قضايا وآراء

كون الموت وعماء الحياة .. قراءة في "نص النهر والمقصلة" للشاعر "موفق محمد" / ذياب شاهين

إلا أن الشاعر قد جمعهما في عتبة النص معا، وبالرغم من أن ملفوظ النهر بصفته قسيما أولا منها أي من العتبة إلا أن له دلالته المختلفة، فلو استعنا بالتقسيمات البيرسية للعلامة نسبة للعالم الامريكي (بيرس) سنجد النهر بوصفه ملفوظا أو دالا صوتيا يحيل لعلاقة إيقونية أو صورية وهذا ما يبدو و اضحا في أجزاء كثيرة من متن النص حيث النهر يشير للفرات العظيم وليس لغيره، إلا أن القارئ أقصد القارئ النموذجي أو المتعاضد بالتعبير الإيكوي (نسبة إلى ايكو) لا يمكنه أن يتمسك بهذه الدلالة الإيقونية، لأن القراءات المتتالية للنص تكشف عن علاقة رمزية بين النهر بوصفه ملفوظا وعدة مداليل مغيبة، إذ أن هناك مدلولا معنويا يحيل إليه النهر وهذا المدلول هو الحياة مثلا أو يحيل لشخص، منقذ وفادي ومخلص متمثلا أو متجسدا بشخص الإمام الحسين (ع).

إذن فاختيار ملفوظ النهر وبدلالاته الواضحة أو المغيبة الصورية أو الرمزية إنما هو انحياز للحياة بكل عنفوانها، فالجريان الطبيعي للنهر ومن ثم ارتفاعه وانخفاضه ضمن إيقاع حيوي ومحسوب وعذب يحيلنا وبدون مواربة لدورة الخصب والنماء، وهذا يعني أن ملفوظ النهر دال ثري الدلالات في هذا النص أو هو نمط لانطوائه على كثير من المقابلات (حسب فرانسواز أرمينكو ) ومن هنا تتأتى حيوية العتبة وثراؤها.

وإذ ننتقل للقسيم الثاني لثريا النص، نجد ملفوظا كئيبا ودمويا وقاطعا هو المقصلة، وماذا تعني المقصلة رمزيا سوى الموت ثم أي موت هذا الذي تحققه المقصلة، أليس هو الموت القسري واللاطبيعي، أو الموت المجاني الذي يمارسه البشر على بعضهم البعض، إن المقصلة بوصفها ملفوظا تشير إلى آلة الموت إيقونيا، وهي آلة تسبب القشعريرة والرعب في أوصال أبناء الجنس البشري ولا شك فالمقصلة بوصفها آلة تصنع الموت إنما تصنعه بصورة بربرية ومخجلة، وهل هناك أبشع من قطع رأس الإنسان عن جسده، هذا الفعل تقوم به المقصلة بثوان متعددة.. مخربة جسد الإنسان بصورة مقززة، وهل هنالك أجمل من الجسد الإنساني؟ ذلك الجسد المخلوق ببراعة إلهية وقدسية نادرة، يخرب بانتهاك مزرٍ ووقح لكل ما هو طبيعي ومقدس وخالد، إن القراءة العميقة لملفوظ المقصلة تحيلنا لمعنى مختلف ومغاير، فالمقصلة هي رمز للقوى التي تمارس القتل باحتراف باذخ وبضمائر يابسة إيان مكانها وزمانها، إذن فالشاعر بوصفه مبدعا للنص حينما يجمع النهر والمقصلة بوصفها ثريا مضئية وبصفتها دليلا للمتن فإنه يوافق بهذا الاستخدام البارع لملفوظين متناقضين وخالقا لدلالات عميقة على المستويين التاريخي والدلالي، (فالنهروالمقصلة) بوصفها ثريا أو عتبة أوعنوانا يحيل لدلالات غنية وتفسح المجال واسعا للتلقي كي يسبر غورها ويقول كلمته، فثيمة مقتل الإمام الحسين (ع) على نهر الفرات، ومن ثم قطع رأسه عن جسده الطاهر بتلك الطريقة الوحشية المعروفة إنما هي حية ومازالت فاعلة في حياتنا بل هي ملهمة لكثير من الشعراء والفنانين والسياسيين، فهذا هو غاندي الهندي يقول تعلمت من الحسين كيف أموت مظلوما فأنتصر، إذن فإن شعرنة هذه الثيمة تحتاج لشاعر مقتدر كي يخرجها من إطارها التاريخي ثم إسقاطها على واقعنا الراهن، ولا شك فالحصارات الباذخة والقصوفات الامريكية لأراضينا وبانوراما القتل اليومي الذي تمارسه قوى غاشمة ومستهترة هي امتداد لجرائم تاريخية مماثلة حدثت وتحدث على ضفاف دجلة والفرات والشاعر أي شاعر بكل بساطة وعفوية يرى ويربط بين حادثة الطف وما نتعرض له نحن الآن، إن ثريا النص تريد أن تقول لنا بكل أمانة إن الجريمة ما زالت مستمرة، ولكنه قالها بصورة موحية وغير تقريرية ولا شك فالشعر غير الكلام المباشر وهذا ما سنلحظه في متن هذا النص.

 

متن النص

يبدأ النص بصيغة النداء المخاطبة قائلا:-

يا أيها النور الذي ابتكر الحياة

فقدت بكارتها الحروف

فلا جديد لما جرى

 

إن نور الشهادة والتضحية صنو للحياة، ولكنها ليست كأي  حياة، إنها الحياة الكريمة الشريفة قطعا، وإذ تتعطل اللغة فأن حروفها وهي مفتضاة لا بد لها من وصف ما جرى  بطريقة أخرى، ولكن مبدع  النص يخبرنا بأن ليس هنالك جديد لما جرى، فالخيول وهي دال رمزي للحرب ولحفلات القتل قد جالت وخربت حدائق الله، وهي تمزق أشلاء أبناء الرسول وعترته، والمشهد الدموي هذا يحيل لحقائق كثيرة ومثيرة وهي بالضرورة غير مرئية ولا يمكن البوح بها، ولكن أنى للقلم أن يرسم ذلك الجسد الضمآن وهو يسقي الأرض بدمه: -

 

ضمآن يسقي الارض دم

من أين يرسمه القلم

 

وإذا كانت هذه الصورة متخيلة يعجز القلم من تصويرها، فالشاعرحين ينتقل إلى تصوير قاع النهر بعد أكثر من ألف عام لا يجد النهر بل يجد هياكل ورقاب بلا رؤوس وقوس قزح يود مسك ولو قطرة من دم الحسين وهي تبحث عن جرحها :-

 

لم نجد النهر.. في القاع بقايا من هيكله.. تلوح موحشة كالخلل تحت عربيد الضمأ الذي يمتد لابسا ضفتيه شفاها متحجرة.. رقاب بلا رؤوس وقوس قزح يتدلى من السماء ليمسك بقطرة دم تبحث عن جرحها

 

إن الشاعر يرسم لنا لوحة سريالية تنطوي على عدة صور، وفيها مكان غريب لنهر تحول إلى خلل(أي منفرج بين شيئين) لا ماء فيه، بل هناك هيكل فقط، والضمأ عربيد أو أفعوان شفتاه ضفاف النهر المتحجرة، والواقع أنها صورة طازجة وخرافية، وكذلك فهناك قوس قزح الذي يتدلى ليمسك قطرة دم تبحث عن جرحها، وهذه صورة طازجة أخرى، حيث من المعروف حقيقة أن (قوس القزح) يكون معلقا في السماء على شكل قوس باهر الألوان نتيجة لانكسار الضوء من على قطرات الماء، ولكن الشاعر يراه أو يتخيله متدليا يبحث عن قطرة دم ليمسك بها، وهذا خارج المنطق الفيزياوي لتكونه/ أي تكون القوس/ إذن فالنص يزودنا بصورة فطرية لخيال خصب، وكلما تلامس الصورة أرواحنا تكون أكثر صدقا وأكثر عمقا وبالتالي أكثر طزاجة (حسب تعبير باشلار).

يدس الشاعر في النص بعض الرموز ذات المرجعية الدينية والأسطورية، وكلما تزداد هذه المرجعيات يكون النص أكثر ثراء وأكثر قوة وأكثر بذخا، وقد تكون حقيقة نزول آدم للأرض بوصفها ثيمة دينية تحيل لبداية تؤرخ للبشر ابتداء الحياة إثر مقلب أو خدعة ابتكرها إبليس لإخراج آدم من الجنة:-

 

هل كان آدم قبل آدم

 

حيث يتساءل الشاعر عمن أراد إخفاء هذه الجريمة، إلا أن أخفاءها عمل لايتحقق وهو في واقعه جريمة أخرى بحق الدماء التي سفحت ظلما وستظل تطالب بالاقتصاص لها حتى يوم يبعثون، حيث يقول الشاعر:-

 

من يا ترى

لف الجريمة بالجريمة

واستراح من الدماء

 

وهذا يعني أن بانوراما الموت فعل مقدس يمارسه الأقوياء ويجب الاحتفال به كل عام، لذا فالموت هو اللحن السائد والنغم الأزلي لكنه نغم تنبجس من رماده الحياة المتجددة:-

 

الموت قبل الناي يعزف

في عروق الأرض يبتكر السلالم

للصعود للسماء

 

إذن فهي معادلة متساوية الطرفين، تحتل الشهادة طرفها الأيمن بينما تنام الجريمة وتغيب في طرفها الآخر، فالذي يمارس فعل الموت بوصفه مقصلة يكون في الطرف الأيسر، ومن يمارس عليه الموت  بوصفه نهرا يكون في طرف المعادلة الأيمن، وفي الواقع أن كلا الطرفين حياة، ولكن حياة القتيل ستكون سماوية ومتعالية ثمنها الدم ومن ثم الخلود، وهذا يعني أن إهراق الدم يمثل المعادل الموضوعي للعشبة الأبدية، ولكن حياة القاتل حياة أرضية ترابية متضائلة ليست بذات قيمة وغير مقدسة، إذن فالشاعر يرى ببصيرة نافذة طبقات سفر الحياة الدموي، مستعيرا صورة أرضية يسقطها بصورة وعظية أو نصحية لآدم:-

 

كان على آدم أن يرفع كأس الموت

ويشرب نخبه

ليراه الرب

لا أن يخطف قلب الدنيا كي يهبط في مقصلة تمتد على طول الأرض

 

إن هذه النصيحة المتأخرة لأبينا آدم من الشاعر – قد جاءت على شكل صور شعرية ، تكسر أفق توقع القارئ/ حسب تعبير ياوس/ لذا فهي جديدة بقدر ما كسرت من أفق التوقع، حيث لا يتوقع المتلقي أو القارئ أن يطالب الشاعر آدم أن يشرب نخب الموت بصفته نديما أبديا، لأن ما ينتظره (أو ينتظر أبناءه) مقصلة على طول الأرض، لذا فهي صورة شعرية استلها الشاعر من عالم اللهولارتباطها بمجالس الشرب والندماء، ولكن باختلاف الندماء في المجالستين، وبالتالي فهي صور برأينا تكاد تكون ذهنية.

هنالك أيضا ارتباط بين الموت والحب، وهو ارتباط جدلي غائر في اللاشعور الجمعي فالحب بوصفه قضية وجودية يتمظهر بصورتين عند الشاعر القديم، فعندما يكون الحب حبا فاضحا وداعرا يفقد قدسيته وتعاليه لينزل الأرض بصفتها حاضنا لكل ما هو ترابي وغير متطهر وغير مقدس، وبالتالي فإن مصير من يمارس هكذا نوع من الحب بحق المحبوب يكون مصيره الموت، وهذا ما كان عليه مصير المنخل اليشكري ووضاح اليمن، وعلى العكس من ذلك فالشعرالذي يتغزل بالمحبوب بصورة عذرية متعالية غير فاضحة أو مدنسة لجسد المحبوب، يكون مصير صاحبه الجنون فالنجاة، وهذا ينطبق على جميل بثينة وعلى مجنون ليلى (قيس بن الملوح) ومن هنا يجب ان نفهم مغزى جملة الشاعر حين يقول:-

 

وستغمر الأرض السما

فالحب جمرتنا الاثيرة

 

حيث إن الأرض هي التي تغمر السماء وتحولها إلى عماء لذا فالحب يمثل رد فعل طبيعي لخوف الانسان الأبدي من العدم والفناء.

كذلك نجد الشاعر يستخدم موضوعة الطوفان، ولكنه هنا يتنبأ به فالشاعر بوصفه عرافا أو كاهنا ينبئنا بطوفان آخر وجديد، طوفان دموي صاعق لا ينفع فيه فلك ولا جبل فهو طوفان من نار ودم :-

 

وسيبدأ الطوفان تنفتح الرقاب

حمم تطوح بالطغاة

لا فلك ينفع

 

والشاعر يبصرنا بأن نوح من يخوض غماره أيضا، ولكنه لا ينسى أن الطوفان الأول كان غير ذي جدوى، فالذين نجوا منه ظلوا يمارسون القتل حتى يومنا هذا حتى أن الجرائم التي اقترفوها لم تستثن أحدا فقد طالت الأنبياء والقديسين والأبرار، حتى أن الشاعر يقول إن النهر قد فر من ضفافه خجلا من هذا الجرائم:-

 

النهر فر من الضفاف ولم يؤشر دفتره

من أين يأتي

والجسور مفارز قامت عليها المقصلة

 

وهذا يعني أن النهر بصفته شاهدا أضحى مشاركا ومقاتلا أبديا في جرائم الإنسانية الكبرى، وقد أعيته هذه اللعبة المجنونة فهو مجند أزلي متمنطق بملابسه العسكرية وبسطاله وزمزميته، إن الشاعر يرسم صورة بارعة للنهر حين يمثله بجندي لم يؤشر دفتره، جندي أعيته الحروب الطويلة ففر دون أن يفكر في تأشير دفتره أو عدم تأشيره، ومن ذا الذي يجرؤ لتأشير دفتر جندي هارب، حقا فالماساة تتحول الى مهزلة مضحكة ومبكية معا حينما تتكرر أكثر من مرة.

وأخيرا يشبه شاعرنا المبدع " موفق محمد" نهر الفرات بيوسف الصديق، وبقية البحار أخوة له:-

كل البحار تصير أخوة يوسف والفرات هو الضحية

 

حيث يضعنا أمام مقاربة جميلة ومعبرة ورشيقة، حيث يتساءل الشاعر عن نهر الفرات وكأنه حقيقة يوسف قائلا:-

 

في أي جب غاب عن ظمأ الحسين

 

وهي تلميحة ذكية إلى جب يوسف حيث رموه أخوته، و ويتماثل مع أخوة ا لفرات/ أي البحار/ حين رموه في جب مماثل، لكن الشاعر لايريدنا أن نتعاطف مع الفرات بوصفه ضحية، لأنه يراه غير ذلك:-

 

لو كان نهرا لاعتلى القمرين

واعتصر الضياء

نورا على شفة الحسين

 

وهذه صورة بارعة أخرى، يرسمها الشاعر مصورا تخاذل النهر، ليس هذ فقط بل إنه يلوم الفرات لأنه قد ضيع فرصة كبيرة للشهادة والخلود وفرها له الإمام الحسين(ع) ولكنه لم يستثمرها، فمات من يومها ولم يرتو من مائه أحد:-

يا أيها النهر الذي ما ذاق من ضمأ الحسين

لو ذقت منه لسار موجك بالضياء

وبالحياة إلى الأبد

 

ليس هذا فقط بل لأضحى قبلة لكل غيوم السماء وأمطارها ولحجّت إليه البحار كي تتوضأ منه ولغنت له ورتلت أناشيد الخلود والقدم والبقاء إلى الأبد وكأنه ربُّ المياه :-

ولصرت قبلة كل ماء في السماء

وتوضأت فيك البحار

ورتلت

يا أيها النهر الصمد

يا أيها النهر الصمد

 

في نهاية قراءتنا لهذا النص لا بد من الإقرار بأن الشاعر "موفق محمد" استثمر نص الشهادة الحسينية بطريقة مغايرة وبعيدة عما نقرأه من نصوص مشابهة لا تضيف شيئا للحدث ولا تعكس آثاره على فجائعنا المتراكمة، ولذلك فهو يضع منجزه في المكانة التي يستحقها والقريبة من قلوب الناس وأحاسيسهم لقوتها ومغايرتها وانزياحها للقوى المهمشة والمظلومة، وهذا أحد أسرار تعلق ومحبة أغلب الناس لنصوصه.


 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2024 الاربعاء 08 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم