قضايا وآراء

هل ماتت قصيدة التفعيلة؟ / ذياب شاهين

وكأنه رائد لقصيدة النثر أو أحد روادها، أنا استغرب حقا أن يُحتفى بقصيدة النثر فقط ولا يُحتفى بقصيدة التفعيلة ولا يقام مهرجان لها وكأنها بنت مصابة بالجرب، وهنا نتساءل:- ما علاقة الشعراء الرواد  ومنهم السياب بقصيدة النثر؟ وخصوصا أن نازك الملائكة قد حذرت من كتابة النثر بوصفه شعرا في كتابها الخالد (قضايا الشعر المعاصر)، وحذرت أيضا من محاولة لصقه بالشعر، وهي كانت ترى ذلك  بعين ثاقبة وخبيرة بوادر ذلك العفن النثري وهو يتسرب للشعر ومحاولة تقويضه بفؤوس لبنانية ذات مرجعية فرنسية فجة، وبالرغم من قناعتنا من متانة الشعر العربي ممثلا بموسيقاه وعروضه مضافا إلى ذلك أننا لن نعدم وجود مبدعين عرب سيقومون بتطوير الكتابة العروضية كي تتماشى مع العصر.

عندما ظهرت قصيدة التفعيلة (الشعر الحر) في العام1947 سواء من خلال (كوليرا) نازك أو من خلال قصيدة (هل كان حبا) للسياب انتقلت المركزية الشعرية العربية للعراق وهذا رأي قرأته لسلمى الخضراء الجيوسي إذا لم تخني الذاكرة، وأصبحت بغداد والبصرة حاضنتين مهمتين لهذا التطوير العروضي البارع بالرغم من اعتقاد البعض أنه قد حدث مثله في أماكن أخرى خارج العراق من قبل الشاعر (علي أحمد باكثير) أو (جبرا ابراهيم جبرا) أو غيرهم، ولكن مع ذلك يبقى رواده المهمون  (نازك والسياب وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي) هم من العراق وهم من أساطين هذا التطوير وهم من لفتوا إليه الأنظار بوصفه طريقة حديثة في كتابة الشعر تحت يافطة العروض العربي وكسر القصيدة الكلاسية الممثلة بالشعر العمودي، وقدموا نصوصا شعرية خالدة جلبت لهم الريادة والمجد.

الريادة العراقية لم تكن ذات مرجعية عربية خالصة ولا يمكن تغافل معرفة السياب واطلاعه على الشعر الانكليزي وما حدث فيه من تطوير على مستوى العروض الانكليزي، ولكن يبقى السياب من المهتمين بالتطوير والتجريب وكان معجبا بالشاعر "أبو تمام" الذي تحفظ له كتب الشعر الكثير من التجديدات البلاغية واللغوية المهمة التي كانت تعي بعض الناس ولم يستطيعوا فهمها في حينه مما جعله يقول مقولته المعروفة(لم لا تفهمون ما أقول).

الشعراء العراقيون الرواد كان مصيرهم بائسا وللأسف الشديد، فقد توفاهم الله خارج العراق جميعهم، وإذا كان السياب محظوظا حين ووري جسده ثرى العراق فالشعراء الثلاثة الباقون(نازك،البياتي، الحيدري) قد دفنوا خارج العراق وكأن لعنة قد حلت بهم حينما جاءوا بشعر التفعيلة، وكذلك لا يمكن التغاضي عما تعرضت له نازك من تهميش واقصاء خلال حياتها من الشعراء والمؤسات الثقافية وخصوصا العربية حينما حذرت من النثر وضرورة عدم تسربه للشعر ، أو بكلام آخر تحذيرها من كتابة شعر بدون عروض عربي لأن فك الارتباط بينهما سيعني القضاء على الشعر، وقد اتهمها بعضهم بالارتداد على التطوير، ولكن من خلال ما نراه اليوم يبدو أنها كانت محقة في ذلك، وانظروا إلى المشهد الشعري العربي الآن وستجدون أن كل فنون القول تجد احتفاء غير عادي ما عدا الشعر وخصوصا شعر التفعيلة ونحن نتساءل:- أيحدث هذا صدفة؟ أم أن ما يحدث كان مخططا له لأن التجديد كان عراقيا بامتياز؟، وهنا لا بد من النظر إلى نازك نظرة تبجيل واحترام إذ كيف تنبأت الملائكة بذلك قبل خمسين عاما أو أكثر.

وبعيدا عن نظرية المؤامرة التي قد نتهم بها نتيجة قولنا أعلاه سنفترض حسن النية ممن دعوا لكتابة الشعر نثرا وجعلوا من (رامبو وبودلير) أئمة ومرجعية لهم بدلا من (قس بن ساعدة أوالنفري أوحتى جبران) وكأننا لا نعرف النثر وفنونه، ولكن السؤال هو:- أيعي هؤلاء حجم ما أدوه من إساءة لركني الشعرية العربية من شعر ونثر من خلال خلطهما معا؟، ولكني مع ذلك سمعت مؤخرا أن أنسي الحاج وهو من رواد قصيدة النثر ومنظريها المرموقين كان قد اعترف بشيء من هذه القبيل أو أنه حذر مقلديه من الغلو، ولكن إذا كان ذلك صحيحا فبعد ماذا يأتي هكذا اعتراف بالرغم من تقديرنا واحترامنا له؟ هل بعد خراب البصرة، أوبعد تخريب الذائقة الشعرية العربية من المحيط إلى الخليج من خلال عدم التفريق بين الشعر والنثر، وهل بعد خلط الحابل بالنابل سينفع اعتذار ولو بعد حين، وهل سيقتنع المئات وربما الآلاف من النثار العرب (لست متأكدا  من عددهم) بأنهم يكتبون نثرا وليس شعرا وأن عليهم أن يكفوا من مغالاتهم، وخصوصا بعد تحولهم من الهامش إلى المركز وهم يمارسون الآن سلطات واسعة(من مناصب ومنابر) في الساحة الثقافية ولا أحد يستطيع ردعهم أواتقاء  تمركزهم،  وبالطبع أنا لست ضد قصيدة النثر لأني أحبها وأكتبها ولكني أكتبها بوصفها نثرا وليست شعرا، ولكن ألا تروا معي اليوم أن الذائقة بدأت تنحرف وتنشطر ما بينها وبين الشعر الشعبي نتيجة الحشد الإعلامي المركز عليهما، حتى ليبدو للمراقب أنه لم يتبق شيء للشعر بنوعيه العمودي أو شعر التفعيلة، ولكن الخسارة الفادحة (وهو ما يهمنا) هي خسارتنا الفادحة بقصيدة التفعيلة التي تبدو وكأنها تحتضر وسنشيعها بأقرب فرصة.

ولكن لماذا يحدث ذلك؟ ومن هوالمسؤول عن موت قصيدة التفعيلة، في الواقع أن المسؤول الأول والأخير عن ذلك(برأينا المتواضع وقد نكون مخطئين) هم الشعراء العراقيون والمؤسسات الثقافية والسياسية العراقية من جامعات وحكومات ونواد ومنتديات فضلا عن اتحاد الأدباء، لقد تعامل العراقيون مع قصيدة التفعيلة وكأنها ابن لقيط ولم يحترموا رموزها ولم يحافظوا عليهم إذ سرعان ما هرب الرواد من العراق وهم في أوج نشاطهم وكأنهم اقترفوا اثما لا يمكن غفرانه، كما أن شعراء الجيل التالي لهم(أي للرواد) قد مارسوا لعبة قتل الأب بكل وحشية ولم يأسفوا على فعلتهم تلك لحد الآن، وإذا كان أهلك لا يحبونك هل سيحبك الآخرون، أنا أعتقد لو كان الشعراء الرواد الأربعة  في بلد عربي غير العراق، أي في مصر أو لبنان مثلا لكان مصيرهم تغير بشكل آخر، ولكانت قصيدة التفعيلة الآن في موقع آخر غير المكان التي هي عليه الآن، والدليل على ذلك أنها (أي قصيدة التفعيلة) أحتفي بها وبروادها خارج العراق قبل أن يعرفها العراقيون، وحين عرفها العراقيون مارسوا على روادها ضغطا غير عادي ولا شك أن الصورة المؤلمة لحياة السياب تمثل وصمة عار للنظام السياسي الذي كان قائما في حينه ولكل الأنظمة التي أعقبته.

والآن هل هنالك أمل في إنقاذ قصيدة التفعيلة من الموت أوما يمارس عليها من حصار وتضييق من قبل شعراء العمود أو من شعراء النثر أو من الشعر الشعبي الذي بات بطلا ليس له منازع في الساحة ولا يشق له غبار، أنا أعتقد أنه يمكن إحياء قصيدة التفعيلة وفي خلال عدة سنوات من الآن، من خلال الاحتفاء بها لوحدها، والمؤهل لذلك هم العراقيون فقط وليس غيرهم لأنهم هم المعنيون بذلك لأن قصيدة التفعيلة هي ابنتهم وهي لما تزل بعد شابة عراقية يجب فك أسرها والاحتفاء بها، يجب أن نحتفل سنويا بالسياب ونازك وبقية الرواد عن طريق قصيدة التفعيلة  والتفعيلة فقط وليس عن طريق قصيدة النثر، يجب إقامة  المسابقات الشعرية والندوات الثقافية على مدار العام في كل مناسبة سواء بمناسبة وفاة  روادها أو من خلال تخصيص يوم خاص للاحتفال بها يسمى باسمها، إذا فعلنا ذلك سنكون قد أدينا خدمة جليلة للشعر العراقي ورد الاعتبار لقصيدة التفعيلة وإذا اهتممنا بابنتنا قصيدة التفعيلة أعتقد أن الجميع سيقف معنا ويقدم لنا يد المساعدة، إن اتحاد الأدباء ووزارة الثقافة العراقية بمساعدة الإعلام العراقي تقع على عاتقهم هذه المسؤولية الكبيرة وهم الأقدر على تنفيذها، فعسى أن يسمعوا هذا النداء.

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2050 الاثنين 05 / 03 / 2012)

في المثقف اليوم