قضايا وآراء

اغتيال السيد محمد باقر الحكيم .. محاولة لتغييب مشروع الممانعة في العراق / علي المؤمن

من الخصائص الشخصية والموضوعية التي ميزته؛ فبرغم وجود مرجعيات دينية كبيرة وشخصيات إسلامية سياسية بارزة، إلا أن الحكيم كان خلال مرحلة ما بعد سقوط دولة صدام حسين، يمتلك مميزات  قائد المرحلة، كما كان ضماناً لتصاعد قوة  الواقع الشيعي العراقي. وقد لا يكون الحكيم قائداً لمرحلة سابقة أو مرحلة لاحقة بالميزات نفسها، ولكن تلك الأعوام كان يمكن أن تكون الأعوام العراقية التي يقودها الحكيم، والتي سيؤثر خلالها ليس في مصير الشيعة العراقيين وحسب، بل في مصير العراق برمته ونظامه السياسي ودستوره وحكومته المنتخبة. ولكن اغتياله حال دون ذلك. فقد بدأ آية الله السيد محمد باقر الحكيم إستراتيجيته الجديدة بوضوح في مؤتمر المعارضة العراقية في لندن عام 2002، واستمر بتنفيذها مع سقوط نظام صدام حسين وتشكيل مجلس الحكم العراقي وما تلاه من خطوات أثرت في اتجاهات الاحتلال الأمريكي وفي الواقع السياسي العراقي الجديد. و لكن باغتياله تصدع مشروعه بشدة. ولا اقصد هنا مشروع المجلس الأعلى الإسلامي؛ فالمجلس لم يعد بحجم السيد الحكيم بعد عودة الأخير إلى العراق، إذ بات الحكيم بحجم العراق، وتحول المجلس إلى جهاز لتنفيذ مشروعه السياسي.

في مؤتمر لندن؛ و برغم ما قيل عن احتكار المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق لمعظم مقاعد الإسلاميين الشيعة؛ فان السيد محمد باقر الحكيم فرض على المؤتمر و راعيه زلماي خليل زاد  النسبة التي تنسجم مع نسبة الشيعة في العراق( 65% من عدد السكان) ومع ثقل المعارضة الإسلامية الشيعية، وذلك من المقاعد في لجنة المتابعة والتنسيق وغيرها من اللجان.وظلت هذه النسبة معتمدة في المؤتمرات اللاحقة (مؤتمر أربيل مثلاً في عام 2003) وفي مجمل العملية السياسية بعد سقوط نظام صدام، والتي تحولت إلى أمر واقع رضخ له المحتلون أيضاً.ً

وخلال عملية الغزو الأمريكي  للعراق، كان صوت آية الله الحكيم هو الأكثر تأثيراً داخل العراق وخارجه، فقد أثر  موقف الحياد الايجابي الذي اتخذه حيال معركة الأمريكان مع دولة صدام حسين تأثيراً كبيراً في تجنيب الشيعة المحرقة، والتي دعمها الموقف المشترك للقوى الإسلامية الرئيسة، وتحديداً حزب الدعوة الإسلامية، استناداً الى موقف المرجعية الدينية النجفية. وبعد سقوط نظام صدام، كان الأمريكان يخشون عودة الحكيم إلى العراق بالنظر لموقفه الرافض للاحتلال ومشروعه، ولعله القيادي العراقي المعارض الوحيد الذي كان الاحتلال يخشى عودته. ولكنه عاد كأمر واقع أذعن له الأمريكان خلال تفاوضهم الطويل  مع مسؤولي المجلس الأعلى. وكانت عودته إلى العراق حدثاً سياسياً لافتاً، فقد استقبله العراقيون في الجنوب والوسط (المناطق التي مر بها في طريقه إلى النجف الأشرف) استقبال حافلاً.

 

مواجهة الإرث العراقي والإحتلال

لقد عمل السيد محمد باقر الحكيم خلال عامي 2002 و2003 على مواجهة مشروعين أساسيين في العراق، لا يزالان يقضان مضاجع العراقيين، والشيعة تحديداً:

الأول: مشروع الحفاظ على الموروث السياسي والقانوني للدولة العراقية ونظامها السياسي  ونخبتها الحاكمة. وهي دولة تتلخص في حكم النخبة التي تنتمي إلى الأقلية السنية العربية (= 16% من عدد سكان العراق).

الثاني: مشروع الاحتلال الأمريكي وتبعاته السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وهو مشروع يهدف إلى إعادة بناء العراق وإنسانه، وصولاً  إلى المنطقة  الإسلامية برمتها.

وطرح آية الله الحكيم في المقابل مشروعين بديلين:

الأول: مشروع بناء الدولة العراقية ونظامها السياسي ودستورها على أساس الاستقلال ورفض التبعية للخارج بكل أشكالها، ورفض الاستبداد والطغيان والدكتاتورية، واستثمار آليات الديمقراطية وتحقيق العدالة ورفض كل ألوان التمييز القومي والطائفي، وتطبيق مفهوم المواطنة العراقية المتساوية في الحقوق والواجبات، والاحتكام للشريعة الإسلامية وإحكامها في مجالات الحياة كافة، وأن العراق دولة عربية مسلمة، وما يترتب على ذلك من مبادئ وأصول. وكان حازماً بشكل لافت في طرح هذا المشروع. وظل الحكيم يعمل على منع أية  مضاعفات  طائفية وقومية قد تنشأ جراء ذلك ؛ بالنظر لما يحظى به من مقبولية من الأكراد والعرب السنة من غير المرتبطين بالنظام السابق.

الثاني: مشروع مقاومة الاحتلال الأمريكي بكل الوسائل، إلا انه لم يرجح المقاومة المسلحة في تلك المرحلة، وكان يرى أن أولوية المرحلة تكمن في المقاومة السياسية والإعلامية والمدنية، سواء من داخل السلطة المتعاملة مع الاحتلال أو من خارجها، وكان مشروعه كما عبر عنه في ممارساته السياسية وخطبه، ولاسيما خطب صلاة الجمعة في حرم الإمام علي، مستوعباً الخطورة الشديدة التي يتضمنها المشروع الأمريكي في العراق، وعلى المستويات كافة، ولذا لم يكن يتردد في مهاجمة الأمريكان في اللقاءات الخاصة والعامة. وفي المقابل لم يكن الأمريكان يخفون انزعاجهم منه، برغم اضطرارهم التعامل الايجابي مع ممثليه، ولاسيما ممثله في مجلس الحكم المرحوم السيد عبد العزيز الحكيم.

 

المتضررون من غياب السيد الحكيم

قبل الوقوف على  طبيعة دوافع  الجهات المستفيدة من خلال الوقوف على حيثيات القضية؛  نشير إلى الجهات الخاسرة فيها؛ أي الجهات التي تضررت بشدة من غياب الحكيم عن المسرح السياسي في العراق:

1- شيعة العراق؛ ولا سيما المشروع السياسي الإسلامي الشيعي، فمقتل الحكيم وجه ضربة قوية لشيعة العراق ومشروعهم، سواء الخاص بمقاومة الاحتلال أو بناء الدولة العراقية الجديدة على أسس مختلفة كليا عن الأسس التي بني عليها مشروع السلطة الطائفية في العراق منذ حوالي 1350 عاما. وهكذا وقع اغتيال آية الله السيد محمد باقر الحكيم في مرحلة حرجة للغاية، بل في أشد المنعطفات التاريخية أهمية بالنسبة للعراق عموماوالشيعة خصوصا. ولعل هذا المنعطف الذي مثَل مرحلة القطاف وإعادة بناء العراق، يقترب في خطورته من المنعطف الذي خلقه السيد محمد باقر الصدر وقتل فيه. ومن هنا شكّل غياب الحكيم كارثة سياسية على الشيعة.

2- إيران؛ ولا سيما العلاقات بين شيعة إيران وشيعة العراق؛ فمشروع السيد الحكيم كان يمثل منتهى القبول في مختلف الأوساط الإيرانية ، سواء الدينية أو السياسية، وكان يحظى باحترامها، بل كان الحكيم من أهم الشخصيات الإسلامية العربية التي دعمت مشروع الجمهورية الإسلامية الإيرانية على أكثر من مستوى، من منطلق إيمانه الفقهي والعقائدي بالقواعد التي قامت عليها الجمهورية الإسلامية،إضافة إلى ساحة معارضتهما المشتركة لنظام صدام حسين، أي أنها علاقة دعم متبادل وإيمان مشترك بالآخر. وبالتالي وجّه غياب السيد الحكيم ضربة عنيفة إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالمقاييس السياسية والمعنوية، والى رؤيتها للوضع العراقي، والى العلاقات الإيرانية - العراقية.

3- شيعة الدول العربية؛ لكون السيد الحكيم زعيماً وفقيهاً شيعياً عربياً، يقيم في الموطن التقليدي للحوزة العلمية، وكان من شأن تكريس موقعه القيادي الديني والسياسي في العراق  إعطاء دفع سياسي كبير للشيعة في البلدان العربية، ولا سيما في المنطقة الخليجية؛ بصيغة لا يكون معها مرفوضاً حتى من قبل حكوماتها؛ بالنظر لعلاقة الاحترام المتبادل التي تربطه بهذه الدول، وإدراكها أهمية الدور التوجيهي المتوازن الذي يمكن أن يمارسه السيد الحكيم في رعاية الواقع الشيعي.

-4دعاة التقارب السني - الشيعي؛ فالسيد الحكيم عمل منذ بداية الثمانينات على دعم مشاريع التقارب السني - الشيعي، والوحدة الإسلامية، سواء على مستوى العراق والعالم الإسلامي. وكانت أطروحة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق - التي تحولت فيما بعد إلى مشروعه الخاص- هي الأطروحة الإسلامية الشيعية الوحيدة التي ضمت في صفوفها سنة عراقيين، كما لم يكن انتخابه عام 1992 رئيساً للمجلس الأعلى للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، والذي يضم في عضويته عدداً من كبار علماء المسلمين السنة والشيعة من مختلف البلدان الإسلامية، صادراً من فراغ، بل لما عرف عن الحكيم من شخصية وحدودية، ولعلاقته الوثيقة بعلماء الدين والمفكرين الإسلاميين السنة في العراق والبلدان الإسلامية الأخرى. وكان من شأن استمرار السيد الحكيم في تطبيق رؤاه الوحدوية؛ تفتيت محاولات تمزيق النسيج العراقي طائفياً ومحاولات تكريس سوء الفهم بين الخطاب الإسلامي الشيعي العراقي والخطاب الإسلامي السني العربي.

 

الجهات المستفيدة من غياب السيد الحكيم

كان اغتيال السيد محمد باقر الحكيم (ضربة معلم) كما يقولون؛ فمن خلالها حقق المستفيدون كثيراً من أهدافهم. وبصرف النظر عن الجهة التي تقف وراء اغتيال السيد الحكيم (سواء جماعة القاعدة وفقاً لاعتراف الزرقاوي أو بقايا النظام البعثي السابق أو جهات أميركية وفقاً للتحليلاتفإن الأهداف الرئيسة وراء الإغتيال تعبر عنها توجهات المستفيدين من تغيبه؛ ولعل منها:الثأر منه شخصياً؛ لكونه ظل طوال اثنين وعشرين عاماً أهم قيادي معارض لنظام صدام، ومساهمته الأساسية في ضرب دعائم النظام السياسي العراقي القائم على الآيديولوجيا الطائفية - القومية منذ مئات السنين، وكذلك إحداث فراغ قيادي في الوسط الإسلامي الشيعي، وإضعاف الشيعة ومشروعهم السياسي، وأحداث فتنة طائفية بين سنة العراق وشيعته، وإضعاف العلاقات الشيعية الإيرانية - العراقية، وإزاحة عقبة أساسية أمام المشروع الأميركي الشامل في العراق.

هذه الأهداف تعبر عنها توجهات عدد من الجهات المستفيدة من غياب السيد الحكيم، وهم أصحاب المشاريع الثلاثة التي سبق الحديث عنها: مشروع التمسك بالموروث السياسي والقانوني للدولة العراقية (حكم النخبة التي تنتمي إلى الأقلية السكانية) وهم خليط من بقايا النظام السابق وبعض القوميين والسلفيين، ومشروع الاحتلال الأميركي والذي تمثله أجهزة الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، ومشروع بعض القوى السياسية الجديدة التي اخترقت العملية السياسية بعد سقوط نظام صدام. من هنا يمكن إجمال الجهات المستفيدة في اغتيال السيد الحكيم:

1- الولايات المتحدة الأميركية: هي المستفيد الأبرز على المستوى الإستراتيجي، حتى لو لم تكن على علاقة بالاغتيال؛ لأن السيد الحكيم كان يجاهر برفضه الكامل للاحتلال الأميركي، ويحرم أي تعاون معه. ولم يكن المحتلون يخشون بقايا النظام السابق والجماعات التكفيرية بقدر خشيتهم من حركة السيد الحكيم خصوصاً، والإسلاميين الشيعة عموما.

2- بقايا النظام البعثي السابق: هذه البقايا مستفيدة أيضاً  من غياب الحكيم على المدى القصير؛ لان النظام انتهى في الواقع، ولن يجني عناصره فائدة على المدى البعيد من العملية. ولكن الدوافع تكمن في أن الاغتيال يعبر عن ثأر قديم - جديد، فضلا عن أن الحكيم كان يؤكد باستمرار على سياسة اجتثاث البعث في العراق، مع الأخذ بالاعتبار عدم شمول غير المتورطين بأعمال القتل والجريمة بهذه السياسة.

3- الجماعات السلفية التكفيرية: وهي مستفيدة على المدى القصير أيضاً؛ لعدم إمكانية استمرار هذه الجماعات في العراق، وفقاً لطبيعة المجتمع العراقي. وتعمل بعض هذه الجماعات بشكل مستقل، فيما تحالف الآخر مع بقايا النظام السابق، وأهمها جماعة القاعدة التي يقودها الزرقاوي الذي أعلن مسؤوليته المباشرة عن اغتيال الحكيم.

4- بعض الجماعات والشخصيات العراقية المعادية للتغيير الذي حصل في العراق؛ ولكنها اخترقت العملية السياسية وأصبحت جزءاً منها. هذه الجماعات ايقنت بأن ثقل السيد الحكيم ومناهضته الاحتلال وتبنيه مشروع الدولة العراقية الجديدة وتقدمه القافلة السياسية الإسلامية الشيعية، يمثل عقبة أمام صعودها السياسي باتجاه هرم السلطة. هذه الشخصيات هي الأخرى مستفيدة من غياب الحكيم على المدى الاستراتيجي.

إن رجلا بهذا الحجم والعقلية، كان من المؤكد أن معادلات الواقع العراقي التي تزداد تعقيدا وتتفاعل في مرجل ضخم يعمل بكل طاقته وعلى مدار الساعة، كان من المؤكد أنها ستعمل على تغييبه، ولم يكن موضوع اغتيال  محمد باقر الحكيم خارج دائرة التوقع؛ لان هناك الكثير ممن كان يهمهم جداً أن لا يبقى الحكيم حاضراً  في تحديد مصير العراق ومستقبل شعبه، ولا سيما مستقبل الشيعة؛ لأن بقاءه يشكل عائقاً أمام تنفيذ مشروعاتهم.

والمفارقة أن تمر كل هذه الأعوام على اغتياله دون أن يكشف عمن يقف وراء عملية الاغتيال. صحيح أن القيادي في منظمة القاعدة أبا مصعب الزرقاوي أعلن في رسالته التي نشرت خلال نيسان/ ابريل 2004 مسؤوليته عن العملية، إلا أن منفذي العملية لم يعلن عنهم، فضلاً عن الكشف عن ملابسات العملية وخيوطها والدور المكمل للآخرين فيها (من غير جماعة القاعدة)، برغم ما قيل عن القبض على بعض المشتبه بهم، وهو خلل كبير في ملف القضية ومتابعتها.

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2131الجمعة  25 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم