قضايا وآراء

شهادة في حقّ الدكتور مصطفى محسن .. عالم السوسيولوجيا والمفكّر المغربي / ادريس هاني

السوسيولوجيا ابتداء من يوم الجمعة أبريل 2012م ندوة تحت عنوان: الشباب في عيون السوسيولوجيا، في دار الثقافة بمدينة تطوان. ونظّمت حفلا لتكريم عالم الاجتماع المغربي الدكتور مصطفى محسن في افتتاح فعاليات المنتدى، حيث ألقيت شهادات في حقّ الأستاذ مصطفى محسن من طرف أصدقائه ولفيف من الباحثين وممثلين عن مؤسسات ثقافية مختلفة. كانت لنا شهادة في حقّ المكرّم ، حاولنا نقل محتواها المرتجل إلى صيغة قابلة للنشر كالتّالي:

 

باسم الله الرحمن الرحيم

تحية طيبة أيتها السيدات أيها السّادة أساتذة وباحثين وطلبة.

في الحقيقة لا أجد ما أضيفه على ما قدّمه الزملاء في شهاداتهم في حقّ عالم الاجتماع المكرّم والباحث القدير الدكتور مصطفى محسن. لكنني أحسّ بشرف الحضور بين هذه النخبة من خيرة الأساتذة والباحثين في مجال السوسيولوجيا والتّربية في بلادنا. لقد قدّم الزملاء من خلال شهاداتهم ما يؤكّد على وفائهم لأستاذهم في مجال سوسيولوجيا التربية، لكنّني أقول لهم بأنّ علاقتي بالسوسيولوجيا، وإن لم تكن مقنّنة وليست من قبيل الزواج الشّرعي، إلاّ أنّني عاشق للسوسيولوجيا. وهنا لا بدّ من اعتبار وفاء العشّاق أهم وأكثر إخلاصا من وفاء الأزواج. فقد كنت أصادف السوسيولوجيا في كلّ مكان. وأحيانا هي تتحرّش بنا. ولا يكاد باحث مهما بدا غريبا عن السوسيولوجيا أن يستغني عن عالمها وعن نتائجها. إنّها قدر العلوم الإنسانية في عصرنا الحديث والرّاهن. إنّنا نهنّئ بالمناسبة جمعية أصدقاء السوسيولوجيا على هذه التّظاهرة القيمة. وإن كنت أتمنّى لو سموّها: بيت السوسيولوجيا. فيكون شرف لي أيضا أن أكون ضيفا على أهل بيت السوسيولوجيا. إنّ السوسيولوجيا علم خطير جدّا. وكما قال فاليري في حقّ التّاريخ بأنه علم خطير جدّا، فإنني أرجّح أن يقال أن السوسيولوجيا هي علم أخطر. إن السوسيولوجيا تتحرّك حيث يقف التّاريخ. وهي لا تجد نفسها رهينة النّصوص. يتوقّف التّاريخ حيث تغيب النّصوص ولا تتوفّر الوثيقة. بينما تبدأ السوسيولوجيا مهمّتها من هنا. لذا ظلّ الخوف من السوسيولوجيا قائما دائما لصعوبة احتوائها بينما أمكن منح التّاريخ فرصة بعد أن بات قابلا للتزييف. صحيح أنّ السوسيولوجيا الكولونيالية لعبت أدوارا خطيرة على مستوى تركيز الاحتلال، لكن مع ذلك ظلّت السوسيولوجيا علما مناضلا ومتمرّدا بطبعه. كان دائما شيء إسمه سوسيولوجيا الثّورة أيضا. إن السوسيولوجيا لما جعلت له. لكن يبقى وفاءها للاجتماع كبيرا. لأنّ تزييف الوقائع الاجتماعية أصعب من تزييف الأفكار والأقوال والوقائع السياسية. السوسيولوجيا تكشف وتفضح بالجرد والأرقام والإحصاء والمقارنة والصّمت. بينما التّاريخ قد يخضع في سبات عميق وقد يقبل بالصّفقات. السوسيولوجيا علم خطير جدّا بل هي العلم الأخطر. لكن مع ذلك يبدو السوسيولوجيون أكثر قبولا بحالة المسكنة والدّروشة. وهذا إنما هو في نظري شيء من التّمسكن يبديه أحيانا أهل بيت السوسيولوجيا، لأنه بخلاف وضعية السوسيولوجيا في سلم معرفة الإنسان. إنّه إحساس خادع. فالسوسيولوجيون هم الأكثر خطرا.

أيتها السيدات أيّها السّادة، إنّ شهادتي في حقّ مكرّمنا الدكتور مصطفى محسن قد تبدو مجروحة بعض الشّيء، لأنّها شهادة صديق. لكن يشفع لي هنا أنّني منذ فترة ونظرا لصروف الدّهر وقهر التّحدّيات تمرّست على الهجاء لا المديح. وكنّا في الهجاء نقوى على قول الصريح الصحيح من أن نفعل ذلك في المديح. لقولة للشّاعر:

 

وقالوا في الهجاء عليك إثم +++ وليس الإثم إلاّ في المديح

لأنّي إن مدحت مدحت زورا +++ وأهجو حين أهجو بالصّحيح

 

لكن سأعدكم هنا أنّي سأمدح حين أمدح، بالصحيح.

لقد اختار مكرّمنا حقلا من أخطر الحقول المعرفية ألا وهو السوسيولوجيا. ثم أضاف لها قيدا لمزيد من الاختصاص، ألا وهو سوسيولوجيا التربية. الخطورة هنا إن شئنا التفصيل بعض الشّيء تتعلّق بتحدّي الموضوعية في علم لا زال يكدح لكي يحرز موقعيته في خريطة العلوم الموضوعية. فلا زال هناك من لا يرى السوسيولوجيا علما، نظرا لصعوبة إحراز الموضوعية فيها. لكن كان ذلك ناتجا عن فهم سطحي للموضوعية؛ هذه الأخيرة التي تبدو في عداد الأسطورة كما ذهب بيير بورديو. لكن ثمّة من وقف موقف الاعتدال أمثال ماكس ويبر ليؤكّد على أنّ الموضوعية ليست سهلة الإحراز وأيضا ليست مستحيلة التّحقق، إذا ما تمّ احترام شروطها. هي إذن مشروطة وليست متاحة بلا شروط. نتساءل كيف ينشأ شخص ما في بيئة كعنصر مؤثّث للظواهر السوسيولوجيا ، من منطلق أنّ لا أحد يولد سوسيولوجيا، فإذا ما شبّ وترعرع واختصّ أصبح سوسيولوجيا يزعم التموضع الموضوعي؟ هل لنا أن نتحدّث عن سوسيولوجيا السوسيولوجيين إذن؟ يجب أن تدرس سيرة السوسيولوجيين لكي نعرف عن ذهنياتهم وواعتقاداتهم بما في ذلك اعتقادات الطفولة، لأنّ هذا يسمح بقيام رقابة على مسارهم الموضوعي. ومع ذلك نستطيع أن نؤكّد بأنّ السوسيولوجي الذي ينجح في أن يتحرّر من الرتابة ومن مبدأ المشاركة في الظاهرة السوسيولوجية يملك إمكانات هائلة في سلّم الموضوعية. هناك إذن الموضوعي وهناك ما هو أكثر أو أقل موضوعيا. والسوسيولوجي بحكم معاناته مع الموضوعية يبدو الأكثر قدرة على التّموضع الموضوعي من نظرائه في حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية. ويبدو هنا أنّ أحد أخطر العناصر على الموضوعية هو التموضع الأيديولوجي. فالأيديولوجيا عدو الموضوعية. لكن وكما أنّ الموضوعية المطلقة مستحيلة فكذلك قليل من الأيديولوجيا مفيد وضروري ولا غنى عنه. أما بالنسبة إلى الأستاذ مصطفى محسن ، فإنّه حافظ قدر الوسع على تموضعه الموضوعي مع معاقرات أيديولوجية لم تطغ على الممارسة المعرفية. لأن معاقرتها بعض الشيء أمر ضروري لافكاك عنه. لكنها لا تميد به خارج موازين المعرفة. وربما كان مكرمنا ضحية هذا التسامي عن معاقرت الايديولوجيا العارية. ومشكلته أو هي بالأحرى مشكلتنا في المغرب، هو أنّ مشهدنا منح لمعاقري الأيديولوجيا كاريزما خاصّة حجبت ما دونهم. يكاد المشهد الفكري والثقافي المغربي يكون محصورا بين المرحوم محمد عابد الجابري والمؤرّخ عبد الله العروي. الأوّل حينما عاقر من الأيديولوجيا ما لم يكن يخفيه والثّاني حينما نقد الأيديولوجيا نقدا صارما. فقدر الأيديولوجيا في بلادنا أن ترفع من مقام معاقريها ونقادها سواء بسواء. لقد اهتم مصطفى محسن بالتّربية. لكنّه لم يتعاطاها كتخصّص جامد بل فتحها على المعاقرة الأيديولوجية بوصفها أساس المسألة الحضارية والنهضوية. فقد اختار المقاربة الشمولية أو بالأحرى حسب فكرته الأثيرة: المقاربة المنفتحة متعدّدة الأبعاد. وهنا كان الباحث قد جال وطاف في حقول متنوعة وقدم مقاربات في قضايا مختلفة. لقد كتب عن المدرسة والتنمية السياسية والاقتصادية والعولمة والمعرفة وحتى الربيع العربي. لقد زجّ بالتربية والفكر التربوي في حقول وقضايا إشكالية متنوعة. يكاد من يخرج من معالجاته السياسية نفسها أن يستخلص ما بين السطور فكرة أنّ السياسة هي نفسها تحتاج إلى تربية. أي سنكتشف لا محالة أن سياساتنا غير "مربّية" وأحزابنا غير"مربّية" وسياسيونا تنقصهم التربية...إنّ التربية في مثل هذه المعالجات تبدو أساس النهضة والإصلاح. لقد لخّصت قصّة النهضة برمّتها. إذا كان الجابري يرى المشكلة في استعادة الصّلة مع جزء من التراث رآه عقلانيا وكان العروي قد اعتبر أن المشكلة تتعلّق بتراث بكاملة يتعيّن نسيانه، فإنّنا من منطلق الفكر التربوي نستطيع أن نؤكّد على أن مسألة الاستحضار أو النسيان كلاهما تتطلّبان أداة تربوية. فالثقافة موجودة جامدة لا يكاد يخلو منها اجتماع قط. لكن لا بدّ من التربية لجعل مجتمع ما على صلة ما أو قطيعة ما مع ثقافته الجماعية. من هنا أهمّية التنهيض التربوي. إن مصطفى محسن العالم والمفكّر كان قد جعل من التربية أرضية لمعالجة القضايا الحضارية والنهضوية. وهو كمثقّف وإنسان له حضور اجتماعي كبير. إنّه شخص متواضع ودافئ ودمث. لقد أدمناه واعتدنا على لقياه ومنه أدركت أنّ التربية والفكر التربوي هو الأكثر شمولية ويتيح لك التّمدّد في حقول معرفية شتّى، فكل ممارسة فكرية وعلمية هي في النتيجة ممارسة تربوية. التواضع هنا مهمّ وهو زينة العلماء. ودائما كانت العجرفة شينا للعلماء وسمة للجهلاء. لكن للأسف كادت العجرفة أن تتحوّل إلى صفة مقوّمة لبعض المثقّفين الذي حوّلوا المثقّف إلى سيّد في مجتمع الإقطاع. والمثقفون المتعجرفون مثل السياسيين المتعجرفين يلفظهم الثّرى ، بينما يخلد أهل التواضع والقلوب الكبيرة في التّاريخ ويتجذّرون في الأرض كالجبال الرواسي. أن تكون الثقافة سلطة لا يعني أن يتسلّط المثقّف ويتعجرف، بل بأن يتواضع. فالتواضع سلطة المثقف ورأسماله الأكبر. وإذا كنّا نعرف قيمة السّهل الممتنع في النّصوص، فإنّنا لم نجرّب يوما الحديث عن إمكانية قيام وتحقق السّهل الممتنع في الشّخوص. فمن أراد أن يكوّن فكرة عن السهل الممتنع في الشخوص ، فلينظر إلى "السّي" مصطفى محسن. إنّ ما لا يعلمه الكثيرون عن مفكّرنا المكرّم، هو أنّه فنّان. وهذا ما يعزّز منحاه الإنساني، وما يكسبه الاعتدال. فحينما يجتمع الفكر مع الفنّ يمنح صاحبه اعتدالا. الفنّ والفكر أمران مشتركان. لا إثنينية بينهما. فالفكر فنّ أكثر منه اجتهاد. فالمفكر المجتهد شأنه شأن الفيلسوف الكادح الذي يقابل عند نيتشه الفيلسوف الحقيقي. المفكر المجتهد يتقن هندسة الأفكار لكنه لن يقوى على إبداع الأفكار. لا يكون المفكّر مبدعا على النحو الحقيقي إلاّ أن يكون فنّانا بالقوّة أو بالفعل. ولسنا نستمتع إلاّ بالأفكار التي يجود بها فكر فنان. فالمفكّر الفنان وإن بدا واحدا منهما بالفعل، لا يعرف الإخفاق. فهو وإن لم يكن مفكرا كان حتما سيكون فنّانا. والعكس صحيح. إن ما لا يعرفه الكثيرون عن الباحث أنه يقرض الشّعر ويعزف على العود ويعاقر الحكاية. وأنّا لا زلت أتمنّى لو يتفرّغ الأستاذ مصطفى محسن للإبداع لا سيما الرواية. فهي حقل يتّسع لما لم تتّسع له السوسيولوجيا، من أجل أدب سوسيولوجي يغدو من خلاله مكرّمنا في مقام أديب السوسيولوجيين وسوسيولوجي الأدباء....شكرا

   

العودة الى الصفحة الأولى

 ............................

 الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2088 الخميس 12 / 04 / 2012)

   

في المثقف اليوم