قضايا وآراء

الشعراء العرب بين الإنسان والطبيعة (1) / كريم مرزة الاسدي

وعوالج ما يخزنه في الوعي واللاوعي من آلام وأمال، وأفراح وأتراح بكل صدق وأمانة، ويسكبها بعفوية تامة، لا يبالي طشت أم رشت !، فلا يمكنه أن يقول إلا ما تختلجه نفسه، لذلك نرى العقاد والمازني قد أخرجا أحمد شوقي من جمهوريتهما الشاعرة، لأنه يحمل الوجه الثاني للإنسان، وهو الموضوعي النزعة، وليس بذاتي النغمة، بل عدّ العقاد في إحدى مقابلاته الإذاعية الصافي أفضل شاعر ولدته الأمة، ولا أعرف هل الأمر نكاية بشوقي أم مناصرة للصافي ؟ والصافي صافي السريرة، صريح العبارة، صادق اللهجة، يشعر على سجيته، بلا تصنع، ولا تملق، وهو أعرف بنفسه، وأكثر تفهماً لها، إقرأ ما يقول :

سموتُ بشعري فوق جيلي ولم يزلْ    يشكُّ بشعري معشر البلهاءِ

فإن لم أكن في أمّة الشـــعر واحداً     آكنْ أمّة أعلى من الشعراء

وفي الوقت الي كان فيه الدكتور طه حسين من أنصار الموضوعيين، قيقف إلى جنب أحمد شوقي،وأبي العلاء المعري، ويصف الأخير بأنه " شاعر في فلسفته، وفيلسوف في شعره، قد جمّل الفلسفة بما أسبغ عليها من الفن،، ومنح الشعر وقاراً ورزانة، بما أشاع فيه من الفلسفة ..."، ويثني على إثرته الجماعة دون الأهتمام بالنزعة الأنانية الضيقة، ويستشهد بقوله في البيت الآتي،ويمتدحه :

فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي    سحائب ليس تنتظم البلادا

 وهو من قصيدته الشهيرة ( الشرف الرفيع) :

أرى العنقاء َتكبرً أن تصادا    فعاندْ منْ تطيق له عنادا

وما نهنت عن طلبٍ ولكنْ    هي الأيامُ لا تعطي قيادا

إذا ما النارُلم تُطعمْ ضراماً    فأوشكَ أنْ تمرَّ بها رمادا

في حين نرى الدكتور الناقد الكبير (زكي مبارك)، وهو مساند لوجهة نظر العقاد والمازني، يرمي أبا العلاء بالنفاق، ويستغل عبقريته لإيهام عامة الناس، والتلاعب في مشاعرهم، بل جعله مصاباَ بعلتين في (لزومياته): البديعيات و الإعراب، يذهب بعيداً في ذمّه قائلاً " لو كنت استبيح لحم المعري، كما استباح لحوم الناس لقلت إن ثورته على المجتمع كانت ضرباً من الأنتقام الأثيم " !!ثم يستدرك الدكتور، أن أبا العلاء أصبح في ذمّة التاريخ، ولا يتأذى من نقده له، ولكنه يرفع من شأن الأمير أبي فراس الحمداني لجرأته وصراحته، وصدق قوله، لأنانية النفس البشرية، وحبّها لذاتها، وعشقها للحياة غريزياً،، فالشاعر الشاعر من يعبر عما يختلج في نفسه صدقاً، والشعر من الشعور مستشهداً بقوله :

معلـِّلتي بالوصل والموت ُدونهُ   إذا متُّ عطشاناً فلا نزل القطرُ

والبيت من قصيدته الرائع، وهي من درر ديوانه :

أراك عصيّ الدمع ِ شيمتكَ الصبرُ     أما للهوى نهيٌ عليكَ ولا أمرُ ؟

بلى أنا مشتــــــاق ٌ وعندي لوعة     ولكنَ مثلي لا يُذاعُ له  سرٌّ

إذاالليلُ أضواني بسطتُ يدَالهوى     وأذللتُ دمعاً من خلائقه الكِبرُ

 ٌ طبعاً الدكتور طه لا يرضى بهذا التحليل المفرط في الأنانية، فالبقاء للنوع لا للفرد، أنا سردت الأمور كما علقت في ذهني، ما عدا الأقوال المحصورة بين الأقواس، وإنني ولو... لا أذهب مع كل ما كتبه الدكتوران، إ المعري لم يكن فيلسوفاً بالمعنى المعاصر للفلسفة، إذ لم يتخذ خطاً واضح المعالم لفلسفته، وإنما له أراء فلسفية، وبهذا لا نستطيع أن نطابقه مع الفيلسوف الألماني (شوبنهور)، بالرغم من تشابه بعض الآراء بينهما، ولا أساير د. المبارك فيما ذهب إليه بعيدا حتى لو كان المعري أراد أن يتماهى بنفسه، ويبين مقدرته،وآتساع عبقريته، فهذا حق ٌّ مشروع له وللدكتور مبارك نفسه، ولغيرهما، وأنا أستطيع أن أتهم (المبارك) بأنه يريد أن يأكل لحم (المعري) لإبراز نبوغه وألمعيته النقدية، نعم العبقرية أنانية، كالشجرة الشامخة التي تستحوذ على ماء وأملاح التربة، ولولا ما ذهب إليه المعري لما بقى خالدا إلى يومنا !! وأنا أميل إلى رأي العقاد والمازني ومبارك من حيث تأثير الشعر على النفوس، وصدق الأحاسيس والمشاعر، ومن حيث كونه فنـاً أصيلاً يغرف من بحر، ولا ينحت بالصخر، ولكن له وظيفة اجتماعية تتعدى المشاعر الذاتية الخاصة، فمثلا قصيدة شوقي (نكبة دمشق) الرائعة التي أقاها في حيقة الأزبكية (1926)، إذيقول :

سلامٌ من صبا بردى أرق ُ     ودمعٌ لا يكفكفُ يا  دمشق ُ

وبي مما رمتكِ بهِ الليالي     جراحاتٌ لها في القلب عمقُ

كما ترى - يا صحبي - الشعر مجرد مجاملان اجتماعية، تخفف الآم والشجون عن الدمشقيين، أنا في شكٍ كبير في هذا (الدمع الذي لا يكفك) من شوقي ربيب الأمراء، ثم انظر (وبي مما رمتك ...وجراحات القلوب)، هذا مجرد كلام ليس له مصداقية (النار ما تؤذي إلأ رجل واطيها)،ربما تندهش !! لا بأس أن أسير في تحليلي، فاعتباراً من هذين الوجهين ينطلق الشعراء بفنونهم الشعرية الإنسانية،الفخر والمديح والهجاء والنسيب، والوصف لما يتركه الإنسان من أثار وأطلال وطعام، ومباهج الأعياد، ومآتم الأحزان والسخربة والوجدان ...ألخ، لأن الإنسان بغريزته شغوف بالأنسان الآخر،وآثاره، آلا ترى الإنسان يتزاحم على الأثار والمتاحف،ويترحل لمشاعدة ما صنع الإنسنان الآخر، متأملاً معالم مدنه، متذوقاً مطابخ مطاعمه !!

تأمل كيف يربط الشاعر الجاهلي بين الإنسان وأثاره، ولو كان أطلالاً دارسة :

قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل ِ    بسقطِ اللوى بينَ الدخول ِ فحومل ِ

وإنّ شفـــائي عبرة ٌ مهراقـــــة     فهلْ عندَ رسمٍ دارس ٍ منْ معول

 ليس الحجارات الخاوية، ولا الأبواب البالية، هي الهدف والغاية، وإنما الإنسان،، وما زيارة المقابر إلا ذكرى القريب للقريب، والحبيب للحبيب، وتأمل تاريخ أشخاص، مرّوا بعمر طويل في لحظات للفطن الأريب !! وقد سبق لي في مقال أن أشرت إلى :

وما حبُّّ الديار ِ شغفن قلبي   ولكن حبَّ من سكن الديارا

ولكن ساعرج معك - إن رضيت -على أروع قصيدة عربية لوصف ما تركه الإنسان للأجيال، وربما القصيدة،وهي أيضاًلإنسان عبقري، توازي الأثر نفسه لروعتها،وأعني سينية البحتري في وصف إبوان كسرى، فبعد مقتل المتوكل سنة (247هـ) مع وزيره الفتح بن خاقان، وفلت الشاعر من الموت، إذ كان معهما في القصر (الجعفري) بسامراء، بعد أن طعن في ظهره، ذهب إلى بغداد منكسرا حزيناً، ومرّ على المدائن حيث إيوان كسرى - وهذا من حسن حظ تاريخ الأدب العربي - سأنقل إليك بعض وصف الإيوان،وهو من صنع الإنسان :

لو تراهُ علمت أنّ الليالي     جعات فيه مأتما بعدَ عُرس ِ

وإذا ما رأيتُ صورة َ إنطاكيـّـــة ارتعت َ بين روم ً وفرسِ ِ

وعراكُ الرجال ِ بينَ يديهِ في خفوتٍ منهم وإغماض جرس ِ

تصفُ العينُ أنـهمْ جدُ أحياء     لهمْ بينهمْ إشارة خرس ِ

يغتلي فيهمُ ارتيابـــي حتـى     تتقــراهمُ يداي بلمس ِ

القصيدة غاية الجودة، ذات جرس موسيقي هائل الروعة، ولكن إفخاره بنتفسه في سابق الأبيات، لا أرى له فيه حقـاً، لقد انتهز كلّ الفرص، وتقلب مراراً لأجل ملذاته، نعم انتكس أيّة إنتكاسة بعد موت المتوكل، ولكنه لم يتماسك كما يدّعي، فسرعان ما هرع للمنتصر، وهجا متوكله ....ما علينا فهو يصف الصورة التي على الجدار، ويتأمل في البيت الأول كيف انقلبت أفراح الأعراس إلى مآتم الأحزان، ولا يخفى الطباق، ثم يعرج على المعارك بين الفرس والروم التي حدثت في إنطاكية، ويصفها وصفاً دقيقاٍ، ثم يخبرنا تقريريا في الأبيت التالية بوصف رائع جميل غ\غن قوة القائد وسطوته، كأنما شهد المعركة حقيقة، قيلجأ إلى المجاز المرسل (تصف العين) لعلاقته الجزئية، ولو لإنسان ما اهتم الإنسان، هذه هي مشيئة البشر وسنته، ولن تجد لسنة الله تبديلا

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2045 الاربعاء 29 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم