قضايا وآراء

ثقافتنا العربية ومفهوم الحرية / جعفر المزهر

ومدى صلاحية تداول هذا المصطلح بدون عمقه الدلالي؛

 

علما أن المعطى الدلالي لأي مصطلح هو الذي يشكل العمود الفقري للباحثين والدارسين في مختلف المتون المعرفية ، وليس المصطلح بعنوانه إسما مجردا يستطيع ان يكون العمود المؤسس ، وأصبح معروفا أن من دون العمق الدلالي يصبح المصطلح حبرا على ورق، ولا يشكل بعدا مفهوميا، ولا يؤدي مفعوله البحثي والحياتي. ومن المصطلحات الاجنبية التي يتداولها المثقفون العرب بكثرة ويحملها السياسيون كشعار لحداثويتهم مصطلح (الليبرالية) بمدلولات عربية لا تمت لمصطلح الليبرالية بصلة، وبالمقابل هناك من يدعي اننا ترثيا كنا متحصلين على هذا المفهوم بعنوانه العربي ( مفهوم الحرية) الذي يقابل الليبرالية دلالة وترجمة حسب من يدعي هذا ، واننا سبقنا الاخرين في التأسيس للحرية . لكننا اذا تقصينا اصطلاح( مفهوم الحرية ودلالته ) في ثقافتنا العربية نجد ان ليس فيه شيء يقابل او يشابه مفهوم الليبرالية في عمقه الدلالي ، نعم ربما الليبرالية في تشكلها اللغوي الاول كانت في بعض مصاديقها تشابه تراثيا مصاديق مصطلح الحرية في ثقافتنا العربية .

فمفردة الحرية في لغتنا وثقافتنا العربية لا تتعدى دلاليا في وضعها الحالي اكثر من مدلولها القاموسي التراثي الذي يحكي ان الحرية هي نقيض الرقية . وهناك من يحاول أن يُضمّن مفردة الحرية وبدون تحولاتها - الفلسفية / الاجتماعية - دلالات أكثر مما تحتمل في حقيقتها الثقافية، ومحاولة جعلها مفهوميا تضاهي الليبرالية في حراكها الثقافي داخل مناطق : السياسة/ الاجتماع/ الاقتصاد ، و لأجل أن يقال بعدها إن عندنا مثل ما عند الآخرين من معرفة!.

فحقيقة الحرية عندنا تختلف مفاهيميا في مضمونها الدلالي عن مصطلح الليبرالية اختلافا تاما، فتشكلها في الذهن دلاليا تشكلٌ محدود تناولته وبشكل أساسي كتب الفقه واللغة ، ففي الفقه أعطيت (الحرية) دلالة فقهية تعبدية محددة: " (حرر) قال تعالى: فتحرير رقبة، أي عتق رقبة، ويقال حررت المملوك فتحرر، أعتقه فعتق والرقبة يراد بها الإنسان" * .

وتحرير الرقبة مداره وموضوعه في الفقه قائم على حكمين؛ فتارة يكون الحكم واجب، كأن يأتي الإنسان بذنب مثل عدم صوم شهر رمضان فيجب عليه تحرير رقبة ، حتى يُكفر عن ذنبه، وتارة يكون الحكم مستحبا مثل أن الدين يحث مالك العبيد أو مشتري العبيد على عتق بعض عبيده أو كلهم حتى يحصل على الثواب الأخروي ؛ وعتق العبيد هذا كان سائدا ومتحصلا في زمن الرق، وكان الحث على عتقهم من قبل الدين يمثل خطوة مهمة انذاك، أما اليوم فليس هناك عالم للرق وعليه حتى هذا المضمون الدلالي في الفقه قد انتفى وأصبح الأمر لا يخرج عن إطاره الدرسي الغير فاعل في الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية.

أما في اللغة فلم تأتِ شروحات الحرية مخالفة للمضمون الدلالي في الفقه ففي لسان العرب لابن منظور تأتي مفردة الحرية بهذا الشكل :

" وقال ابن الأَعرابي: حَرَّ يَحَرُّ حَراراً إِذا عَتَقَ، وحَرَّ يَحَرُّ من الأَصل الحُرَّية، وحَرَّ الرجلُ يَحَرُّ ؛

وفي حديث الحجاج: أَنه باع مُعْتَقاً في حَرارِه؛ الحرار، بالفتح: مصدر من حَرَّ يَحَرُّ إِذا صار حُرّاً، والاسم الحُرَّية ."

إذن، فاسم الحرية وبمختلف اشتقاقاته الفقهية واللغوية يتناول موضوع محدد وهو موضوع الرق وكيفية انتهاءه، وحتى المقولات التاريخية كمقولة الخليفة عمر بن الخطاب" متى استعبدتم الناس ولقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" لا تخرج عن هذا الإطار اللغوي والفقهي للرقية والتحرر منه.

وعليه ليس هناك تشكل مفهومي لاسم الحرية أوسع مما في (الفقه واللغة) في ثقافتنا العربية، ومفهوم الحرية عندنا لا يعادل مفهوم الحرية في الثقافات الأخرى .

فمفهوم الحرية في الثقافات الأخرى والأوربية منها على وجه الخصوص مشتق ايضا من مفردة: الحرية (liberté ) الكلاسيكية لكن هذه المفردة اخذت فيما بعد اشكال دلالية مختلفة عند الاخرين بسبب القدرات التعبوية التي راكمها النضال الوطني الأوربي في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولقد دفع هذا النضال ان توسع هذه الشعوب المضامين الدلالية لمفردة liberté والتي كانت ايضا محدودة الدلالة عندهم ومواضيعها شبيهة بمواضيعنا .

فبعد تثبيت الحقوق المدنية لهذه الشعوب في عملية التنظير ألاستشرافي من قبل مفكريها والنضالات التي خاضتها هذه الشعوب دخلت دلالات جديدة على تشكل (liberté) اللفظي والكتابي ، فأصبحت تعني : العتق/ الصراحة/ الحقوق/ التسامح/ الحرية الفردية/ الكريم والسخي/ مرتاح الضمير. فكل هذه المصاديق الدلالية لمفردة الحرية (liberté) هي التي شكلت عنوانها الاصطلاحي والمفاهيمي النهائي (libéralisme / الليبرالية) أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، وتحول هذا المفهوم الفكري والسياسي إلى منظومة تقوم على أساسها الدول وتنظم على وفقها التعاقدات الوطنية والاجتماعية وبأُطر دستورية، وأصبح هذا المفهوم سائدا في الحياة الثقافية لشعوب هذه الدول و بشكل طبيعي ، وتصاعدت على أساسه فيما بعد كل الحقوق المدنية للأفراد والجماعات، وأصبح حق الاختلاف بالأفكار والمشاريع أيا كان شكلها السياسي والاجتماعي من ميزات هذه الشعوب ، واخذت التعددية القائمة على الحياة الحزبية والحرية الفكرية تكون صمام الامان لإدامة هذه الليبرالية ،ولا بد من اشارة للجانب الاقتصادي فالملكية الفردية واقتصاد السوق الحر وإبعاد هيمنة الدولة على الاقتصاد هي من أهم ركائز الليبرالية ،لكن مع كل هذا ، تم التشديد على حفظ حقوق الطبقات الوسطى والدنية في مجال الخدمات الاجتماعية والصحية والإسكانية ، فلقد فرض المفهوم الليبرالي في هذا الجانب: الدولة والنقابات ليكونا الحاميان والحارسان لهذه الفئات – الوسطى والدنية - من تعسف أصحاب رؤوس الأموال والشركات.

أذن، وبالرجوع إلى مفهوم الحرية في الثقافة العربية كمفهوم فاقد لكل هذه الدلالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الموجودة في ليبرالية الاخرين يثبت أن هناك قصور كبير في هذا الجانب داخل منظومتنا الثقافية لان منظومتنا بقيت راكدة غير متحركة وجامدة بشكل ينبئ بموتها خصوصا في هذا التحول الكوني، وهنا لابد أن لا يساء الفهم بين اللغة بوصفها كلاما وقدرات إنشائية وإخبارية، وبين اللغة بوصفها معبرا عن ثقافة امة ما؛ فالعربية قدراتها الكلامية والإنشائية من منظور علم اللغة، عالية ومتينة وفيها الغزارة الكبيرة، لكن العربية كمعبر ثقافي فهي تعد عاجزة اليوم أن تنتقل بنا بسلاسة وثقة داخل المفاهيم الحديثة : السياسية والاجتماعية والفلسفية، ولا يقع في هذا الجانب اللوم على اللغة إنما اللوم يقع علينا كشعوب وجماعات ناطقة بهذه اللغة؛ فالتطور الدلالي لكل لغة يأتي كصورة ومرآة عاكسة للحياة الثقافية لهذه الأمة أو تلك ولنضالاتها السياسية والاجتماعية، ونحن لهذا اليوم امة جامدة يأكلها الاستغراق في التراث ويهرسها هرسا ولا نعرف إلى أين ستؤول بنا الأمور بكل هذا الاستغراق التراثي! .

فالحرية واشتقاقاتها في اللغات الأوربية ومفهوم الليبرالية الناتج عنها لم تتعدد ولم تتوسع دلالاتها إلا بقدرة هذه الشعوب الناطقة بهذه اللغات وعلى ان تكون شعوب حية تعيش الحاضر وتطوره وتستشرف المستقبل برؤى معرفية متنوعة، وكل هذا قائم على قاعدة: (أحقية التفكير والاختلاف بين الناس كأفراد وجماعات) وهذه (الأحقية) لم تُعط من المؤسسات الفوقية سواء كانت مؤسسات حكومية أو دينية، وإنما هي حقوق انتزعت انتزاعا بسبب النضالات التي خاضتها جماعات الحقوق المدنية انذاك.

اما نحن وثقافتنا العربية بمعطياتها الاجتماعية والسياسية، لم نُثبّت لحد هذه اللحظة احقية الناس في حرية التفكير ونتائجهِ وحرية الاختلاف والاعتقاد، وتحويل هذه الأحقية الى ميثاق تعاقدي اجتماعي ووطني ، وعليه فلن نستطيع ان نقول اننا امة عندها مفهومها الخاص للحرية الذي يضاهي مفاهيم الحرية عند الآخرين، او اننا امة شريكة في انتاج مفهوم الحرية الذي يعيشه العالم بأجمعه اليوم تقريبا، لاننا امة ما زالت مختلفة على نفسها، ومختلفة في اهمية احقاق الحقوق المدنية، ونحن امة ما زال يستغرقها مفهوم (الفرقة الناجية) وتحركها روح التكفير في ما بينها؛ فكيف لنا ان ندعي بأمور هي ليست متوفرة عندنا لحد هذه اللحظة ؟! .

انا لا اريد ان اقطع هنا إننا كإمة لم نعش البتة حقبة حلمت بتحقيق (مفهوم حرية) متقدم ففي التاريخ العربي الإسلامي يمثل المعتزلة فيه شريحة متقدمة سعت في أن تتم مشروعها حول مفهوم الحرية حتى وان أتى هذا المشروع بغير اسم الحرية؛ فمواضيع مثل (القدرة والاختيار والجبر) التي تناولها المعتزلة في علم الكلام كانت قبل ألف ومائة سنة تمثل ثورية فكرية حاولت أن تنتج تراكمها المعرفي الذي يحقق عقدا اجتماعيا متطورا فيما بعد، لكن القطيعة التي أنتجتها السلطة السياسية آنذاك وحليفها الديني استطاعت أن تقضي على المعتزلة ومشروعهم الفكري .

ويبقى حاضرنا ومستقبلنا يلح علينا أن نعيشه بشكل افضل ، وان نحقق فيه قدرتنا في ان نكون شركاء حقيقيين في توجيه هذا العالم، وكل هذا لا يتحقق ما لم تتم تسوية الحقوق المدنية وفق معطيات (مفهوم الحرية) الناجز في مختلف ابعاده الفكرية والسياسية والاقتصادية، لا على مفهوم حرية ملفق وقائم على توسل لغوي، او التغني بامجاد الماضي او التخويف بفقدان الخصوصية التي يدعى الخوف عليها من الاختراق كما يحاول أن يُنظّر لهذا دعاة الماضوية. علينا الاصرار في انتزاع الحقوق المدنية بكل الوسائل السلمية وقتها سيتحرك كل شيء، وسنكون أكثر فاعلية على المستوى العالمي، ولغتنا العربية ستتصاعد وستكون متحركة في دلالاتها ومخترقة وتستحق أن تنافس في بعث مفاهيمها الخاصة، وفوق كل هذا نحن بشر نستحق أن نعيش الخير كما يعيشه الآخرون .

 ...........................

*مقال معدل كان منشورا في 2009

*الشيخ عبد الله عيسى الغديري(القاموس الجامع) للمصطلحات الفقهية

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2032 الخميس 16 / 02 / 2012)


في المثقف اليوم