قضايا وآراء

مقالة عن انفعالات الحب (1) / حسين عجة

لن أكتب سوى بضعة سطور، سأكملها عندما أنتهي من ترجمته بكامله : لم أكن من قبل قد تنبهتُ، حتى عندما كنتُ أعيش في بغداد التي فيها قرأته للمرة الأولى عن الأنجليزية وحملت منها معي أعماله الكاملة، ولا عندما قرأتُ تلك الأعمال بالفرنسية؛ لم أنتبه لقوة ودقة خطابه الحبي أو العشقي، بلغة العرب السليمة. كان عليَّ قراءة هذا النص في كتيب صغير، بمعزل عن أعماله الكاملة، حتى أصعق بدقيق العبارة، لا من النص وحده فحسب، بل من حظي الأكثر من سعيد بالعثور عليه، مع مجموعة من الكتب الجديدة، التي لم تلامسها يد تقريباً في أحد أسواق باريس المهجورة. كان في رفقتي، في ذلك اليوم الماطر، صديقي الشاعر والفوتغراف فاضل عباس هادي. لا يمكنني، هنا، وصف دهشتنا، فرحنا وجنونا بها، بالكتب، مع أن غرفنا البائسة تنوء وتأن تحت أثقالها. لقد حملناها كلها وكأننا من أولئك الصبية الذين أوصاهم والدهم، قبل موته بساعات، بالبحث ومن ثم العثور على كنز في باطن الأرض، دون أن يحدد الموقع! هناك دهشة ثانية غمرتني وتغمرني الآن أيضاً : لم أكن أعرفُ وأنا أترجم نص بليز باسكال أن كل ما قاله فيه يتوافق تماماً مع مناسبة الإحتفال بعيد المرأة العالمي. لهن وحدهن، الأحياء منهن ومنْ قتلهن ويقتلهن الرجال في كل يوم وساعة، لاسيما في عالمنا العربي، أهدي ترجمتي، إلى جانب محبتي ووفائي.

 

ولدَ الإنسان لكي يفكر؛ كما لا تمر دقيقة دون أن يفعل ذلك أيضاً، لكن الأفكار المحضة، التي ستجعله سعيداً لو كان بمقدوره تحملها، تعتبه وتنهكه. أنها حياة موحدةً لا يستطيع التلائم معها، أي أنه من الضروري أن تهزه من حين إلى آخر الإنفعالات، التي يستشعر منابعها الحية والعميقة في قلبه.

الإنفعالان الأكثر جدارة بالإنسان واللذان ينطويان على غيرهما من الإنفعالات، هما الحب والطموح : ليس ثمة من علاقة بينهما. ومع ذلك، غالباً ما نجمعهما سويةً؛ لكن أحدهما يُضعف الآخر بالتناوب، لكي لا أقول يقضي أحدهما على الآخر.

مهما كانت سعة عقل الإنسان، فهو لا يقدر على تحمل سوى إنفعال عظيم واحد، ذلك هو السبب الذي يجعل الحب والطموح، إذا ما التقيا سوية، عظيمين نصفياً عما هما عليه لو لم يكن هناك إلا واحد منهما. لا يحدّ العمر أبداً لا من بداية ولا من نهاية هذين الإنفعالين؛ فهما يلدان مع السنوات الأولى من العمر، ويبقيان حتى اللحدِ. وبالرغم من ذلك، وما داما يتطلبان ناراً كبيرةً لتغذيهما، لذا فالشباب أكثر استعداداُ لهما، لكن، كما يبدو، لا تبطأ الأعوام من حركتهما، ومع ذلك، هذا ما هو نادر.

أن حياة الإنسان قصيرة بصورة بائسة. إذ يجري حسابها منذ أول دخوله في العالم؛ أما أنا فلا أرغب بحسابها إلا في اللحظة التي يلد فيها العقل عنده، وفي اللحظة التي يشرعُ فيها العقل بهزه، وذلك ما لا يحدثُ قبل سن العشرين. قبل هذا الوقت، ما يزال طفلاً، والطفل ليس رجلاً.

أية حياة سعيدة تلك التي تبدأ مع الحب وتنتهي بالطموح! إذا ما مُنحتَ حظ الإختيار بينهما، سأختار الأول. فمادام المرء يحتفظ بناره، يظل محبوباً، لكن إذا ما انطفأت، سيضيعُ : حينئذ، كيف سيكون المجال واسعاً وجميلاً لكي يحتله الطموح! الحياة الصاخبة تؤنس العقول الكبيرة، بيد أن أولئك الذين هم تحت المتوسط لا يشعرون فيها بأية لذةٍ، فهم مكائن أينما حلوا. لهذا يبدأ الحب والمطوح الحياة وينهيانها، حيث يكون المرء في الحالة الأسعد التي تستطيع الطبيعة الإنسانية تحملها.

بالقدر الذي يتمتع فيه المرء بسعة العقل، بالقدر ذاته تكون الإنفعالات عظيمة، لأن الإنفعالات ما هي إلا عواطف وأفكار تنتمي مباشرة إلى العقل، وإن كانت الأجساد مناسبة لتحريكها؛ من الجلي أنها ليست شيئاً آخر غير العقل ذاته، وبهذا تملئان كامل قدرته. لا أتحدث إلاّ عن الإنفعالات النارية، أما غيرها، فيختلط دائماً بغيره ويخلق إلتباس مزعج، غير أن هذا لا يحدث أبداً عند هؤلاء الذين يتمتعون بالعقل.

في الروح العظيمة كل شيء عظيم.

يتساءلون إذا ما كان على المرء أن يحب. لا ينبغي التسؤال عن ذلك : يجب الإحساس به. فالمرء لا يتعمد هذا، ولكنه مدفوع عليه، وسيحصل على اللذة إذا ما أخطأ في حسابه.

تسبب نظافة العقل أيضاً نظافة الإنفعال، لذا يحب منْ يتمتع بعقل كبير ونظيف باحتدام، ويرى بوضح ما يحب.

هناك نوعان من العقلِ، الهندسي والآخر الذي يمكننا تسميته عقل الرهافةِ finesse.

يتمتع الأول بنظرات بطيئة، صارمة ولا تقبل التطويع، لكن الثاني يتمتع بطراوة الأفكار التي يطبقها، في آن معاً، على كل الأجزاء الحبيبة المختلفةِ عند محبوبه. ينطلق من العينين لكي يصل القلب، ومن حركة الخارج يعرف ما يجري في الداخل.

أية لذة يمنحها الحب لذلك الذي يتمتع بالعقلين معاً! فهو يمتلك في آن واحد قوة ولدانة العقل، الضرورية تماماً لفصاحةِ الشخصين éloquence de deux personne.

نلدُ وفي قلوبنا خاصية الحب، الذي ينمو كلما أكتمل العقل، والذي يدفعنا لحب ما يبدو لنا جميلاً، قبل أن يقول لنا أحدهم ما هو. منْ الذي يخامره الشك بعد كل هذا إذا ما كنا في العالم من أجل الحب وليس من أجل شيء غيره ؟ في الحقيقة، يمكن للمرء إنكار ذلك على نفسه، لكنه يحب دائماً. حتى في تلك الأشياء التي نظن بأننا أقصينا الحب عنها، يظل قائماً سرياً ومتخفياً secrètement et en cachette؛ ومن المستحيل أن يتمكن الإنسان من العيش دقيقة واحدة من دونه.

لا يحب الإنسان البقاء مع نفسه؛ ومع ذلك يحب : لذا ينبغي عليه إذاً البحث في مكان آخر عما يحبه. لا يمكنه العثور عليه إلا في الجمال dans la beauté؛ لكن ولأنه هو أجمل مخلوق شكله الله Dieu ait jamais formé، عليه أن يعثر في نفسه على نموذج ذلك الجمال الذي يبحث عنه في الخارج qu’il cherche dehors. بمقدور كل واحد ملاحظة أشعته الأولى؛ وبالقدر الذي يدركُ بأن ما يراه في الخارج يتوافق أو يبتعد عن جماله، يشكل لنفسه فكرة عن جمال وقبح كل الأشياء. من جانب آخر، ومع أن الإنسان يبحث لملأ ذلك الفراغ الكبير الذي جعله يخرج من نفسه، لا يمكنه بالرغم من ذلك الرضا بكل شيء. لأنه يتمتع بقلب واسع للغاية؛ لا بدّ وإن يكون ذلك الشيء يشبهه chose qui lui ressemble : أنه يكمن وينحصر في الفارق ما بين الجنسين.

لقد مهرت الطبيعة بقوة هذه الحقيقة في أرواحناً حداً يجعلنا نظن بأن الأمر عادياً، ولا يحتاج لا لفن ولا لدراسة، كذلك يبدو لنا بأن في قلوبنا مكان علينا ملأهُ وهو يمتلأ فعلياً. بيد أننا نشعر به أكبر من قدرتنا على قوله. ليس هناك من لا يراه سوى أولئك الذين يعرفون كيف يشوشون ويحتقرون أفكارهم.

مع أن هذه الفكرة العامة عن الجمال محفورة في عمق أرواحنا بحروف لا يمكن محيها، لكنها تكشفُ العديد من الفوارق في تطبيقها العملي؛ غير أن ذلك لا يتعلق إلا بنظرة المرء للشيء الذي يعجبه. ذلك لأننا لا نتمنى الحصول على الجمال فحسب، بل وأيضاً نرغب بألف مناسبة تعتمدُ على الإستعداد الذي نجد أنفسنا فيه؛ بهذا المعنى يمكننا القول بأن لكل واحد منا جماله الأصلي l’original de sa beauté، الذي يبحث عن نسخة copie له في العالم المترامي. وبالرغم من ذلك، النساء هن من يحدّدُ غالباً ذلك الأصل؛ ذلك لأنهن يتحكمن بالمطلق بعقول الرجال، ويرسمن فيها أما أجزاء الجمال الذي يتمتعن به أو تلك التي يُثمنانها، وبهذا يضفن عبر هذه الوسيلة ما يعجبهن إلى ذلك الجمال الجذري beauté radicale. لذا هناك عصر للشقراوات، وآخر للسمراوات؛ والتقسيم القائم ما بين النساء من حول ما يثمنه بعضهن أو البعض الآخر يخلقُ ذات التقسيم عند الرجال أنفسهم وفي ذات الوقت.

تنظم الموضة La mode والبلدان غالباً ما نطلق عليه الجمال. شيء غريب أن تقحم التقاليد نفسها وتمتزج مع إنفعالاتنا. غير أن هذا لا يمنع في أن يكون لكل واحد منا فكرته عن الجمال الذي يحكم من خلالها على الآخرين، ويحيلهم عليها؛ فعلى مبدأ كهذا يجد عاشق بأن خليلته هي الأكثر جمالاً، ويقدمها كمثال للجمال.

يتوزع الجمال على ألف طريقة. الذات الأكثر أهليةً على دعمها، هي امرأة c’est une femme : إذا كانت تتمتع بالعقل، فأنها تنشطه animé وتنهضه relève بطريقة رائعة.

إذا ما شاءت المرأة إثارة الإعجاب بها، وإذا ما كانت تتمتع بالجمال، أو على الأقل بجزء منه، ستفلحُ؛ حتى وإن لم يلتفت الرجال إليها كثيراً، وحتى وإن لم تعر هي أي أهتمام لذلك، ستحب. ثمة مكان للإنتظار في قلوبهم، قد تقطنه هي.

ولدَ الإنسان من أجل اللذة : يشعرُ بها، وهو ليس بحاجة لبرهان آخر. أنه يتبعُ عقله إذاً حين يمنح نفسه للذةِ. لكنه غالباً ما يستشعر الإنفعال في قلبه ولا يعرفُ من أين بدأ ذلك الإنفعال.

يمكن للذة حقيقية أو مزيفة ملأ القلب، فما أهمية أن تكون لذة ما مزيفة، إذا ما كان المرء مقتنع بأنها حقيقية؟

لكثرة ما يتحدث الواحد عن الحب يصبح عاشقاً، ليس هناك ما هو أسهل من هذا، أنه الإنفعال الأكثر طبيعيةً لدى الإنسان.

ليس ثمة من عمر للحب؛ أنه دائم الولادة. لقد قال لنا الشعراء ذلك، ولهذا فهم يقدمونه لنا كطفل. لكن حتى وأن لم نطالبهم بذلك نشعر نحن به.

يهبُ الحب العقل ويرتكز عليه. لا بد من النباهة adresse لكي يحب المرء. نحن نستنفذ كل يوم طرقنا لإثارة الإعجاب بنا، ومع ذلك لا بد من مواصلة الإعجاب، ونحصل عليه.

نحن نمتلك ينبوعاً من الحب-الذاتي amour-propre يجعلنا نتصور بأنه بمقدرونا ملأ عدة أماكن في الخارج؛ لذا نشعر بالراحة حينما نُحَبْ. ولأننا نتمى ذلك بحرارة، سرعان ما نلاحظه، ونتعرف عليه من خلال عيني الشخص الذي يحب؛ لأن العيون ترجمان القلب، لكن ليس هناك من يفهم لغتها سوى ذلك الذي يهتم بها.

الإنسان وحده شيء غير مكتمل chose d’imparfait، وينبغي عليه العثور على آخر لكي يكون سعيداً. غالباً ما يبحث عنه ضمن ظرف يتساوى فيه الاثنين، بحكم الحرية ولأن فرصة كشف المرء عن نفسه فيها أكثر راحةً. ومع ذلك، نهبط أحياناً إلى ما هو أدنى، فنشعر حينها باضطرام النار فينا، لكننا لا نجرأ على قول ذلك لتلك التي أشعلتها.

حين نعشق سيدة بدون مساواة الظرف، يمكن للطموح في البدء مرافقة الحب، لكنه بعد فترة قصيرة يصبح هو المتحكمِ. الطموح طاغية لا يتحمل أبداً الرفقةِ، يريد أن يكون وحيداً، كما يتحتم على كل الإنفعالات أن تنحي له وتطيعه. 


 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2056 الأحد 11 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم