قضايا وآراء

عاصمة الجراح .. 9 أفريل أم الــهزائم / إيناس نجلاوي

لتقذف قطاع طرق من القرون الوسطى يهتفون بحياة أمريكا ويرجمون التمثال بالنعال ثم يطوقون عنقه، يحاولون تركيعه لكن عبثا يفعلون. يستنجدون بدبابة أمريكية، تقترب الدبابة، تشد التمثال، يهوى التمثال ويجرنا معه إلى هاوية النكسة والانهيار...

 

عندما يتردد على مسامعك هذا الاسم "العراق"، فلا شك أن أول ما يتبادر إلى ذهنك هو انه اكبر ??د تم بيعه على وجه الأرض. أيام الخلافة العباسية سلم المستعصم مفاتيحه للمغول مقابل سلامته، فرد هولاكو الجميل بإعدام الخليفة وحرق بغداد في 40يوما. وقبل 30سنة باعه حزب العبث إلى آل صدام ليعيثوا فسادا في الأرض والعباد. وباعه العرب إلى أمريكا حين شجعوا صدام على خرق اتفاقية الجزائر لإدخال المارد الإيراني القمقم، فأنهكت طاقة إيران ?لعسكرية عوضا أن تشكل مع العراق قوة إسلامية إقليمية ضاربة...

وباعه صدام للشيطان لما قصف الشيعة وضرب الأكراد بالكيماوي. وعلى مدار حكم البعث باعه رجالات الجيش والدولة، فتسلطوا على رقاب الشعب ونهبوا ممتلكاته، وبينما كانت صيدلية يخت المنصور مكتظة بالأدوية، كان الشعب يموت تحت وطأة الحصار والأمراض...

وباعه المنشقون على صدام في مؤتمر لندن حين هللوا للمحتل. وأثناء العدوان باعه الأكراد لأمريكا ورموا غارنر بالورود، وباعه الجيش ووقف يتفرج على الدماء المسالة ثم تحلل في ظلام الليل بعد أن فتح أبواب بغداد في وجه الطغاة...

مادامت الخيانة قديمة وضاربة في الأعماق فلماذا إذا صدمنا يوم9افريل2003؟ ولماذا مازلنا مفجوعين؟

ربما لأنه كان يباع دوما بالتجزئة، تحت الطاولة. لأول مرة يعرض في مزاد علني، يباع على الملأ والمشترون كثر: ثلا?? الآزور(أمريكا بريطانيا اسبانيا)، إيران، بنو صهيون... الكل يشحذ السكين لاقتطاع نصيبه من الثور الذي هوى...

إن كان ما وقع في 1948سمي نكبة وما حصل في 1967سمي نكسة فان ما حدث في 2003 لا يسمى إلى نكتة. نكتة سخيفة جدا لا تصدر إلا منا، ورغم أننا نتدوالها بقدر ما نتنفس إلا أننا نعجز عن استيعابها وتلك النكتة الكبرى...

نحن لسنا إلا كاريكاتيرا كبيرا مثير للسخرية والاستفزاز، مجموعة بهلوانات تضيع أوطانها ثم ترقص على أنغام ستار أكاديمي و هزي يا نواعم و عرب أيدول...

عندما قرأت كتاب "الحائط والدموع" للمدهش أنيس منصور، لم افهم لماذا هول الشعور بالندم والهزيمة، وجعل 5جويلية67 يوما أبديا لا يتحرك، فقدت فيه الأرقام دلالتها وتجمد عنده التاريخ...

لكن يوم 9افريل2003 فهمت معنى أن يتوقف الزمن عند نقطة خيانة، أدركت أن اللاوعي فينا يحرك الساعة بالاتجاه العكسي لنبقى أسرى أيام المقاومة، في ذلك اليوم أحسست بألم سقوط العواصم. ولا مجال للمقارنة، ففي 67 كانت-على الأقل- القومية "شغالة"-على رأي عادل إمام- كانت القومية تستنشق مع الهواء وكان جمال عبد الناصر. والآن ماذا تبقى؟

بمجرد سقوط التمثال، حتى توقف من كان مهتما بالقلق على بغداد عن القلق، وعاد الكل إلى لهوهم...

لكني وملايين غيري سقطنا في دوامة الهزيمة والندم. يوم 9افريل توقفت الساعات وتوقف الزمن، لم يبق غير العار والخيانة، ياللعار 20 دولة جربية تتفرج على العراق وهو ينحر بل وتطالب بتعجيل الذبح وتقدم السكاكين...

لم يعد ممكنا أن يطلب منا أنيس منصور التغلب على الهزيمة لأنها عقوبة نستحقها وعلينا أن نغرق فيها لان لاشيء يبررها، ولا يمكن أن نجعل من الجهل مبررا كما حدث سنة67، ففي 2003كان كل شيء واضحا معلوما: قوة العدو، إجرامه ووزنه، ومع هذا حدثت الملحمة وصمد الجنوب، لكنها الخيانة...

يهوذا كان يهوديا لمرة واحدة في التاريخ حن باع المسيح، لكن المجمع المسكوني برأه واسقط عقدة الذنب عن اليهود. اليوم تحول كل العرب إلى يهوذا، كلنا بعنا ثم جلسنا على قارعة الندم ننتظر المظفر. عذرا ارض الحضارات فالدولار أغلى من الشرف ورأس هارون الرشيد لايصرف في أي بنك وأساطير بابل ماعادت تسحر الألباب وتأخذ العقول في زمن والت ديزني ومغامرات السندباد وعلاء الدين أصبحت مثيرة للضجر فأطفالنا لا تستهويهم إلا "هانا مونتانا"...

اعذرنا أيها العراق الأغر، كلنا شاركنا في لعبة الخيانة، خانك أبناؤك وخانك حكامنا وخناك نحن بسكوتنا ثم أخذنا نبكي على أطلالك وعلينا ألا نتوقف عن البكاء وألا نستعير من اليهود حائط مبكاهم بل نستعير منهم التيه والتشرد. إنها الحقيقة، حقيقة أن الرزنامة ألغت كل أيامها وشهورها ولم يبق غير 9افريل و15ماي وشعور قاتل بالعجز والشلل...

 

يا عاصمة الجراح أما آن لك أن تصفحي وتغفري ??شاقك كل خطاياهم...

أما آن لك أن تخلعي عنك السواد وتلبسي أحبابك بكل دموعهم ودمهم...

لماذا ذهبت؟

ذهبت كأي شيء لم يكن، كلعبة صنعوا منها آلاف النسخ، ليت ينفع استنساخك يا أصل الوجود...

لكنهم أخذوك ووزعوا علينا الشقاء والبكاء والأسف، اغتصبوك بكل همجية اليانكي...

ثم خرجوا ودماؤك الطاهرة تغمرهم حتى أخمص أقدامهم النجسة، لنكتشف انك كنت عذراء بريئة...

لم تخوني عروبتك يوما، لكنا خناك يا نخلة الله، خنا وعودا قطعناها أمام التاريخ...

بان تظلي محمية يا قلعة الرب وان تظلي بغداد عز العرب ومجدهم...

ادخلوها أيها الناقمون على مجدها(1)، فلا عربان تحميها...

عيثوا فها فسادا، دنسوا حضارتها، احرقوا كتبها، فتاريخها لا تحفظه الصحائف...

انه في عيونا الدامية، انه في بحر الجراح الذي أغرقنا...

ونظل حيارى نبحث عن فارسنا المنفي، الضائع في أعماق الوهم..

ومتى كان الوهم يحرر الأوطان؟

  

(1) للشاعر العراقي السّكار

 

بقلب:إيناس نجلاوي-خنشلة

أستاذة بجامعة تبسة- الجزائر

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2084 الأحد 08 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم