قضايا وآراء

(وتكلمت الحياة) رواية للاديبة علياء الانصاري (2) / علي جابر الفتلاوي

وهي لا تزال تعيش في بيت والدها المتوفي مع والدتها الارملة وبناتها الثلاث، عائلة جميلة تعيش حياة الفقر والضنك وكانت العائلة محل عطف من خال جميلة، اذ كان يقدم لهم بعض المساعدة من مال او بعض الملابس المستعملة، وبسبب تقديم هذه الملابس المستعملة تشعر جميلة بالاهانة والامتهان،وتصرخ بوجه امها: (لا احب اخاك هذا، تقتلني صدقاته)  لكنها لا تستطيع ان تغير شيئا فتلجأ الى الصمت، وكان هذا هو سلاحها الذي تستخدمه في المواقف التي يفترض ان تتكلم فيها لتعبر عن رأيها .

الرواية تصوير لحياة المرأة العراقية ضمن المحيط العائلي والمجتمع الذي تعيش فيه وجدتُ الروائية الاستاذة علياء ذا قدرة عالية في رسم معاناة المرأة والوصول الى ادق التفاصيل في حياتها، فهي خبيرة حقا في حياة المرأة العراقية اذ تكشف عن صور الظلم التي تتعرض لها  .

في رأيي الرواية تأكيد لدور الاستاذة علياء كنشطة في مجال حقوق المرأة، فهي تمارس هذا الدور بأرادة قوية، ورغبة عالية وعزم وتصميم من اجل تغيير واقع المرأة نحو الافضل، وهذا دليل اخلاصها ووفائها لرسالتها الانسانية التي تقوم بها  ارى الاستاذة علياء تمارس دورها الانساني بشكلين الاول كنشطة في مجال حقوق المرأة من خلال المنظمة التي تترأسها، وتمارس دورها الانساني ايضا من خلال كتاباتها الروائية الرائعة والشيقة والتي تعكس واقع المرأة في مجتمعنا، نتمنى للاديبة المتألقة علياء الانصاري المزيد من الابداع في هذا المجال .

جميلة بطلة الرواية، امرأة صبورة صامتة لاجل ان تستمر حياتها هادئة من غير مشاكل (رغبتي في ان اعيش بهدوء دون مشاكل)، دائما تلوذ بالصمت رغم عدم قناعتها به، لان الصمت يعني الاستسلام، يعني الخضوع لارادة الاخرين .

هكذا بقيت جميلة صامتة في حياتها، بقيت قابضة على الجمر، لكنها تكلمت بعد فوات الاوان، بعد ان انتقلت الى العالم الاخر، بدأت تستذكر حياتها الدنيوية، آلامها كرامتها، انسانيتها، حريتها، من لحظة مفارقتها للحياة لحين ايداع جسدها في الحفرة التي اعدت له (القبر)، الوصول الى روح الميت وتشخيص آلامه ومعاناته الدنيوية، هذه ميزة تضاف لمؤلفة الرواية، ودليل على امكانياتها العالية وخبرتها الكبيرة، اذ تغلغلت الى روح جميلة وشخصت ما تعاني منه وتتكلم عنه، اظهرت كلام جميلة الينا وكأن جميلة عادت للحياة من جديد .

الروائية علياء الانصاري تقف مع جميلة في ثلاث محطات، المحطة الاولى وهي مسجاة في بيتها، داخل غرفتها التي احبتها كثيرا اذ دأبت ان لا تسمح لام سعد بتنظيفها، بل تنظف غرفتها بنفسها من شدة اعتزازها بها،  وام سعد هي الخادمة التي تعاملها كأخت لها (لم تشعريني يوما بأني خادمة في بيتك، بل اخت لك وصديقة !)، في هذه الغرفة رقدت جميلة رقدتها الاخيرة التي ستنقل منها بعد ساعات الى غرفتها الجديدة في باطن الارض (القبر)، والمحطة الثانية عند التشييع (ها هو جسدي يحمل على نقالة استقرت على الاكتاف ليغادر بيتي)، والمرحلة الثالثة عندما تصل الى المقبرة، وتوضع في قبرها لتودّع اهلها والى الابد .

من شخصيات الرواية رعد زوج جميلة، صاحب الثروة الطائلة، تتحدث عنه جميلة في مواقف عدة، ومصطفى ابن خال جميلة الذي احبها بصدق ووفاء، بقي محبا لها حتى بعد زواجها من رعد، وصفية اخت جميلة التي كانت مواقفها سلبية من جميلة بدافع الحسد والغيرة، اضافة الى شخصيات اخرى مثل خالد زميل جميلة في الدراسة والذي كان يحبها ايضا رغم علمه انها متزوجة من المحامي رعد،  عزف خالد عن الزواج بسبب حبه لها (كنت استشعر الامان كلما سمعت صوتك لذلك لم افكر يوما بالارتباط بأي امرأة، لأني اعتبر ذلك خيانة لك ولها ولنفسي!) .

هناء ابنتها التي تحمل سرّا كبيرا لا احد يعرف به سوى زوجها رعد، والخادمة الوفية لجميلة ام سعد، وبسبب حبها لجميلة اخفت هذا السر خوفا على جميلة من الصدمة، ولهناء اخوان توأمان هما سعيد ورضا، كانت جميلة تحب اولادها الثلاثة حبا كبيرا،وهناك شخصيات اخرى في الرواية تظهر من خلال سرد احداث الرواية.

الرواية باحداثها الشيقة والممتعة والمفيدة، هي ادانة للمواقف اللاأنسانية التي تتعرض لها المرأة بشكل عام، وهي ادانة وتعرية لموقف الرجل غير المتفهم للمرأة الانسان ودورها في المجتمع، كما اني اعتبر احداث الرواية ادانة لموقف المرأة ايضا من جهتين، ادانة لموقف المرأة التي تصطف مع الرجل بحكم التقاليد والاعراف ضد المرأة الاخرى خاصة الاخرى المظلومة، كذلك ادانة لموقف المرأة ذاتها التي تتخذ من الاستسلام والصمت سلاحا وحيدا لها من دون ان تتكلم وتعبر عن رأيها واستسلامها للمواقف التي تتعرض فيها للظلم، من أي طرف يأتي هذا الظلم .

الرجل هو ضحية الافكار المتخلفة المتوارثة، وضحية التقاليد الاجتماعية البعيدة عن انسانية الاسلام، لان الاسلام هو دين الانسان ويجب ان نبني فهمنا للدين وفق هذا المبدأ، اما التقاليد والاعراف البدوية والعشائرية التي تنظر للمرأة نظرة دونية فهي غير واقعية وغير انسانية وبعيدة عن الاسلام الانساني، قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: (ولقد كرمنا بني آدم) الاسراء، 70 وتكريم الله تعالى هذا للانسان سواء كان رجلا او امرأة، لان الانسان هو ابن آدم، كذلك قول الرسول الاكرم صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه الكرام وسلم (ان اكرمكم عند الله اتقاكم) فالمعيار في التكريم هو التقوى، وليس الذكورة او الانوثة، لكن ثقل التقاليد الاجتماعية المتخلفة والافكار الواهمة هي من يأسر المرأة ويقيد حريتها ويصادر كرامتها وانسانيتها .

الروائية البارعة والمتمكنة علياء الانصاري سلّطت الضوء على هذا الظلم الاجتماعي والفردي الذي تتعرض له المرأة في مجتمعنا من أي طرف يأتي .

استسلمت جميلة لجبروت الرجل وخضعت لارادته وسلطته، دفعا للمشاكل استسلمت لقهر البروتوكولات والعادات الاجتماعية المتخلفة التي تهين المرأة  وتسلب حريتها وانسانيتها، وحتى عفتها في بعض المواقف، مثل ما حصل مع جميلة، عندما حاول ابن خالها مازن التحرش بها، بسبب موقف امها اصبحت جميلة ضحية هذا التحرش، اذ طلبت منها الصمت وعدم التحدث عن هذا التحرش بل حملّتها المسؤولية لأن مازن تحرش بها، واذ تفعل الام ذلك، فهي نتاج التخلف الاجتماعي الذي يحمّل المرأة نتيجة هذا الخطأ في كل الاحوال، تكلمت جميلة عن هذا الموقف (المرة الوحيدة في حياتي التي حاولت فيها الاعتراض يوم حاول مازن ابن خالي التحرش بي ... نعم، في ذلك اليوم فررتُ الى امي، بكيت في حضنها كنت في الخامسة عشر من عمري، واخبرتها، اخبرتها ان ابن خالي جاء في غيابها وحاول التحرش بي ... فما كان جواب امي؟! لقد صفعتني ..)، (هتفت بي وهي تمسك بكتفي بكلتا يديها المرتعشتين : اصمتي يا حمقاء، ما كان الاجدر بك ان تتفوهي بهذه الكلمات) موقف الام هذا كان جواز المرور لجميلة بان تستسلم لمازن وتتحول الى لعبة بين يديه لتحقيق رغباته الجنسية بطريق غير مشروع .

نعم كان عليها ان تصمت وتستسلم في منظور وثقافة امها، وكذلك في منظور التقاليد الاجتماعية المتخلفة، بل حملتها المسؤولية (لماذا يتحرش مازن بك  لا بد انك شجعتيه على ذلك، لا بد انك كنت خفيفة وسهلة المنال حتى فكر ان يتحرش بك) .

موقف الام المتخلف هذا، هو نتاج الثقافة والعادات الاجتماعية المتخلفة، التي تلقي باللوم والمسؤولية على المرأة دائما، وتبرئ ساحة الرجل في مثل هذه المواقف المشينة، موقف الام اعطى لجميلة درسا في الاستسلام والرضوخ لارادة الغير حتى وان كانت هذه الارادة فقدان العفاف (بصفعتك تلك اعطيتني درسا ان لا افتح فمي بأي كلمة او افكر يوما بالاعتراض، فكل ما يحدث لي من قدر عليّ ان اتلقاه باستسلام ...وتكرر تحرشه لي يا اماه لعدة مرات، ولم اعد ارفض، نعم لم ارفض تحرشه، بل استسلمت له، وبمرور الوقت بدأت استأنس به ايضا) .

لم يكن لجميلة رأي، تعودت منذ الصغر ان تقول نعم، لا ترغب جميلة (في الثورات)، انها مسالمة،( تربينا على قول (نعم)، وهز رؤوسنا لكل ما يدار حولنا وحتى وان لم نفهمه او ندرك جدواه) .

للاسف لم تتمكن جميلة من الكلام الا بعد الموت، استعادت شخصيتها وكرامتها وحريتها في الكلام، وشعرت بأنسانيتها المهدورة ! شعرت بكل ذلك بعد مفارقتها للحياة الدنيا، واصبح الجسد الذي هو مصدر الشهوات والغرائز جثة هامدة،يسرع الخطى ليعود الى اصله، الى الارض، الى التراب، من هنا بدأت جميلة تنظر وترى الحقائق كما هي، بموجب قوانين السنن الكونية التي اودعها الله تعالى في الكون الكبير (اما الآن، بعد ان كُشف لي الغطاء، وتحررت من ذلك الجسد المقيت بدأت أرى الاشياء على حقيقتها، سقطت اقنعة، وبانت حقائق .. بدأت ارى اصالة الالوان دون تزويق !) .

في هذه العبارة استشعر الروح الصوفية النقية، التي تكشف عن عمق ايمان جميلة وتكشف عن قدرة الروائية علياء الانصاري في التعبير عن احاسيس الروح المؤمنة ارى استعمال كلمات مثل (كُشف، الغطاء، التحرر من الجسد، ارى الاشياء على حقيقتها) افصاح عن توجه الروائية نحو الروحانية التي مصدرها الايمان بالله تعالى للروائية علياء الانصاري، وكشف لايمانها القوي بآيات الله البينات، الروائية تجسد معنى الاية الكريمة التي تؤكد ان الانسان عندما يتحرر من الجسد، يبدأ يرى الاشياء على حقيقتها، وتتكشف له الامور بشكل واضح وجلي، ويزول عنه الالتباس والشبهة، وهذه حقيقة قرآنية (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق، 22 وهذا الامر لا يتحقق الا بعد الموت، وعبرت الروائية عن هذه الحقيقة القرآنية من خلال التعبير عن احاسيس جميلة في تلك اللحظات ما بعد الموت، وهذه ايجابية نسجلها لصالح الاستاذة القديرة علياء الانصاري .

بهذه البصيرة التي تبدأ بالعمل بعد الموت، وبعد ان يتخلص الانسان من الجسد الذي هو غطاء وحجاب يمنع من عمل هذه البصيرة، تبدأ جميلة برؤية الحقائق وتأخذ حريتها الكاملة في الكلام، وفي التعبير عن آرائها من دون خوف من المشاكل، التي كانت تخشاها وتتجنبها عندما كانت اسيرة الجسد، من هنا بدأت الحياة الحقيقية لجميلة، رسمت الروائية صور احداث الرواية من خلال قراءتها لبصيرة جميلة التي تبدأ بالعمل بعد الموت، لقد اظهرت شخصيات الرواية على حقيقتها من خلال قراءتها لهذه البصيرة .

جميع ما قيل عن شخصيات الرواية هو قراءة لبصيرة جميلة بعد الموت .

التغلغل في نفسية المتوفي وقراءة افكاره والكشف عن بصيرته، استنادا الى الحقيقة القرآنية التي اكدت ان الانسان يتمتع بهذه القدرة بعد الموت، عندما يُكشف عنه الغطاء، وفي تقديري ان الغطاء الذي يحجب الرؤية للبصيرة، هو الجسد الانساني المصنوع من التراب والذي تتركز فيه غرائز وشهوات الانسان، عندما يكشف عن الانسان الغطاء يصبح بصره حديد، أي قوي فيرى حقائق لم يكن بأمكانه رؤيتها عندما كان الانسان اسير الجسد في الدنيا، هذه اللفتة والاشارة الروحية ميّزة وموهبة تضاف الى الروائية القديرة الاخت ام زهراء التي سبرت نفسية وروح جميلة وتغلغلت في تفاصيلها، فنقلت لنا ادق التفاصيل والاحاديث والمشاعر بصورة كاشفة لموهبة الروائية في تصوير الحدث حتى الذي يدور داخل النفس .

نتمنى للاستاذة علياء الانصاري مزيدا من التألق في ابداعاتها سواء على مستوى التأليف الروائي، او كنشطة في مجال حقوق المرأة، وادعو الله تعالى ان لا تكون هذه الحلقة الاخيرة في لقائي مع احداث رواية (وتكلمت الحياة)، واخيرا تحياتي للقراء الكرام، وللاخت الاديبة علياء الانصاري .

 

 علي جابر الفتلاوي

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2115 الاربعاء  09 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم