن يتحرر من عقدة الحقد القديمة الموروثة من الحروب التي سماها الغرب (صليبية) وسماها مؤرخونا (حروب الفرنجة).

فنحن أبناء اليوم لا بقايا الأمس، ولسنا الذين بدأنا هذه الحروب، بل نحن الذين شنت عليهم. ونريد منه كذلك أن يتحرر من نظرة الاستعلاء، التي ينظر بها إلى العالم نظرة السيد إلى عبده، فهذه النظرة من شأنها أن تثير الآخرين وتستفزهم"( ).

هذا عن نظرية الحوار بين الحضارات، وهناك من يميل إلى تعبير: (التدافع بين الحضارات) بدلاً من "الصراع" ويستند هؤلاء في ذلك إلى قوله تبارك وتعالى: ?وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ? [البقرة: 251]. فغاية التدافع هي عمارة الأرض والإبقاء على الأنفع والأحسن والأكثر فائدة للبشرية، فالبقاء للأصلح وليس للأقوى، ولا للظلم كما يريد "هنتنجتون" وأمثاله... فنحن عندما نتحدث عن التدافع فإنا لا نستهدف القضاء على الآخر ولا مصارعته بل تبادل المنافع وتحقيق المصالح المشتركة لبني الإنسان.

 ويميل فريق آخر إلى تعبير: (مصالح الحضارات) لما يجسده من قيم إنسانية تسهم في بناء مجتمعات تقوم على مبدأ (التبادل المنضبط بين كل الثقافات)، وهو ما لا يمكن تحقيقه عن طريق حضارة واحدة هي الحضارة الغربية، بل لابد من مشاركة لكل الحضارات العالمية الموجودة على الساحة. والتبادل ليس للسلع الاستهلاكية وحدها، وإنما يشمل ما هو أسمى وأبقى، ألا وهو الندية والاحترام المتبادل والحوار الفكري العالمي.

 وهناك كذلك مبدأ (تعارف الحضارات)؛ فالتعارف هو المفهوم العام والكلي والجامع والشامل كما ورد في قوله تبارك وتعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ? [سورة الحجرات: 13]. فهو الذي يحدد النمط العام لعلاقات الناس كافة فيما بينهم، مهما تعددت أعراقهم وتنوعت أجناسهم ولغاتهم وألسنتهم ومعتقداتهم ومذاهبهم وتاريخهم وجغرافياتهم. ولأن خطاب الآية إلى الناس كافة، ولأن الحديث عن شعوب وقبائل وليس عن أفراد، أي أنه حديث عن أمم ومجتمعات وتجمعات لذلك فقد جاز لنا تطبيق هذا المفهوم على مستوى الحضارات، ومن هنا تحدد مفهوم تعارف الحضارات.

 

إن جوهر العلاقة مع الآخرين هو: التفاهم والتواصل والتبادل الحضاري؛ أي تبادل المنافع والخيرات والخبرات، كما نلاحظ أن المعاني: (الحوار-التدافع-التعارف-المصالح) متقاربة للغاية، وكل منها يقره الإسلام بل يدعو إليه.

كذلك فإن التحاور هو الوسيلة إلى التعارف، كما أن التدافع يعنى التفاعل الإيجابي، وأن يفيد كل طرف بما هو نافع وحسن لدى الآخر وينبذ الباقي.

 

وهذا يقره ديننا الحنيف، وسيدنا رسول الله  لما ذكر حلف الفضول الذي شارك فيه في شبابه قبل البعثة -وكان حلفًا لنصرة المظلومين، والمطالبة بحقوقهم، ولو كانت عند أشراف القوم وسراتهم- أثنى عليه: عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ:«لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَو أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلاَمِ لأَجَبْتُ»[ سنن البيهقي، 6/367].

وإن أهم ما تميز به الإسلام تجاه الآخر إشاعة روح السماحة والرحمة والرفق في التعامل، وهذا نابع من أخلاق الدين وما جاء به النبي الأمين، وصدق الله تعالى حيث يقول مخاطبا نبيه ورسوله وصفوته من خلقه سيدنا محمدا (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء:107].

وإن استمرار وجود ملايين من غير المسلمين في معظم دول العالم الإسلامي حتى الآن بكنائسهم ومعابدهم لخير دليل على تسامح المسلمين وعدلهم، وحمايتهم للآخر، وعدم إكراه أحد على الإسلام بعد أن فتحوا تلك البلدان. قارن هذا التسامح بالإبادة الجماعية للمسلمين في إسبانيا بعد انتهاء حكم المسلمين بها، وإبادة الهنود الحمر -سكان أمريكا الأصليين- على أيدي البيض الذين قدموا من شتى أنحاء أوروبا واحتلوا الأمريكتين بقوة السلاح.

 

د. أبو اليسر رشيد كهوس / المغرب

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2017 الاربعاء 01 / 02 / 2012)

................

(1) السنن الكبرى، للبيهقي، 10/192.

(2) الحوار بين الإسلام والنصرانية، يوسف القرضاوي، موقع إسلام أون لاين، ركن الإسلام وقضايا العصر، بتاريخ 13\8\2005

في المثقف اليوم