قضايا وآراء

وحدة الذهنية العربية في الفن الاسلامي (1)

بين الخالق وخلقه وما يقتضيه ذلك في تحقيق ارادة الخالق في الكون، الذي يعمره الانسان الاكثر مسؤولية في هذه الحياة .

 ولما كان الاسلام هو جوهر الحضارة، وكان التوحيد هو جوهر الاسلام، فقد اشتمل هذا المنطق على كل القوانين الداخلية للاشياء، في مستواها الدنيوي والاخروي، وجعلها في اطار وتسلسل منهجي دقيق وليجعل من التوحيد تصورا عاما للحقيقة ومدركاتها .

 فكان الخالق عز وجل يتجلى بصفاته التي تساعد المخلوق لادراك تلك الصفات وارادة الخالق في خلقه وملكوته، وكان القران الكريم معبرا عن تلك الارادة وسننها في الارض لان هذه الارض والعالم التي امامنا مجموعة لا متناهية من الاشياء ومجموعة من الموضوعات التي تؤثث الكون، وتجعل منه كيانا قابلا للادراك والمعاينة والتغيير . وبالتالي اشتغال الكون كمستودع داخله سلسلة من الاشياء وينتج عبر ميكانيزماته الخاصة نمط ادراك هذه الاشياء .

 وكان لمبدا التوحيد كجوهر حضاري في الاسلام، اسلوبا يحدد الشكل الذي تنتظم به المبادئ، المكونة للحضارة في عملية التطبيق، والثاني في المبادئ نفسها التي تنتظم داخل الشكل بما ندعوه الان بالمظهر والجوهر او الشكل والمضمون .

 لقد اتضحت فكرة التوحيد انطلاقا من موقف الدين والحياة والوجود في عرضيتهما، وبما يحويانه من انسان وحيوان وطبيعة، ازاء جوهرية المطلق، الذي هو الغيب جل جلاله . المطلق الغائب الموجود في كل شئ، (اينما تولوا وجوهكم فثم وجه الله) و(كل شيء هالك الا وجهه) و(وسنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق) والعديد من الايات الكريمة التي تؤكد وهمية وعرضية الزمان والمكان، والوجود كعالم يشهد ازاء مطلقيته وجوهريته وازليته، وابدية الله .

 

مبدأ الجمال

 وامام هذه العرضية، يفقد الموضوع قيمته الاساسية في العمل الفني الاسلامي ويتحول الى المبدأ مع قيمة الشكل بدلا من الشكل والمضمون او الموضوع فالجمال في الفنون العربية الاسلامية تتميز بتفردها بتلك اللمسات الروحانية التي ترتاح اليها النفوس وتتماهى مع تعابيرها وتوريقاتها اللامتناهية، لتوحي بشعور الانتماء الى عوالم كونية بعيدة تمد الروح القلقة فيها بسلامها وطمأنينتها . حتى اعتبرت الزخرفة نوعا من الطقوس المقدسة والمنمنمات تمثل لا نهائية الحياة . حيث يقول (مارسيه): (في كتاب الفن الاسلامي) (ان وحدة الرقشة الزخرفية بغير بداية او نهاية، فهي سرمدية استوحت قواعدها من القواعد الرياضية وتكرار الموضوع والرغبة في حل معادلة اللانهاية) .

 ويكشف لنا ابن عربي عن جوهر الفن الاسلامي بقوله : (الذات محجوبة بالصفات، والصفات محجوبة بالافعال، والافعال محجوبة بالاكوان والاثار، فمن تجلت عليه الصفات بارتفاع حجبت الافعال، رضي وسلم، ومن تجلت عليه الصفات، فني في الوحدة، فصار موحدا مطلقا، فتوحيد الافعال مقدم على توحيد الصفات، وتوحيد الصفات مقدم على توحيد الذات) (الفتوحات المكية) .

 من هنا تغيب الذات في الفن الاسلامي، وتضمحل امام عظمة الخالق، ولاتظهر الا في سمات ذلك الفن الجمعي، الذي يعيد عزفا اسلاميا جماعيا، فيغيب الفنان المسلم بينما يتجلى الفن الاسلامي في ابهى صوره .

 كما تنعكس صفة المطلق من خلال ذلك التكرار الذي لا ينتهي في انتشار الزخرفة باتجاهات متعددة لا تنتهي او تتوقف انما تتوالد بصورة مستمرة . وهكذا ينمو الفن من نقطة واحدة تتراكم بنظامية هندسية رياضية، او تتكرر حسب نظام كلي فتصير خطاً والخط يكون اشكالا مربعة، دائرة، مخمس، مسدس، مسبع، مثمن .... الخ ثم تدور هذه الاشكال حول مراكزها ... انها النقطة .

 

قواعد اساسية

الجانب الاسلوبي الذي يحدد علاقتنا بالفنون الاسلامية عموما والخط العربي خصوصا ينطلق من مبادئ اساسية ثلاث هي:

(الوحدة، والعقل، والسعة) .

فالوحدة في الفنون الاسلامية عملية انتظام في علاقات داخلة مع مكونات تلك الفنون مهما اختلفت اساليبها ووسائلها، فكأن وحدتها الاسلوبية هي في حقيقتها وحدة جوهر مع اختلاف جميع الاغراض . اما العقل فكان يؤكد على ما يخالف الحقيقة واستمرار التناقضات والانفتاح وتقبل الدليل المخالف . فكان رفضه لمخالفة الحقيقة حماية له من الظن والذي يكون احيانا اثما (ان بعض الظن اثما) . ورفض المتناقضات كان اتفاق على مصدرية المعرفة اليقينية اما اشتغال العقل فقد كان حماية للانسان من الانغلاق .

 وفي هذا الاطار تمتد فكرة التوحيد لتشمل المبادئ الاساسية في حياة الانسان المسلم وتكون في وقت واحد مبدأ اخلاقيا وقيميا، واجتماعيا، وجماليا . وفي ذلك يقول : (روجيه غارودي) (الفن الاسلامي كالعلم الاسلامي والحياة الاجتماعية الاسلامية والفلسفة الاسلامية، لا يمكن فهمها الا من خلال مبدأها الاساسي وهو العقيدة الاسلامية) .

 

المرئي واللامرئي

 ولتأكيد الثوابت الشكلية، والجوهرية الموزعة على محور الزمان والمكان، في حياة الفنان المسلم . سنعيد تشكيل سلم احالات داخلية في النسق الفكري الذي انتهى اليه الفن الاسلامي والذي لا شك ان في تنظيم تاريخه الجمالي، وبنيه خطابه المتماسك داخل صيرورته ستساعدنا كثيرا في قراءة الجانب المرئي منه، وتحرك فينا تلك الاصداء التي تكشف عن خطاباتها الجوهرية الغير مرئية وهذا هو ديدن الفن الاسلامي في اكتشاف ذلك الجوهر، ومنحه ذلك الجسد المرئي، اي استقراء الجوهر الماورائي واعادة تمثيل ذلك الجوهر .

 ولما كان هذا الجوهر الماورائي الهي في طبيعته ومصدريته فهو جدير بالتقديس والجلال والمهابة . واذا كانت الفلسفات القديمة تبحث وتؤكد على ذلك الجمال الذي تدركه الحواس فان الاسلام كان يؤكد على ذلك الجوهر (الجمال الذي يدركه العقل) في محكم بيانه العظيم او في تجسيده للايمان والوفاء والتقوى والشجاعة والكرم .

واعتبر الامام الغزالي ان ذلك الجمال المدرك بالعقل تعجز الحواس بحكم محدوديتها عن ادراكه او نقله الى العقل، وانما يدركه العقل مباشرة دون ان يكون للحواس فضلا في ذلك لانه من المدركات الاعتبارية المؤثرة في النفس والوجدان .

 

الجمال الحسي والجمال العقلي

 توضح لنا امران في ادراك الجمال في الاسلام، جمال حسي، وجمال عقلي . الاول يدركه البصر والاخر تدركه البصيرة . وان يكن الامام الغزالي قد كشف عن عمق جمال البصيرة بقوله (البصيرة الباطنة اقوى من البصر الظاهر) (القلب – العقل – اشد ادراكا من العين) وجمال المعاني المدركة بالعقل اعظم من جمال الصور الظاهرة للابصار . ولذة القلب في ادراك الامور الجليلة الالهية اقوى وامضى . وهكذا وحد الجوهر في الفن الاسلامي، بين ذلك النسق في العلاقات الشكلية بين المفاهيم والاسباب التي ادت الى تالفها او اختلافها، ويصر ذلك النسق على الاكتمال في الرؤية، بعد ان كانت كل الوقائع مستعصية على الانصياع .فالمدرك بالبصر والبصيرة غير الملموس باليد او البعيد المنال .

 وهكذا تحرر الفن الاسلامي من الحضور العيني للوقائع البصرية . انه فن يؤمن بالتوحيد ويشهد على الالوهية، عندما يقضي الفنان المسلم بان لا شئ في الطبيعة يحمل صورة الله او يعبر عنه، اي ابعده عن طبيعته، وتامل الفنان الموحد بان عدم التعبير عن الله شئ، والتعبير عن عدم التعبير شيء اخر، اي ان استحالة التعبير عن اله، هي اسمى الاهداف الجمالية (ليس كمثله شئ) و (لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار) التي يمكن ان ينشدها، وراى انه يمكن التعبير عن استحالة التعبير وذلك يحمل ما يرى في بصيرته على الايمان بالانهائية وهو المحال التعبير عنه فكان فن الخط والزخرفة والعمارة والكثير من منتجات الفن الاسلامي . وعند استحالة التعبير في شكل هذه الفنون بعد تغير موضوعاتها ايقن الفنان الموحد معنى من معاني التنزيه . لهذا كانت كل الفنون الاسلامية تسعى الى تجاوز لغة الشكل والتقليد .

 

لغة الشكل وايقاظ العين

 وتتسم لغة الشكل بتجردها من القيم المادية بالطبيعة، فتتحول تلك القيم الى خطوط والوان مسطحة ومجردة من اي دلالة في العالم المنظور بل تقود تلك الخطوط والالوان الى نزعة صوفية تزهد بكل ما هو عاطفي او حسي او عرضي . حتى قيل في الخط (بانه هندسة روحانية وان ظهرت بالة جسمانية) او (الخط اصيل في الروح) و (والخط لسان اليد، ومطية الفكر او العقل) كما اورده ابن النديم .

 وتحمل لغة الشكل في الفن الاسلامي استعدادا مبكرا لايقاظ لغة العين لان المدرك بالبصر والبصيرة غير الملموس باليد او البعيد المنال ومحاولة قراءته بطريقة بنائية – تركيبية وبنسق يوضح العلاقة بين المفاهيم والاسباب التي ادت الى تالفها او اختلافها لانها عندما تتوجه اولا للعين تتخذ منها طريقا للوصول الى الانسان ككائن موحد .

وايقاض لغة العين يعني، ان يكون باستطاعتها ان تقرأ مضمون المستقيم والمنحني والمتحرك والثابت والمغلق والمفتوح وتجليات النقطة واكتمال الدائرة وكل النظام الحي الذي يحكم مسار العناصر وبالتالي ان تقرأ لغة الشكل كمضمون .

 

والسؤال الذي يقدمه الفن الاسلامي هو : كيف ترى ؟ لا ماذا ترى .

 فقد شهد الفن الاسلامي منذ حضوره، على كيفية الرؤية لا على موضوع الرؤية، وهو ما تسعى اليه المدارس الفنية الحديثة، والمناهج الفكرة في التلقي والتاويل سواء في الادب او الفن اليوم . فالعين اذاً هي القصد الاول سواء كانت في مجال القراءة او التامل او التذوق او الفهم، والعين هنا ليست اداة العقل او المخيلة او اداة الحس، كما هي بالنسبة للكثير من الفنون بل انها الطرف الاخر المستقل التي تمثل الانسان ككل في عقله ومخيلته وحسه . ومفردات لغة العين من شكل وخط ومساحة وحدود ونظام، كالحروف التي تتالف من الكلمات والجمل والمصطلحات والرموز والاشارات والحركات وذلك باقتدائها بنظام خاص يشكل سر اللغة وجوهرها في الاصغاء لهذا النظام الذي يتحكم بالشكل وعناصره في قوانينه وعلاقاته وامكاناته وفي الاصغاء لمعنى تجلياته ومصدرها، يتم الفهم واللقاء بين المتامل وبين الفن . فتحجب عندها اللغة والعين معا، ليقف الانسان ككل متوحد امام الشهادة التي يشهدها هذا الفن .

 اننا ازاء فن لا يروي ولا يصف ولا يعلق ولا يشرح، فقد غاب الموضوع عنه فتجرد من الفرح او الحزن، كما تجرد من الزمان او المكان فلا حاجة اذاً للتواريخ والاماكن، بل تبرز الحاجة للعين التي تعرف كيف تقرأ تلك العناصر والخطوط والالوان في تلاقيها وتقاطعها وتنافرها وتناغمها كاشارة او رمز او نظام خفي .

 

وحدة الرؤية

 وكنا فيما سبق قد شهدنا وحدة الرؤية في الفن الاسلامي ومصدرها ويحضرنا قول لـ(تيتوس بوركهارت) (بان الفن الاسلامي يستقي مكانته من التزاوج بين الحكمة والمهارة الحرفية، وتبرز قيمة الاتقان هذا في الفن الاسلامي، كنوع من الاخلاص والاجادة في اداء العمل، وهي رؤية شمولية لحياة الانسان في عبادته وفكره وحياته اليومية فضلا عن فنه . لا شك ان مثل هذه الرؤية الفنية والتراث الخالد مبنيان على البراعة والحكمة في كافة تجليات الفن الاسلامي .

 ولمناقشة وحدة الرؤية في الفن الاسلامي، فاننا نعود الى تفسير وحدة الفكرة لدى بورك هارت حيث يقول: (ان لدى الفنان المسلم ثلاثة وسائل:

(الهندسة) وهي تترجم النظام المكاني .

(والايقاع) وهو يكشف النظام الزمني، وكذلك في المكان على نحو غير مباشر .

(والضوء) بالنسبة للوجود المحدود ، وهو في حقيقة الامر غير قابل للانقسام، وطبيعته لا تتغير بفعل انعكاساته على شكل الوان، ولا تقل بفعل انعكاساته او تدرجاته من النور الى الظلمة)

وهذه الوسائل الثلاث تبدو بشكل نموذجي في الفنون الاسلامية في العمارة والزخرفة والخط، كما الغى الاسلام الحدود الفاصلة بين الدين والحياة، وكان المسلم يبدأ بالبسملة عند شروعه القيام باي عمل .

اما الوسيلة الاولى (الهندسة)، او ما يسمى بالعلاقات الهندسية في الفن العربي الاسلامي، فهي التي ستكون محور موضوعنا الحالي، ومن الضرورة هنا التمييز بين العلاقات الهندسية والعلاقات الرياضية .

النسبة الذهبية الاغريقية

 والعلاقات الهندسية في عمليتي النسبة والتناسب لم تكن بجديدة على الفن الاسلامي اذ سبق ذلك في الحضارة اليونانية عندما وجد فيثاغورس بان اجمل العلاقات التناسبية التي تربط بين الحجوم والاشكال والمساحات هي تلك التي تتساوى بالنسبة الذهبية والمتمثلة بالشكل المستطيل الذي يتكون من مربع ومستطيل اخر صغير، لكن المستطيل الصغير والكبير متماثلان . بمعنى ان النسبة بين اضلاعهما متشابهة، اي ان ناتج قسمة الضلع الكبير للمستطيل على ضلعه الاخر، تساوي تماما ناتج القسمة للضلع الكبير للمستطيل على ضلعه الاخر .

  وقد وجد الاغريق بان هذه النسبة التي تبلغ 1,61803398875 وتبسط الى 1,618 هي اجمل العلاقات التي تريح البصر، وتشكل احد اهم معايير الجمال في الطبيعة كما في المعبد اليوناني (البارثيون) لهذا فقد اعتمد هذا المعيار في عمارتهم واعمالهم الفنية . وقد وجد بعد ذلك تطابقا لهذه النسبة مع الكثير من المظاهر، بعد ان اجرى (روبنسون) دراسته على الهرم الاكبر الذي بناه الفراعنة، فوجد انه يخضع لقوانين النسبة الذهبية، حيث ان النسبة بين المسافة من قمة الهرم الى منتصف احد اضلاع وجه الهرم وبين المسافة من نفس النقطة حتى مركز قاعدة الهرم المربعة تساوي النسبة الذهبية .كما تم العثور على تطبيقات عديدة جدا لهذه النسبة .

وقد استخرج بعد ذلك العديد من النسب من القطاع الذهبي من اجزاء ومضاعفات النسبة الذهبية الاولى كما في نسبة مستطيل الجذر الخامس، والنجمة الخماسية للقطاع الذهبي ومثلث القطاع الذهبي، والنسبة الجوهرية، ونسبة الجذر التربيعي للعدد 2، والنسبة الرقمية البسيطة، ونسبة فايبوناتشي، ونسب عديدة تبحث في اصل تناسب القيم الجمالية في حياة الانسان .

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1187 السبت 03/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم