قضايا وآراء

قراءة تحليلية في نص مسرحية السّلوقي للكاتب إسماعيل عبد الله .. السّلوقي وفلسفة الهيمنة! / احمد الماجد

وقد اشتهرت بتربية كلاب صيد جيدة، والسلوقي من أقوى الحيوانات فكّا وأحدّها نابا، وفى طبعه يحرس صاحبه ويحمى داره في حضوره وغيبته، كذلك هو من أيقظ الحيوانات عينا في وقت حاجته للنوم وأشدها فتكا. ولا يأكل ولا يشرب من وعاء قذر ولا يصطاد إلا في صحبة صاحبه. من ذلك، نتعرف إلى المغزى الذي أراده المؤلف الإماراتي المتميز إسماعيل عبدالله من خلال طرحه شخصية "السّلوقي" في النص الذي حمل نفس الاسم، ومن ثمّ التحول الذي طرأ على الشخصية التي فكرتها في الأساس مستوحاة من رواية "قلب كلب" لميخائيل بولفاتوف، الكاتب الروسي الذي كتبها مطلع عام 1925 وكانت بمثابة حراب في خاصرة السياسة، لذا بقيت في الكتمان أكثر من ستين عاماً. وفي عام 1987 أفرج عنها وظهرت للضوء وطبعت مرات عديدة، فجاءت الرواية قراءة مبكرة لما آل إليه الإتحاد السوفيتي السابق.. كما تم تحويل الرواية إلى السينما بإنتاج روسي ضخم بالأسود والأبيض.

وكعادته في معظم نصوصه التي يكتبها للمسرح بالاشتغال على الخطاب المسرحي الذي تبناه بالانتصار لموضوعة الإنسان وطرح قضاياه وهمومه ومشاكله وتطلعاته وسعيه الحثيث نحو تأكيد قيمة الإنسان والدفاع عن حقه في العيش الكريم باعتبارها الغاية العليا والهدف الأسمى، ينطلق إسماعيل عبدالله بهذا النص من المفردة الشعبية التي يمتاز بغزارتها وكثافتها، وبأسلوبه الحواريّ النثريّ الأقرب إلى الشعر، وتأتي الحكاية لمدينة ساحلية في أواخر الثلاثينات من القرن العشرين، حيث كانت تعتمد في عيشها على ما يجود به البحر، وكان أهل المدينة يستخدمون الكلاب السلوقية لتدخل هي أولا وتسبح، ومن خلالها يتم تحديد حالة البحر وموعد النزول إلى الغوص، وبدون تلك الكلاب تكون رحلة الغوص محفوفة بالمخاطر أو عديمة الفائدة.

ومن خلال حبكة قوية يسعى النص في مرحلة بدايتها بوصفها فعلا متناميا يقوم لاحقه على سابقه، بإثارة الأزمة التي وضعها المؤلف بين الكلب وأهل بيت "عمران" - وهو الشخصية الرئيسية والمحركة للأحداث في هذا العمل – الذي يغازله حبّ السيطرة والتملك حينما يعثر على "الكلب السلوقيّ" في الصحراء، فيقربه منه ويجعله كظلّه لا يفارقه حيث حلّ وارتحل، فشرع المؤلف بتقديم بعض الشخصيات المسرحية والتعريف بها، وتحديد الزمان والمكان مع إثارة بعض التوقعات لدى المتلقي بهدف خلق حالة من التوتر الدرامي لإيجاد حالة من التشويق والتطلع والانتظار للحوادث المقبلة، في تكوين المشهد الاستهلالي الذي دائما ما يوضع في خدمة الموضوع (الفعل) لإلقاء الضوء على مستقبل النص في عملية حبك نسيجه العام وتعد هذه الوحدة التكوينية في بنية الفعل هي العامل المحدد لقدرات المؤلف المسرحي وبيان إمكاناته الدرامية.

ولأن "السلوقي" هو كلب صاحبه إنجليزي، ولبحث "جون" عن كلبه على الدوام، وللعداوة القديمة الموجودة بين طارش بن طارش وعمران بن سيف، ينتشر أمر وجود الكلب في بيت "عمران" بعد أن علا نباحه وسمعه أهل الحيّ، لتتفجر نقطة انطلاق الحدث (لحظة الدفع)، لتأخذ خط سيرها المتصاعد، وهي على الدوام لا تأتي عقب شيء يتحتم تقديمه، ولكن يتحتم أن يعقبها شيء آخر، فما كان من "عمران" إلا السير قدما في البحث عن أداة لا تمكن أعداءه من الوصول إليه، فيطلب من تابعه "بوعكلوه" أن يجد له حلاّ يمنع أيدي أعدائه عن الكلب، فيقترح له "بوعكلوه" الحقنة المعجزة التي جعلت الكلب فيما بعد أداة للقتل وسلاح تدمير شامل حققت لعمران ما يريده من السلطة، وفي نقلة زمنية باستخدام مشهد حواري مقتضب بين "سعيدة" و"عفرا" يختزل علينا المؤلف نماء شخصية الكلب وتحوله خلال زمن العرض المسرحي، أضفت قيمة جمالية على النص، وزادت من تماسكه وترابطه، من خلال تعامل زمني محبوك بين المشهدين، نظّم ووحّد الصورة المسرحية..

"عفرا: الثاني عشر من شوال.. اتحسّنت حالته عقب صلاة الظهر.. داوينا جرحه.. وسقيناه تبّين ماي.. عقبها قام يناقز وانفتحت شهيته للأكل

سعيدة: الخامس والعشرين من شوّال بدا ايطيح الشعر عن الجبين وباقي الجسم

عفرا: الرابع من ذي القعدة اقصرت اذنيه وطاح الشعر عنها

سعيدة: العاشر من ذي القعدة طاح ذيله

عفرا: الخامس عشر من ذي القعدة صار شكله غريب وعجيب.. الفرو والصوف موجودين بس على راس ولحيته......................... "

لتبدأ بعدها مرحلة الوسط من خلال الحدث المتصاعد حينما يتفرعن "طارش الكلب" على كل من في البيت من خلال الأزمة التي خلقها المؤلف في ظل عقد النقص التي يعاني منها "طارش السلوقي" وحبّه لابنة "عمران" هذا الحب الذي منشؤه بحث "طارش السلوقي" الدائم عن مقومات إنسانيته كما يظنّ، حيث يبرهن الكاتب هنا على رسالته التي أرادها من هذا النص، من خلال إثارة التوتر والتوقع لدى المتلقي بواسطة التعقيد الذي وضعه المؤلف في ربط الأحداث ببعض وتشابك الخطوط الدرامية من حيث بحث الضابط الانكليزي عن كلبه في نفس الوقت الذي يبحث فيه "طارش بن طارش" عن الكلب وفي ذات الوقت الذي بدأ الكلب يمارس الضغوط على "عمران" لعلمه بحاجته إليه، وكذلك المشاكل التي تعصف بالعلاقة بين "عفرا" و"سعيدة" من جهة و"عمران" و"عفرا" من جهة أخرى.. لينتقل بعد ذلك المؤلف إلى مرحلة الذروة حيث تكون جميع خطوط العمل في أوضح صورها، وتتصادم فيها الإرادات وتكشف عن نواياها، مما تحضر لتغير دراماتيكي في مصائر الشخصيات الفاعلة في الحدث، لتأتي النهاية حينما يعيد "عمران" طارشه إلى سلوقيته التي جاء منها، في نقطة مفصلية توجت تنامي الفعل الدرامي وكشفت عن القيمة الفكرية والدرامية لهذا النص، ليأتي بعدها الحل، حينما يخطط "عمران" للبحث عن أداة جديدة للهيمنة، في نهاية كلاسيكية اعتمدها معظم كتاب الدراما للتعبير عن موقفهم ووجهة نظرهم الفكرية والدرامية والجمالية إزاء القضية المعالجة درامياً ومحاولة إصدار حكم فاضل بين الأطراف المتصارعة داخل العمل الدرامي.

إنّ أنسنة السلوقيّ وفق المناخات التي ارتآها المؤلف بغية إسقاطها على الواقع المعاش جاءت في وئام مع الفكرة العامّة للنص، والتي مفادها:"بالسلطة وحدها يحيا الإنسان". كما أن اعتماد النص في بنيته على غرائبية موضوعة الكلب هو إحلال رمزيّ، استحضر من خلالها المؤلف مدلولات اجتماعية كثيرة، والنظرة الدونية التي يعاني منها المقهورين في زمن افتراضي ومتخيّل.. فعلى لسان "السلوقي طارش" يجري هذا الحوار بعد أن تحول إلى إنسان وتنصّل من كلابيته الدونية:

"طارش: من أيام ما كنت أهيم في السكيك وأصارع ليالي البرد وأنا ميّت من الجوع.. وفي ليلة شمّيت ريحة لحم من بعيد انثر يوع ثلاث ليالي ما طاح الزاد في بطني.. تبعت الريحة لين وصلتني لجدور الطبخ مال عرس ولد طارش بن طارش.. وواقف على راس الجدور سعّود الطمع.. أول ما شافني اتقول شايف جنّي صرخ شو يايب هالجلب الجربان اهني؟ وتم ايفرني بحصى وانا من التعب واليوع نسمة الهوى تعقني واتكسّرني.. شردت عنه.. لكن اليوع كافر.. ردّيت مرّة ثانية.. يوم شافني ما طوّلها وياي.. اتناول طاسة فيها سمن يغلي ورشني باللي فيها وشواني.. تمّيت أعوي وأصارخ لكن عمّك أصمخ محّد التفت عليّ ولا سوّالي سالفة ولا حتى قال مسكين حرام.. وصّلتني ريولي لين بيت العروس وهناك الجدور بعد طايحة.. وعلى راس الجدور واقفة خدّوي حرمة سعّود.. وسوّت فيني اللي سوّاه ريلها.. وما كفاها قامت اتغايظني وتطعم قطوتها اللحم.. شفتوا المنكر؟! من وين قوم بو السّهج ياكلون لحم ؟! وما كفاها خدّوي.. ازقرت لي طارش بن طارش وياني ورقد عليّ ابعصاه لين بلّح لحمي.. عقب كل هذا تباني اسكت عنهم.. يومها ما كان فيني حيل آخذ حقي.. لكن اليوم راويتهم صنع الله واتقاضيت. "

ويُظهر المؤلف نوع وعمق العلاقة الدرامية التي تربط بين "عمران" وبين كلبه "طارش"، من خلال تداعيات على لسان "عمران" تظهر شبقه العظيم للحصول على مفاتيح الهيمنة..

"عمران: أول ما جت عيوني بعيونه وهو طايح في الخلا يرتعد من البرد والجوع.. برقت عينه وضحكت وقريت فيهم كلام وايد.. كانه ايقول لي.. ياااااااه أخيراً لقيتك.. انت صاحبي اللي حفت ريولي وأنا أدوّر عليه من زمان.. لبّيك يا صاحبي.. أنا لعداك درع وسهم.. مسحت على راسه.. اتلحّف ابكندورتي ولحس ايديه ونعالي وخرّت دمعته.. جبته ويايه البيت لحس اتراب الحوش كله نخله ونظفه.. من يومها ظلّلت عليه برموشي.. وحفظته عن نسمة الهوا اتدق شعره من راسه.. داريته وداراني.. راعيته وراعاني.. وماخذلي استوى ظلّي اذا في البيت مشيت.. وعيوني المفتّحة اذا سهيت وغفيت.. في حياتي ما طلعت من بيتي انعالي يلق.. وكندورتي تبرق الا من جاني.. من كثر ما يلحسهم بلسانه.. هذا للأيام عكّاز ورفيج.. وللأعداء سم وحريج"

إن حالة "السلوقي" تبرز الجوانب الخفية في النفس البشرية، الطمع، الجشع، الحقد، الحسد، الخيانة، الانتقام، التملك... والتي هي في صراع قويّ مع المعادن الأصيلة التي تظهر في الشدائد، فالأمراض النفسية التي تربّت في البشريّة لا تنمو إلا في بيئة لغتها السيطرة والتجبّر وحواراتها مغمّسة بالأنا المفرطة. فبحث "عمران" الدائم على سبل الهيمنة التي تمكنه من أعدائه، وصراعه من أجل تحقيقها، هي حالة تتقاسمها جميع شخصيات المسرحية، حتى ولو كانت غير ظاهرة أو معلنة أو أنها متقنّعة بضامر الحجج، والصراع هنا ليس صراعاً بين قوي وضعيف، ولكن هو صراع منشؤه الموقف الدرامي نفسه والذي يتبنّى المفارقة..

"فطارش" يريد أن يسيطر على عمران والمدينة بإبعاد الكلب الخارق عن "عمران"، و"بوعكلوه" يريد أن يدرأ شر عمران من خلال الإبر، و"عفرا" تحاول السيطرة على أبيها من خلال "طارش السلوقي"، حتى حالة الحب التي نشأت بين عفرا وبين الكلب هي نوع من أنواع التمرد على سلطة الأب الجبار، كسر شوكته إلى حد ما كما في الحوار التالي:

"عفرا: يا ليتني أعرف وين أرضه ووين سماه.. جان ما جلست دقيقة وحدة

سعيدة: نويتي إتلبّسين ابوج شيلة وعباه على آخر عمره؟! وأمّج المسكينة ما فكّرتي فيها؟! شو ذنبها تحرقين قلبها.. وتضيعين رباها.. وتلبسينها العار طول عمرها؟! وهي اللي ما طلعت من هالدنيا غير فيج انتي

عفرا: هذا قلبي يا سعيدة.. وهم عزّموا يكسرونه"

و"سعيدة" بأسرارها التي تحتفظ بها تحاول هي أيضا اللعب على وتر السيطرة والهيمنة، و"طارش السلوقي"، بالزواج من عفرا من أجل السيطرة على عقدة النقص التي نشأت معه، والتي تظهر واضحة في الحوار التالي: حتى الضابط الانكليزي "جون" نحى نحو الحفاظ على هيمنته من خلال التخلص من أسباب ضعفها. وهذا أيضاً ما حدا "بعمران" بالبحث عن أداة أخرى للهيمنة بعد تآكل السيف "طارش السلوقي" الذي كان بيده، ليعيده مرة أخرى إلى كلابيّته التي جاء منها.

لقد استعان النص في موضوعته المثيرة للتساؤلات بالتراث وغِنى مصطلحاته وعمق شخصياته وثرائها، ومن ثمّ براعة المؤلف في رسم كل شخصية بصفاتها الداخلية والخارجية و بنائها بمقوماتها الدرامية المعروفة وتحولاتها وتطوراتها المعرفيّة خلال زمن النص.. فالموقف الذي خلقه المؤلف تطور عن طريق أفكار متتالية ومتعارضة، ونمى عن طريق التناقض ضاخّا على الدوام أسباب تزيد من حدة هذا التناقض باتجاه واحد موحد نحو صراع درامي قوي ومؤثر. فشخصيات مسرحية "السلوقي" لم يرسمها المؤلف على أساس علاقتها بالحياة بل على أساس علاقتها ببعضها البعض، ولذلك جاءت الأفعال التي صدرت عنها في مُركّب جديد لم يكن موجودا من قبل.

كما تميز نص "السلوقي" بقدرة المؤلف على إدارة الحوار بين الشخصيات، فهو – أي اسماعيل عبدالله – يتجاوز حدود إدراك المؤلف كونه ممثلا ومخرجا في الماضي، لذا فهو ينظر إلى الحوار المسرحي من زواياه المتعددة، فجاء الحوار بعد أن خضع إلى الغربلة والتدقيق والتمحيص، مركزا ومكثفا ومعبّرا لا استطراد فيه ولا غموض، كما تميزت العبارة المسرحية بانسجامها مع الموقف المسرحي فحققت الوظيفة الأهم للمسرح وهي الاتصال، وكذلك، التزم المؤلف بواقعية الحوار المسرحي، من خلال حدود الشخصية المرسومة فلا تنطقها إلا بما يتلاءم معها سواء أوتيت أو لم تؤت القدرة على الإيضاح عن ذاتها حيث إن الواقعية في الحوار المسرحي ليست في نقل الواقع، وإنما بتصوير الشخصيات وإدراكها لمواقعها الحقيقية.. لاحظ الحوار التالي بين عمران وابنته عفرا:

"عمران: هالجلب عديل الروح.. واللي ايدوس له على طرف كأنه أخذ مني أعز ما املك.. وما يشفي غليلي فيه غير راسه

عفرا: حتى لو هالجلب داس لأهل بيتك على طرف يا بويه؟

عمران: "يظلّ مركزاً ناظريه على سعيدة ولا يلتفت لعفرا" جلبٍ لحس ايدي عمره ما بيعظها.. هذا جلب نواخذا يميّز بين أهل البيت وعبيده.. حاجتي لهالجلب ما تعادلها كنوز الدنيا وانت اتجرّأتي ومدّيتي ايدج عليه.. وأنا نويت أقصها.

عفرا: أنا يا بويه

** يلتفت إليها عمران متفاجئاً

عفرا: أنا اللي حرقته من غيظي يا بويه

عمران: عظامج بعدها طرية.. وما بتقوى توقف ايدار في ويه الحد اللي يبغي ايقيمه ابوج"

ويعاني عدد من المؤلفين من مشكلة مقلقة في تصوير الشخصيات بالحوار، وهي أن الإنسان في العادة لا يكشف عن نفسه بالكلام، بل يخفي عواطفه ونواياه الشريرةَ والخيِّرة. فلا أحد يقول عن نفسه إنه جبان. وإذا قال إنه شجاع اتهمناه بالادعاء والتفاخر، والذي ينوي سرقةَ مصرف أو قتلَ شخص لا يعلن ذلك، والمتفِقُ مع حبيبته على الهرب لا يفشي سره لأحد. ومع ذلك فإن الكاتب يستطيع أن يجعل شخصياته تُفصِح عن نفسها بشكل طبيعي، وهنا تتجلى مهارة إسماعيل عبدالله وطول باعه حينما وضع الشخصية في موقف المضطر للاعتراف والبوح، وأحيانا في حالة انفعالية حادة سمحت لها بالإفضاء عن سريرتها، مما يسمى بالحتمية الدرامية والتي تضطر معها الشخصية لاتخاذ قرار وحيد لا مفرّ لها منه، ولنلاحظ المشهد التالي بين "سعيدة" والكلب "طارش":

"طارش: "يرفع راسه" وانتي عبده وخادمة.. وديّة الجلب أغلى عنج

** كمن أصابها بحجر.. فتتوقف في مكانها ولكن بعيدا عنه

سعيدة: شو قلت؟

طارش: عرّيتج جدّام نفسج.. فصّختج برقع الجذب اللي امبرقعه فيه ويهج.. عشان يستر جبهتج اللي ممهورة بالصك اللي اشتروج فيه.. تتحرّين لسانج الزفر اللي محّد سالم منّه بينسّي الناس انتي منو؟! انا قلت كلام الصدق اللي صامّه اذنيج عنّه كل هالسنين "يصرخ بقوة" عبدة وخادمة ومالج ديّة عندهم

سعيدة: "تصرخ تجاريه في صراخه" أنا راضعة بنتهم ياالخسيس

** وتضع يدها على فمها بسرعة البرق كمن أفشت سرّاً لا ينبغي أن يشاع

** تشيح بعيداً بوجهها تحاول أن تحبس دمعتها

** تسود فترة صمت

طارش: شفتي كيف؟! حتى الحليب اللي يحيي الأرواح ويسري في عروق بنتهم.. خايفة منه ومتبريه منه.. لانج تعرفين زين هم شايفينه حليب نجس.. وانتي شايفة رضاعتج تهمة وعار.. "

كما أن تناول المؤلف معادلة الصراع على الهيمنة في فضاءات متقاطعة ألقت بمدلولاتها على حالة الانقضاض "السلوقية" المتأصلة بشكل أو بآخر في النفوس وأثرها على مصير الأفراد والجماعات، كما أن المؤلف نجح في مخاطبة الإدراك الدرامي للمتلقي بقدر ما نجح في مخاطبة نوع من خياله الوجداني، وهو برأيي الأكثر قدرة والأدقّ شاعرية.

ومن خلال عدد من المونولوجات – وهو العنصر الذي يتيح للشخصية المسرحية ان تفصح عن دخيلة نفسها،لتكشف عن مشاعرها الباطنية وأفكارها وعواطفها وكأنها تفكر بصوت مسموع -جاءت على لسان بعض الشخصيات في النص، على الرغم من طولها في بعض الأماكن إلا أنها كشفت عن الشعوري واللاشعوري للشخصيات، والتداعي الحر للهواجس والأحاسيس والرغبات المكبوتة لديها؟، والتي تؤكد على الدوام مبدأ التغير ونمو الشخصيات في النص المسرحي.

ولأن المسرحية منذ نشأتها على يد الإغريق كان هاجسها الأساسي ذلك الشعور الديني والوجداني في عبادة الإله ديونيسوس، نتبين أن المسرح في أصوله كان باباً من الشعر، وبقي كذلك بشكل واضح في عصر ازدهاره في إنجلترا وكذلك في فرنسا. ويرى الناقد الإنجليزي "هازلت" أن الشعر المستمد من الشعور الصادق يصور الوجود في جوانبه المتعددة ومفاتنه الساحرة ويحلل القضايا والمشكلات ويعالج النفوس والأرواح ويجسد الآلام والمآسي في لأنماط من الألفاظ الأنيقة والمعاني الجميلة وكل ذلك في أمانة من الأداء وصدق في التعبير وتحليق في آفاق رحبة من الشعور المطمئن وأبعاد مستطيلة في أجواء الإلهام الفسيحة. لقد قام اسماعيل عبدالله من خلال كتابة الشعر المسرحي الذي جاء على ألسنة الشخصيات وتوظيفه بدقة في هذا النص، نحو خلق حالة "التفسيرية الشعرية" التي أضفت على النص قيمة عاطفية وكذلك قيمة تأويلية تفسيرية.

"سعيدة:ما تنزرع شمس المقــــــــــــــاصد

في الارض لي هي ساسها بور

بيدك اتصب عينك يا جــــــــــاحد

احذر تراها الدنيا اتـــــــــــــــــــــــدور

تزرع لجلب السكّـــــــــــــــــــــــة والد

تطغى وعلى النّاموس بتجــــــــور

درب الطغاة يجلب مفــــــــــــــــاسد

دنيانا آخرها ترى قبـــــــــــــــــــــــور"

لقد قارب هذا النص من تحقيق جميع المهام الملقاة على عاتقه دفعة واحدة لأجل أن يرتقي إلى مرتبة الأدب أولاً، ويوحي بالواقع ثانياً، كما أنه انسلّ إلى قلب وعقل المتلقي بصفاء وسلاسة وردم الهوة المخيفة بين لغة الحياة اليومية التي يتعامل معها المتلقي في حياته العادية، وبين لغة المسرح التي يجب أن توحي بلغة الحياة اليومية. وتلك - برأيي - هي المرتبة الرفيعة التي تمكن النص من تحقيقها.

وربما جمع المؤلف كلّ ما أراد أن يقوله في حوار شعريّ جاء على لسان شخصية "بو عكلوه" ببراعة استهلال وتحفيز وتحضير للقادم من الأحداث جاءت مجتمعة في خدمة الموضوع "الفعل" في الوقت الذي يكون المؤلف قد وقع على عاتقه استخدام براعته في التعريف المنقوص، الغير كامل، الذي يجب أن يبقى خافيا ويتدرج معرفيا مع زمن النص، متأرجحا بين الواضح والغامض في نقطة انطلاق النص المسرحي ومرحلة اللاعودة في عملية البناء الدرامي..

"بو عكلوه: قالوا زمان فيه العجب الجلب أثمن ما الذّهب

مجدول من حب ولهب طبعه الوفــــــــا جدٍ وأب

عينك إذا غفيت، وسندك إذا سهيت.. وسراجك إذا سريت.. وعصاك إذا نخّيت.. وصوتك إذا بحّيت.. وسلاحك إذا باريت.. للّي يحبّونك أمان ولعداك هو جمرة غضب.. وأنا أقول..ما في الجلاب جلبٍ طاهر.."

حصل نص "السلوقي" على جائزة التأليف المسرحي 2010م التي تنظمها دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة سنوياً، كما فاز بجائزة أفضل تأليف في مهرجان المسرح الخليجي 2010م.

 

احمد الماجد

العراق

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2043 الأثنين 27 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم