قضايا وآراء

تأثيث فضاء المشهد الشعري .. في قصيدة النثر .. قصيدة (صلاح فائق) للشاعر مكي الربيعي أنموذجا

لقد اعتنى الشاعر المبدع (مكي الربيعي)، وفق منظومة انثيالاته المتجسدة، في اعتلاء ناصية الالم، او التوغل في أزمنة فائتة، فلقد نمى في مخياله الشعري، داخل إيقونة  ذاك الحزن الشفيف، والذي يبدو مرتبطا أيما ارتباط بالمهدى اليه النص الشاعر (صلاح فائق) .

لقد تشظت انهمارات القصيدة، على مراحل، استكشافية في سِفْر ِ ذاك الشاعر الذي ما زال يخترق مسامات الروح، ويوغل في رحم الأزمنة، والأمكنة ليسكن مطمئنا في ذاكرة الشاعر :-

 

يـا هـذا الـجـريـحُ الـحـامـل عـلى كـتـفـيـهِ جـثـةُ الـوهـمِ، ألـيـس الـحـمـلُ
ثـقـيـلاً ؟ ألـم تـتـعـب مـن الـنـهـوضِ مـبـكـراً؟

 

ان هذا السمو في خلق ملامح ذات طابع أبجدي، لذلك الأسى الذي يحتمله كجرح، محمولا فوق جثة الوهم، ربما هذا الانزياح اللغوي، ذهب بنا بعيدا، للتصدي لمزمع الشاعر، المتبني لفكرة الوهم، الذي بدا ثقيلا، حتى جاء مع النهوض مبكرا ومريرا، لقد استطاع الشاعر عبر أدواته التأسيسية الشعرية أن يفضي بالمتلقي، صوب ملحمة أخرى، ومن طراز نبيل آخر، لا يزال متخما بلوعته حيث يقول :-

 

عـلـى الـبـاب أجـلـسـت الـمـطـرَ، وتـركـتـهُ يـعـدُ الأسـمـاك الـذهـبـيـة
الـمـتـسـاقـطـة مـن غـيـومـهِ،
كـأن لا أمـومـة تـحـتـضـنُ الـبـرقَ وتـضـمـهُ إلـى صـدرهـا .
كـأن لا وقـتَ يـمـررُ خـطـاهُ مـن ثـقـوبِ جـيـوبـكَ لـيـهـربَ الـكـلامْ .
كـأنـكَ ألـقـيـتَ الـمـفـاتـيـح بـفـم الـحـوتِ وأغـلـقـتـه .

أنها صورة، مؤثثة بدراية عالية، وبأدوات قد تمكن منها الشاعر ربما كانت لقصدية الأداء النثري، الذي يحتوي النص، أثرا بالغا في تكوين ذلك الفضاء المشحون بالرموز، والدلالات، والإيقونات، التي من شانها الابتعاد عن السقوط في هذيان المباشرة، او سحب المتلقي صوب رسومات منحوتة مسبقا، يراها الشاعر، بأنها جاءت ربما من هول آخر، ومن مصادر تكاد تكون من عالم افتراضي، او من اللاوعي اللحظوي، الذي استشرى في حسد القصيدة ليحليها الى مرتع إبداعي فني خالص، وموسوم بلغة الشاعر، وفي هذا الشطر، يمازج الشاعر بين، المطر، باعتباره اصطلاحا ورمزا للنماء، والذي أجلسه عنوة على الباب، وبين ان يعد أسماكا ذهبية، المتساقطة من غيومه، أراد الشاعر هنا، ان يزاوج بين هموم (صلاح فائق) اليومية، والامه، وأيامه التي ذهبت هباء ً، حيث يقول في بداية القصيدة :-

 

مـا كـان يـنـبـغـي عـلـيـكَ أن تـتـوغـلَ فـي خـشـبِ الـكـرسـي لـتـصـل
لـمـبـتـكـره . مـاكـان يـنـبـغـي عـلـيـكَ أن تـمسـح بـقـمـيـصـكَ عـويـنـات
الله لـيـراكَ بـوضـوحْ .
 

إذن .. أن هذا الزخم من الحراك الديمومي في احتواء المعنى داخل القصيدة، وقصدية الاعتناء بمعنى المعنى، تجانست مع شخصية ذلك المتداعي الذي كان همه، التوغل في خشب الكرسي ليصل الى مبتكره، وهذا الإيعاز، يفسر لنا مدى شاغلية وهموم الشاعـر في أن يكشف لنا ان (فائق) كان حتى لا يمكن له الارتقاء الى السماء، ليمسح بقميصه المهتريء عوينات الله، التي لم تعد ترى هزاله، وتعبه، وربما فاقته .

وهناك ثمة دراية فاعلة،  من الشاعر في توليد فكرة غاية في الأهمية في حياة (فائق)، هي ذات الفكرة أو (الثيمة) التي أسس عليها نصه النثري، والذي استطاع بامتياز أي يحيط بجوانبه المتعددة في غفلة من المتلفي، حيث أراد ان يسحب ذاكرة المتلقي حيث يريد هو، لا حيث يريد المتلقي، وفي رأينا بان الفكرة قد نجحت عند (الربيعي) حيث يقول :-

 

غـيـر أن تـمـد يـدكَ إلـى الـنـسـيـانِ، تـغـتـَرف حـفـنـة وتـدسـهـا فـي جـيـبـكَ،
وحـفـنـة وتـدسـهـا . لـلـحـد الـذي تـبـقـى تـطـعـم الـنـص الـنـار حـتـى يـأكـل
أصـابـعـكَ، لـلـحـد الـذي تـطـردُ قـطـيـع الـظـلام مـن مـشـط الـفـتـاة، لـلـحـد
الـذي تـزيـلُ فـيـه الـعـمـى عـن عـصـا الـضـريـرْ .

من هنا تأتي أهمية هذه المهارة الشعرية التي أخذنا معها (الربيعي) كي ننصت إليها بإمعان، أنها مهارة قصية نثرية، أراد بها إشغال ذاكرة المتلقي المتحفزة للإنصات، وبالتالي الغير مدركة لما سيأتي لاحقا، من الأحاسيس المتجذرة في مخاضاته المترعة بالأسى، والألم، وهذه تحسب للشاعــر (الربيعي) لأنه استطاع وبمهارة ان يسحب دائرة الإنصات إليه بروية، لتستطيع تحليل، وتفسير، الصور المتلاحقة، بعد قراءات عديدة للنص، لخلق حالة استثنائية، في مفهوم إسقاط النص لمنطقة التأويل، وبرأينا النقدي، استطاع (الربيعي) في هذه الصورة، ان يتخطى حاجز الإمعان، في ترتيب أواق (فائق) لأنه أراد له ان يمد يده للنسيان، ويغترف حفنه منه، ويدسها في جيبه، وللحد الذي يطعم فيه (فائق) النص حتى تأكل أصابعه، وللحد الذي يطرد قطيع الظلام، وفي رأينا مفردة (قطيع) جاءت ضيفة ثقيلة على شفافية النص فأنهكت انثياله الفطن، وربما مشط الفتاة هي الأخرى، التي جاءت لتزيل العمى عن عصا الضرير، قد كانت زائدة، على فحولة النص، ربما لو اكتفــــــــــى (الربيعي) .... للحد الذي يطرد الظلام عن مشط الفتاة، لكانت ترنيمة أكثر إيقاعا، وأكثر استساغة ضمن سلاسة النص وانحيازه الى الاقتضاب، والترميز، ومن ثم فهو يتكئ على ملامح انزياحا ته العالية، ربما وقع في هذه الصورة، بشيء من الاستقطاب المباشر للمعنى، واستسهال عملية توصيل الصورة، لإبعاد عين المتلقي، عن التصاقها بالنص . وبالتالي ليترك لها فسحة، للخوض اللحظوي والتراتبي، المتأني  في متن جمالية النص .

 

وأخيرا .. يأخذنا الشاعر (الربيعي) الى أجمل منطقة في قصيدته، والتي اسميها شخصيا، (المنطقة الشعرية الدافئة) والتي استطاع عبرهـــــــا (الربيعي)، ان يقول لنا، انا هنا، واعرف بدراية الشاعر، كيف يمكن لي أن أؤثث المشهد الشعري، الذي من خلاله يمكنني ان اسحب المتلقي الى منطقتي، ونجح فعلا، حيث يقول في نهاية قصيدته الرائعة :-

 

يـسـقـطُ الـمـكـان ويـنـكـسـرُ،
آهٍ . كـيـف سـأعـيـدهُ لـهـيـئـتـهِ الأولـى ؟
هـذهِ يـداهُ، لـكـنـهـا مـن غـيـر أصـابـعٍ، هـذهِ رقـبـتـهُ، لـكـنـهـا مـن غـيـر
رأس . هـذا جـسـدهُ، لـكـنـه مـن غـيـر قـدمـيـن .
أبـكـي عـلـى الـبـيـت وأنـا أسـنـدُ ظـهـري لـحـائـطـه .
أجـربُ أن أمـحـو نـفـسـي،
حـيـثُ كـل مـا أمـحـو جـزءً مـنـهـا، تـصـبـحُ صـورتـي أكـثـر وضـوحـاً،
ويـكـتـظ إطـار الـلـوحـة بـحـقـائـب الـسـفـرْ .

 

هنا تكمن (الثيمة)، فقد أدلفنا (الربيعي) داخل صومعته الشعرية المؤلمة، والحزينة، والتي يحكي عبرها مأساة (الصلب) ويسرد بلغة فاخرة، كيف يسقط المكان، وينكسر، صورة غاية في الدقة اللونية الاستاتيكية الملهمة، انه لا يستطيع ان يعيد (فائق) لهيبته الأولى، لإنسانيته، لأدميته، لذلك التعسكر المهول في ذاكرة الشاعر من الصور المخزونة في ذاكرته، والتي استطاع ان يختزلها بأبيات نثرية باهظة الجمال .. فمشهد  اليد دون أصابع، رقبة من غير رأس، جسد بلا قدمين، واللوعة ما تزال في ذاكرة الشاعر، حين اسند ظهره على حائط البيت، وبكى، ومن ثم يجرب أن يمحي هو الآخر شاعريته وإنسانيته ويعدمها، ويمحوها، لكن السفر، والهجرة، يبدو كان مدخلا فائقا للهروب من تزاحم الصور في ذاكرة الشاعر، من تلك المجزرة، الدموية، التي أحاطت به، واستشاطت لواعجه، وراح غيلانه الشعري ينزف دما علـى الشاعر (صلاح فائق) قبل ان ينزف دمعا .

في رأينا النقدي، ان القصيدة النثرية الموسومة (صلاح فائق) للشاعر العراقي، (مكي الربيعي) قد حملت في فضاءاتها الشعرية، ملحمة كبرى، للألم، والحزن، او ربما للنشيج، كتبت القصيدة بلغة نثرية راقية، تستحق الثناء، مغلفة برمزية ودلائلية باهرة، مما أعطت بعدا انتقاليا تراتبيا، وانتقائيا في عملية التلقي، لفك شفراتها، وطلاسمها القصية، واللغوية، لقد بنى (الربيعي) قصيدته بدراية فاعلة في جسد اللغة، والثيمة، مما ادى الى ارتدياد الملهم النثري العالي في استنباط نزوع الشاعر صوب الاقتضاب والجزالة، في متن القصيدة .

أنا متيقن (كناقد) بان اللاوعي عند (الربيعي) كان حاضرا في تأثيث جسد قصيدته الفاخرة، ولأنه لم يُحضر مسبقا لكتابتها، ولو كان قد عمل لها (سيناريو نثري) لما خرجت بكل هذا البهاء الانثيالي النثري الجميل، والتي كتبت بأنامل اللوعة، والحزن، والأسى، والألم .

 

سعدي عبد الكريم / كاتب وناقد

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2110 الجمعة  04 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم