تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا وآراء

من بيشاور الى بغداد (1) / قاسم محمد الكفائي

عسى أن تصلَ الى معرفة وإدراك الباحثين عنهاويتلقفهَا العراقيون كمجتمع ٍ أضنتهُ جراحاتُ الأرهاب، وكمؤسساتٍ أمنية مازالت مقتنعة أنها تحارب تنظيما أسمه القاعدة .

ظهر إسمُ القاعدة بأفغانستان في السنة الأخيرة ( 1988) لحرب المجاهدين ضد الأتحاد السوفيتي مطلع ثمانينات القرن المنصرم . وقد اقترن هذا الأسمُ بشخصية – بن لادن – وإسمِه على أساس أنه المؤسسُ والراعي له . هكذا تفهم عامة الناس حتى الكثير من المثقفين . ويفهم أبناءُ وطني العراق أن القاعدة تنظيم قائم بذاته، يفعل ما يفعله أيّ حزبٍ أو تنظيم ٍ محظور، وأنه نجح تنظيميا  بأحتواء أعدادٍ من الشباب العراقي إبان احتلال القوات الأمريكية للعراق، وأن (أبو مصعب الزرقاوي) كان قائدا في هذا التنظيم .

دخلت دولة افغانستان صراعاتٍ سياسيةٍ مريرةٍ عَبرَ تاريخِها الحديث فكان أصعَبُها هو مرحلة الغزو الفكري الشيوعي القادم من الأتحاد السوفيتي في ستينات القرن المنصرم، ثم أعقبه الغزو العسكري في نهاية سبعينات ذلك القرن، حيث انتهى الصراع الى صعود – محمد نجيب الله – على سدَّة الحكم بعد تنحي الرئيس(ببرك كارمل) عن منصبه . فهو يُعَدُّ رابع رئيس لدولة أفغانستان الشيوعية وآخر رموز الحكم الشيوعي الأفغاني . خلال هذه المرحلة الشيوعية كان الفقرُ فيها أنهك المجتمع الأفغاني وقد ورثها عبرَ مراحل سابقةٍ، لكن الذي ميَّزها عن سابقاتِها أنها الى جانب الفقر كانت تهدد عقيدة الأفغان الدينية وتهدد تقاليدهم التي ورثوها منذ آلاف السنين لأستبدالها بأفكار شيوعية لا تليق بالعقيدة الأسلامية ولا بموروثهم الحضاري . كانت القوات العسكرية السوفيتية في ذلك الحين تنتشر في قواعد لها بافغانستان وكان لها اليد الطولى في خلع الرئيس وتبديل الحكومة . أمام هذه القدرة في الشأن الأفغاني من جهة والفقر الذي يتخبط به المجتمع من جهة أخرى فأن حكومة السوفيت لا تفكر بجدية الدعم لشعبِ أفغانستان على قدر الحاجة بل كانت ترسل لهم كتبا تتحدث عن اللينينية الستالينية، ورأس المال، وكتبا عن الديالكتيك . السي آي أي كانت ترصد الخطأ الكبير الذي يقترفه السوفيت وكان لها علاقة حميمية بواسطة الباكستان ببعض الجماعات داخل افغانستان رافضة الشيوعية وتعتبرها كفرا وإلحادا، وبعضُها تهيّأ الى الجهاد لطرد السوفيت نهائيا . فكان أول الحاملين للبندقية بوجه حكومة – نجيب الله والسوفيت – هو – قلب الدين حكمتيار – الذي ذاع صيته في البلاد وانضم تحت لوائه – الحزب الأسلامي – مئات آلاف المقاتلين . ظهر على الساحة السياسية من بعده قادة لمجاميع أبرزهم : رباني، عبد الرسول السياف (اعترض الوهابيون العرب على إسمه الذي يرمز الى الشِرك فاستبدلوه ب عبد رب الرسول السياف )، شاه مسعود، حقاني، يونس خالص (ينعته الأفغان بالحمار) الذي دعا الرئيس الامريكي رونالد ريغن باعتناق الأسلام ... هي مجردُ إشاعةٍ أو فبركةٍ إعلامية لدعم قادة حركة الثورة المتوهجة آنذاك،  . في تلك المرحلة كان الرئيس الباكستاني ضياء الحق يحاول عسكرة الحركاتِ المعارضة للحكومة الشيوعية في كابل وقد نجح عندما فتح حدودَهُ آمنة  لقادة الحركات، وفتح أبواب – بيشاور – لتكون قاعدة استراتيجية منها ينطلقون واليها يعودون ليمسحوا عن وجوههم غبار التعب، يتشاورون فيما بينهم ويخططون، وكذا مع المخابرات الباكستانية التي يرمز لها ب  FIA. بهذه اللهجة تزايدت أعدادُ الملتحقين من عامة الشعب الأفغاني بقادة المقاومة ليصبحوا فيما بعد – مجاهدين -، وكلٌ يختارُ قائدَهُ الذي يريد .

عندما بدأت المخابرات الأمريكية نشاطها في أفغانستان منذ الأطاحة بالملك ظاهر شاه وقيام الحكومة الشيوعية كان عنصر (الدين) واحدا من أهم حساباتها في توظيفه كوسيلة وقائية ودفاعية ضد الشيوعية كفكر وحكومة أفغانستان كسلطة . فأمريكا تفهم جيدا الأنسان الأفغاني بكل مزاياه الثقافية والتزمت الديني الذي يسلكه . كذلك (نظام آل سعود والمؤسسة الوهابية) هو الآخر في حساباتها كوسيلة دفع روحانية، ووسيلة تعبئة ومصدر لضخ الأموال .

لقد نجحت أمريكا في هذه التعبئة فاصدرت المؤسسة الوهابية فتاواها بأن الجهاد في أفغانستان أصبح – فرضُ عَين - . ثارت الثائرة في حينها، وتسلح المجاهدون بسلاح أمريكي، صيني فاحترقت الوديان والجبال بقذائف الطائرات الروسية ومدافع الجيش الأفغاني، وقتل من جهة الأفغان المجاهدين مئات الآلاف . من أوهام جهادهم الذي صنعته المخابرات الأمريكية – السعودية لهم هو أن المجاهد الذي يستشهد على أرض المعركة تتلقفه الملائكة مثل - العريس -، محفوفا بالحور العين ... ومن جانب آخر يتحدث بين فترة وأخرى مرتزقة ٌعملاء بقصص سخيفة ومضحكة .. أنه مرَّ على الوادي كذا وبينما هو يسير في حافة الجبل وإذا برائحة يشمها تشبه رائحة المسك لم يشم كمثلها في الحياة الدنيا، فكلما اقترب منها تزداد هذه الرائحة، وهكذا حتى عثر على جثة شهيد – فاطس - . هذه القصص تعمل عليها شركات إعلام ضخمة في ذلك الحين . الحرب دامت لعشرة سنين لم يبق للأنسان الأفغاني منها سوى الفشل والخسران والدمار الذي حطم كيانه ودمَّرَ وطنه، فترحم الملايين منهم على عهد محمد نجيب الله الشيوعي، وبقى علما لامعا عند المثقفين لثقافته ووطنيته التي اكتشفوها فيما بعد كونه لم يغادر أفغانستان ما بعد انهيار حكمه، وبقى كذلك حتى مجيىء قوات طالبان فأعدمته هو وأخوه شنقا دون محاكمة حقيقية . في مرحلة الإعداد للحرب ما قبل نشوبها كان ضياء الحق يحسب كيف ينجح في عمل يقوم به من أجل إشعال فتيل  الحرب، وبالمقابل كان يحسب مرتين كيف يبتز أمريكا والغرب ودول الخليج بالمال والسلاح، لأن الباكستان ُتعَدُّ البوابةُ الوحيدة الناجحة التي يدخل منها الفأر والمدفع . فكان يخزن ثلاثة أرباع الكمية من السلاح ويعطي ما تبقى للمجاهدين، أو يعطيهم سلاحا فاسدا مكدَّسا في مخازنهِ القديمة . لكن ضياء الحق لم تفته مهمة أخرى وهي الأهم في تقديره، تجلب له المال الوفير .. لذا فقد سارع الى إيواء المجاهدين العرب في معسكراتٍ داخلَ وخارجَ مدينة بيشاور، وبهذا حقق مشروعا سريّا متكاملا كانت قد خططت له مسبقا المخابرات الأمريكية بالأتفاق مع حكومة السعودية وباقي دول الخليج والأردن ومصر . لما أشرف موسم الجهاد على نهايته بدأت عقارب المنية تترصد ضياء الحق الذي كان يتصرف على خلاف إرادة (السي آي أي)، حيث تسربت أخباره بأنه يبيع صواريخ (ستنغر) وأسلحة أخرى الى إيران، وأنه يعمل على صنع قنبلة نووية إسلامية ينقل تفاصيلها الى إيران .... فالصواريخ تلك هي أمريكية مرصودة الى المجاهدين الأفغان لأستعمالها ضد الطائرات السوفيتية ... فكان ضياء الحق يخفيها ويعطيهم مكانها ما متوفر في مخازنه القديمة .

يعتبر محمد ضياء الحق بن محمد أكرم من الضباط المحترفين وله رقما عالميا، وكان ذكيا بامتياز . فلما شارفت الحرب على نهايتها أدرك هو خطورة الموقف . ففي مساء يوم من عام 1988 صُعق سكان مدينة راولبندي بانفجارات مُدَويّة لم يسمعوا كمثلها من قبل فجائهم الخبر بحدوث انفجارات في مخازن ضخمة  للسلاح والعتاد التابعة للجيش الباكستاني . كان ضياء الحق بحسب المحللين ومعرفة المخابرات الأمريكية هو الذي فعل كل ذلك كي يخلط الأوراق على المتابعين الأمريكان الذين أشرفوا على محاسبته لأنه تصرف بأرقى الأسلحة الأمريكية المرصودة الى حرب المجاهدين ... وغيرها من الأسباب . لكنه رغم كل ذلك لم يفلت من العقاب . في تلك المرحلة الحرجة لم يصعد ضياء الحق طائرته الخاصة لأي مُهمة ما لم يكن برفقته السفير الأمريكي أو شخصية دبلوماسية أخرى، فكان محترزا، خائفا، لا يثق بالأمريكيين . ما قبل مقتله بشهرين تقريبا بحسب اطلاعنا وصل السفير الأمريكي في لندن (آرنولد رافي) الى اسلام آباد  وتقلد منصبه الجديد فيها (بحسب تحاليل المراقبين أن هذا السفير كان غير مرغوب به من قبل المخابرات المركزية الأمريكية) .. ذات يوم من أيام آب عام 1988 طار بهليكوبتر ومعه السفير الأمريكي الجديد الى مدينة (بهاولبور) لغرض تفقد قطعات عسكرية لكن الطائرة تحطمت في الفضاء وراحا الأثنين ومن معهم من كبار ضباط الجيش الباكستاني . دفن ضياء الحق خارج مسجد فيصل في إسلام آباد لتخلفه بينظير بوتو وتكتب على قبره آية قرآنية ... سبحانكَ إني كنت من الظالمين .( أعدم أباها ذو الفقار علي بوتو رئيس حكومة الباكستان الأسبق ....) الى حلقةٍ قادمة .

 

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2058 الثلاثاء 13 / 03 / 2012

في المثقف اليوم