قضايا وآراء

حول الملتقى الثاني لقصيدة النثر في البصرة.. / جاسم العايف

تحت شعار (قصيدة النثر مستقبل الشعر العربي الحديث). ما يثير الاستغراب في هذا الملتقى اقترانه باسم الشاعر السياب أوّلاً، وشعارها المستفز الأكثر غرابة ثانياً. ولسنا ندري كيف ساغَ لدى منظمي ملتقى معنيّ بقصيدة النثر حصراً تسمية دورته الثانية باسم شاعر لم يعرف أو يوثق تاريخياً أنه كتب قصيدة نثر واحدة في حياته، أو شجّع على كتابتها. فالسياب طوال حياته الشعرية كان يكتب الشعر على وفق البحور الشعرية الكلاسيكية المتعارف عليها تاريخياً ولم يخرج عليها، إلا عندما اتسعت رؤاه الشعرية وبات نظام القصيدة التقليدي المبني على أساس أبيات متعاقبة تنتهي بقافية موحّدة وكل بيت مكوّن من شطرين، عائقاً أمامه، فتحول إلى شعر التفعيلة. خاصة بعد أن استطاع الاطلاع كثيراً على الشعر الأوربي والانكليزي، بالذات، بلغته الأصلية، و وقع تحت تأثيره المباشر وهو ما أثبته، هو ذاته في حوارات عدة أجريت معه. لم يكتب السياب قصيدة النثر، ولم يخرج عن شعر التفعيلة نهائياً، بل كان، شديد الالتزام بالبحور الشعرية الخليلية ويكتب قصائده موزونة ومقفاة وإن خرجت على نظام الشطرين المعروفين. كما أن انعقاد الملتقى لم يتزامن مع ذكرى وفاة السيّاب التي تصادف في الرابع والعشرين من كانون الأول من كل عام ليصار إلى وضع اسمه في واجهة الملتقى، وإذا كانت المسألة مجرد إطلاق تسمية مجانية لا معنى أو علاقة لها بقصيدة النثر بالذات، مع عميق الاحترام للسياب شاعراً رائداً مجدداً، فالأجدر أن يحمل-هذا الملتقى- اسم الشاعر (البريكان) لأنه عقد في وقت قريب جدا من ذكرى مقتل البريكان المصادف ليل الثامن والعشرين من شباط كل عام وفي مكان لا يبعد عن مكان انعقاد الملتقى إلا بأقل من ثلاثة كيلومترات عن المكان الذي غُدر فيه بالبريكان. في ضوء شعار الملتقى الثاني الذي هو(قصيدة النثر مستقبل الشعر العربي)، فإنه وبوضوح لا يمكن لمثل هذا الشعار إلا أن يقودنا إلى إنتاج التهميش والإقصاء الثقافي والاجتماعي، وهو شعار يعيد ويكرر دورة الماضي الثقافي- الاجتماعي التعيس كرة أخرى، ومن الاستهانة، إلغاء الأجناس الأخرى في مساحة شاسعة ينطوي عليها (بيت الشعري العربي) بكل تنوعاته وتفرعاته، التي تمتد عميقا في الزمن وتنفتح أفقياً بسعة لا يمكن قياسها، ولذا فإن رهن مستقبل هذا الشعر الممتد زماناً ومكاناً وإبداعاً بجنس واحد فقط، لم تتحدد ملامحه بوضوح حتى اللحظة يدلل على جهل أمية شعرية ومجانية في التفكير، ويترافق ذلك مع استهانة بالمنجز الشعري العربي، لمن فرضَ هذا الشعار على الملتقى ومن وافقَ عليه أيضاً من بعض أعضاء الهيئة التحضيرية. لا يمكن التشكيك في أن قصيدة النثر بوصفها نوعاً أو جنساً إبداعياً وتجريباً تغني تجربتنا الشعرية العراقية- العربية، لكن أن تكون هي وحدها (مستقبل الشعر العربي) فهذا هو (الغلو) بحد ذاته، نعم لقصيدة النثر لتغني وتجدد وتفعل الحياة الإبداعية العربية - العراقية، لكن من مجانية الطرح والجهل الثقافي أن تكون قصيدة النثر وحدها الصورة المستقبلية الوحيدة المقترحة لحركة وجدل وتنوع الحداثة الشعرية العربية. فقصيدة النثر بأفقها الحالي تبقى تجربة غير مكتملة، ومن الضروري أن تظل كذلك لغرض حراكها المتواصل إبداعياً و لا يجوز نهائياً الركون إلى الإطلاق في أن( قصيدة النثر) تشكل وحدها (مستقبل الشعر العربي) فهذه المسألة تدخل ضمن التنبؤات ولا مكان في هذا العصر للتنبؤات المبنية على التمنيات أو توقعات المشتغلين بالفلك أو راسمي خرائط الأبراج الذين غالباً ما تكون موادهم للتسلية والفكاهة ومكانها عادةً في الصفحة ما قبل الأخيرة من الصحف اليومية وهي صفحة خاصة بالتسلية واللهو المجاني ولا علاقة لها بالأفق الثقافي- المعرفي والعمل الإبداعي الجاد الذي يكشف بوضوح لا لبس فيه عن الفقر والجهل والأمية الثقافية والتدني الفكري لمَنْ طرح هذا الشعار أو فرضه على الملتقى. إن هذا الشعار يبعد الاجناسية المتعددة الفاعلة التي هي سمة عصرنا وما عليه أن تكون ثقافتنا الشعرية بالذات، وهو عنوان يستبعد الصراع إذ تتحول فيه قصيدة النثر إلى بديل كلي للشعر العربي فلا جنس آخر غير هذه القصيدة وبذا فإن هذا الشعار هو دعوة مبكرة لموت (قصيدة النثر) ذاتها. كان يمكن أن يكون الشعار (قصيدة النثر ومستقبل الشعر العربي) أو أي شعار آخر لا يملك صفة الاطلاقية مهما كانت. فقصيدة النثر ذاتها تجاور أشكالاً أخر ما تزال وستظل فاعلة في الشعر العربي، ولا يمكن أن يكون ثمة مهيمن شعري واحد على عالم الشعر المتسع الذي نطمح إليه، إلا من خلال تلاقح وتفاعل الأجناس الشعرية الأخرى. انحصر الملتقى بجلستين بحثيتين وبخمس جلسات شعرية وشارك فيهما أكثر من سبعين شاعراً، كل طرح قصيدته الخاصة و ( الشعر) استمعنا له والذي يملك هذه الصفة حقاً، كان غائباً جداً، إلا ما ندر، وكان يفترض أن يجري الاهتمام بالنوع بدلاً من الكم. قُدِّم خلال الملتقى عرضان سينمائيان لنادي السينما الذي يشرف عليه الكاتب والمترجم نجاح الجبيلي وعلق على احدهما الناقد السينمائي كاظم مرشد السلوم. أما البحوث فقد خصص لها جلستان فقط الأولى تحت عنوان(اليومي والمألوف في قصيدة النثر) أدارها الناقد زهير الجبوري وساهم فيها النقاد ياسين النصير بورقة حملت عنوان" اليومي والمألوف في قصيدة النثر"، و الناقد عباس عبد جاسم شارك ببحث عنونه بـ " جماليات اللامركزية الشعرية لدى شعراء ما بعد عام 2003 "، أما الناقد د . رحمن غركان فشارك ببحث عنونه بـ " شعرية العتبات النصية في قصيدة النثر"، والناقد عبد الغفار العطوي قدم ورقة نقدية بعنوان " أطروحة التغيير في موجة شعراء التغيير"، و الورقة الأخيرة كانت للناقد جبار النجدي " قصيدة النثر وإشكالية الإيقاع الداخلي، وعقب على البحوث الناقد بشير حاجم أما الجلسة النقدية والبحثية الثانية فعقدت في صباح اليوم الثاني و بعنوان ( التأويلي والمعرفي في قصيدة النثر) أدارها الكاتب جاسم العايف وساهم فيها الدكتور فهد محسن فرحان ببحثه المعنون "بعض مكابدات النص المضاد" والدكتور سمير الشيخ ببحثه " قصيدة النثر في موقد الترجمة: انسي الحاج أنموذجا" والدكتور ضياء الثامري ببحث عنونه بـ" تسامي الأشكال من القصيدة إلى قصيدة النثر" والناقد والباحث بشير حاجم شارك ببحثه " الإيحاء معنىً معرفياً: تأمل الفلسفي في قصيدة النثر"، وكذلك ساهم الدكتور مسلم حسب ببحثه الموسوم " الصورة الدلالية وحدود الانزياح الدلالي في قصيدة النثر". وشهدت الجلسات النقدية بعض التعقيبات من الناقد عباس عبد جاسم والشاعر عمر السراي. ما يمكن تشخيصه بوضوح هو سمة العجالة والارتجال في عقد الملتقى مع عدم الالتزام بالتوقيتات المعلنة للقراءات الشعرية والدراسات النقدية والبحثية، وسوء الخدمات في القاعة والفندق، وكثرة لا مبرر لها وتبعث على الملل في إلقاء القصائد من قبل الشعراء في الجلسة الواحدة، خاصة وان بعضهم قد قرأ قصائده القديمة والمنشورة في ديوان قديم له أو في الصفحات الثقافية العراقية والعربية وبعضها منشوراً في أكثر من موقع على شبكة الانترنت العالمية، وكذلك الخروقات التي سادت القاعة من خلال عدم الالتزام بغلق الهواتف النقالة، وتعمد كثرة التدخين دون الالتفات لنداءات مدراء تقديم الجلسات الشعرية والنقدية بناء على رجاء كثير من الجالسات الفاضلات و الجالسين الكرام في القاعة، وكذلك مقاطعة بعض الباحثين عند إلقاء بحوثهم، دون التقيد بتقاليد الجلسات النقدية التي تقتضي عدم المقاطعة، وهذا ما يدل على انعدام الحس الثقافي والذي يعبر عن سلوك متخلف، في ملتقى يجب أن يتمتع مَنْ يحضره أو يشارك به أو يساهم بالإعداد له، خاصة مَمن كان ضمن الهيئة التحضيرية للملتقى ومعه بالذات رئيسها، بحد أدنى من التهذيب والتمدن والتحضر ورافق ذلك خطأ كتابة كلمة (نثر) باللغة الانكليزية في إعلان عن الملتقى الذي غطى بعض شوارع البصرة وجدران القاعة والفندق، وكان يمكن الاستعانة بمتخصص في هذه اللغة للتأكد من صحتها. ما أنقذ الملتقى الثاني لقصيدة النثر في البصرة من التدهور والفشل المريع هو الحضور البهي والمساهمة الجادة المخلصة للسادة الباحثين والنقاد، والذين تعرف بعضهم جيداً الساحة الثقافية العراقية والعربية بعطائاتهم النقدية المتجددة، ومعهم بعض الشاعرات وقلة جدا من الشعراء، و خلال تألق قصائدهن وقصائدهم النثرية المتجددة، والتي ستغدو علامة واضحة ضمن دلالات شعرية فاعلة ومتوهجة بالترافق مع أجناس أخرى لا زالت وستبقى متميزة و فاعلة ومتوهجة في (بيت الشعر العربي الحديث)، لا أن تكون (قصيدة النثر) فقط،وحسب جهل وأمية مَنْ وضع وروج وفرض شعار هذا الملتقى، وحدها ودون سواها :(مستقبل الشعر العربي الحديث).

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2053 الخميس 08 / 03 / 2012)

في المثقف اليوم