قضايا وآراء

قراءة في نص (رسول ضائع) للشاعر عبد الزهرة زكي / ذياب شاهين

إذ يعني أن النص هو نسيج الفراغات البيضاء، وهذه الفراغات تحتاج الى إملاءٍ من قبل قارئ متعاضد (نموذجي)، وإذ يشي النص بآليةٍ كسولة تصرح بأن المؤلف هو في واقعة استراتيجية نصية تتصف بالحذلقة والتكثيف نائياعن التعليمية الفجة، وهذا ناتج من أن النص جماليا يشتغل في مستوى أعلى من الخطابية والتعليمية، فالنص حين يسمو الى ما هو جمالي وظيفيا، فإن قارئا نموذجيا يجد له مكانا في التأويل وملأ الفراغات أعني أن القارئ سيظهربوصفه استراتيجية نصية تقف إزاء المؤلف بوصفه فاعلا لملفوظ بالإضافة إلى صياغته قارئا ضمن فرضية تنطوي على عبارات ستراتيجية تعود إليه وحده/ أي إلى المؤلف/ ، وهذا يحيل إلى حقيقة أن المؤلف يمثل فرضية تأويلية يرسمها القارئ بفعل كونه فاعلا ملموسا لأفعال التعاضد، إن القارئ النموذجي يفعّل النص باعتباره سلسلة من العمليات النصية، وهذا يتطلب فهما شبه كامل لشفرات أو مرموزات المرسل من قبل القارئ، إن وجهة نظر  " ايكو" في رسم القارئ النموذجي في تحليله للحكايات الصغيرة يتكئ على سيميائية "بيرس" التي تعمل ضمن فضاء كوني وأرضية ذاتية محض، أي تحاول ربط العادة البشرية بكونها صياغة تعتبر العلامة حكما عملانيا بعادة كونية، حيث يتطلب وضع المادة وجود كلمات معينة تشير إليها وكأنها قد تصرفت على صورتين أي دال صوتي ومدلول مادي، ولكن النص عند "بارت" هو نسيج الكلمات المنضومة في التأليف، وينظر/ بارت/ الى النص أو يشبهّه بالعلامة  فالمعنى الأصلي للنص يقابل المدلول، ومادية الحروف وتسلسلها يقابل الدال فيها أي في العلامة، ولكن إذا كانت العلاقة بين الدال والمدلول اعتباطية بالمفهوم السوسيري، فإنها ولا شك ستتصف بالقصدية في حالة النص لارتباطها تخليقيا أو صناعيا بالمؤلف، إن جمع التعريفين أي تعريف / ايكو/ للنص أو(نسيج ما لا يقال) مع تعريف/ بارت/ للنص أو( نسيج الكلمات المنظومة) في التأليف سيكون مفيدا في بحثنا المقتضب،  هذا سينتج تعريفا للنص يفترض في أن النص هو  نسيج الكلمات المنظومة في التأليف لما لا يقال، و بكلام آخر إن النص عبارة عن دال لعلامة أخرى ولكنها مقلوبة، أي إن النص عبارة عن نسيج من الملفوظ وهو كما يراه "بارت" في بنيته النصية (دال ومدلول) يشتغل وظيفيا كدال لنص آخر غير متخلق أو منجز ولكن بصيغة  مقلوبة (كمدلول لدال)، وهذا ما سنفصله في نهاية قراءتنا لنص الشاعر عبد الزهرة زكي/ رسول ضائع/ بصورة محايثة.

 

عتبة النص

لا بد من طرح سؤال أول حول عتبة النص وهو: أدال للنص هي العتبة ؟ أم هي مدلوله؟ وهذا يؤدي الى قراءة للعتبة باعتبارها موجها قرائيا، ولكن قد نسأل مرة أخرى هل أن الشاعر ثبت العتبة باعتبارها موجها قرائيا، أو (ثريا النص) حسب تعبير القاص (محمود عبد الوهاب) قبل أو بعد انجاز نصه، ولا شك فالإجابة على هكذا اسئلة سيكون صعبا من قبل القارئ حتى لو كان هذا القارئ نموذجيا، ولكن ثريا النص (رسول ضائع) مستلة من النص وهذا يقدم مفتاحا على أن الشاعر قد اختار ثرياه بعد أن أنجز نصه، ولكن يمكن أن تمثل العتبة دالا أو مدلولا للنص،  فالعتبة كما أسلفنا تتألف من ملفوظين هما (رسول ضائع) حيث يحيلان إلى الناي في الجملة الأخيرة من النص(ناي رسول ضائع)، وبالطبع فالناي بوصفه رسولا ضائعا يحيل إلى مدلولين بحسب النص أولهما روحيٌّ متعالٍ والثاني أرضيٌّ متهاوٍ، ويلبس رمزين أحدهما (ذكوري) يختفي وراءه الرجل والثاني أنثوي تختفي وراءه المرأة، وهو الرمز الفريد الذي يحيل  على الذكورة والأنوثة معا، إذ يتضمن الذكورة من خلال شكله الذي يشبه القضيب وكذلك يشير  للأنوثة لأنه مثقوب، ومن هنا سيكون هذا الناي الرسول ضائعاً، لأنه معلق بين رغبتين أحداهما سماوية روحية، والأخرى أرضية غير مقدسة، هذا الرمز يمثل عبودية للرجل وحرية للمرأة وقد ينطوي على ما يضاده لكل منهما، إن الصوت السماوي للناي يجعل منه وسيلة للأرواح كي تحلق للسماء من خلاله، والانطلاق للسماء تنشده الفتاة الحرة، ولكن الفتى العبد ينشد من خلاله جسد الفتاة وهي رغبة أرضية ومن هنا ينشأ الصراع بين الفتى العبد والفتاة الحرة.

الفتى العبد هو من يمتلك الناي، ولكن هذا الناي لا يعمل بدون وجود للفتاة، وعلى هذه الفكرة يبنى الشاعر قصيدته وهو ما سنلاحظه في متن النص.

.

 

متن النص

يتألف هذا النص من ثلاثة مقاطع متواشجة ومتعالقة حيث نقرأ في المقطع الأول:-

 

بنايهِ

الفتى العبدُ يتوسلُ الفتاةَ

الحرّة

في المرجِ.

 

يبدأ الشاعر نصه النثري بجملة متألفة من جار ومجرور(بنايهِ) وضمير الغائب الذي يعود لملفوظ (الفتى) في الجملة التالية ( الفتى العبد..)، إن المقطع الأول يمثل مشهدا تصويريا بحتا رسمه الشاعرمن خلال كاميرته بحساسية مرهفة/ تكثيف وتبئير شديدان/ حيث يظهر في الصورة(مرج، فتى، فتاة، ناي) وهذه الصورة تخلق صورا أخرى في ذهن المتلقي، فالشاعر يريد أن يقول لنا شيئا آخر مختلفا عما ترسمه الكلمات، إذ هنالك فتى ولكنه عبد( مفرد عبيد) رغم امتلاكه نايا والناي( عنصر ذكوري)، وهذا الفتى يعزف على نايه، حيث يعرض رجولته وذكورته متوسلا الفتاة الحرة في المرج(الحياة)، أي إن النص يشتغل ضمن ثنائيات متعددة من مثل (فتى - فتاة)، وثنائية (عبد- حر) وكذلك ثنائية (ذكر - أنثى) وكذلك (يملك - لا تملك)، إن القراءة  تكشف لنا سر عبودية الفتى وهي أنه يمتلك نايا( الرجولة والسلطة) ولكن حرية المرأة تكمن في أنها لا تملك شيئا رغم أنها تمتلك شيئا (الأنوثة)، ولكن الأنوثة لا تمثل السلطة إذن هي ليست أسيرة بل هي حرة، ولكن سلطتها تتبدى في جانب آخر مسكوت عنه (...)، إذن فالذي يتوسل هنا هو الفتى العبد عن طريق الناي(عنصر الرجولة)، بينما التي تتمنع هي الفتاة الحرة وهذا التمنع ليس عدم رضا بل هنالك شروط كي يتحول الى رضا وانسجام وهذا ما يظهره النص في مقطعه التالي:-

 

هي طائرةٌ بالناي

وهو يريدُ بلوغَ الأرضِ به

 

وهذا المشهد رسم بسحرية بارعة، ورغم أن الكلمات تشي بالهدوء في ظاهرها ولكن هنالك صراعا مريرا في المشهد بين الفتاة والفتى، فلكل منهما وجهته، والناي وسيلة كل منهما للوصول الى هدفه ولا غنى لهما عنه فهي تبغي السماء وهو يريد الأرض، وهما عالمان مختلفان فالعالم السماوي هو غير العالم الأرضي فالفتاة الحرة تطمح بعالم جميل وسحري متمثلا في (عودة سلطة الآلهة الأم) والفتى العبد يريد أن يبقيَ على سلطته وهي سلطة تقوم على بناء القلاع وتدريب الجنود وتكوين الجيوش، هي تريد عالما يعمه السلام لتحتاز سلطتها عن طريق عالم الأمومة الجميل وتربية الأطفال، وهو يريد زج الأبناء في التدريب لخلق رجال أشداء ومقاتلين لتعزيز سلطاته، فالشاعر يريد القول إن عالما يمتلك زمام الأمور فيه الرجال سيكون عالما داميا، والعكس صحيح أيضا، وهذا العالم الجميل الذي يحلم به الشاعر يبدو غير وارد وهذا ما يشي به المقطع الثالث:-

فتى عبد وفتاة حرة

وبينهما

ناي

رسول ضائع.

 

والشاعر قد رسم المشهد الأخير بصورة عمودية ليحيلنا إلى حقيقة ما زالت قائمة تتمثل في أن عالم الأرض ممثل بالفتى العبد وهو السائد، سيبقى أسيرا لسلطته وهي سبب خوفه وشقائه الدائم، والشاعر يعمد إلى تقنية بصرية في عرض رؤاه في بناء جمله الشعرية ورصفها، ففي المقطع الأول يبدو وكأن الفتى العبد والفتاة الحرة في مستوى واحد من القوة(الفتى العبد يتوسل الفتاة)، وفي المقطع الثاني قدمها (أي الفتاة) على الفتى  حين قال(هي طائرة بالناي) وهو يريد بلوغ الأرض به، وهوما يحيل الى رغبة عارمة لعودة سلطة الآلهة الأم والتحليق بها عاليا، ولكنه أي الشاعر يرسم الأمر أخيرا في المقطع الثالث عن طريق كتابة المقطع بصورة متتالية مقطعيا، ويضعهما في المستوى ذاته لكنه يقدم الفتى على الفتاة، وهذا يؤكد أن الشاعر يرى الفتاة تأتي بالمنزلة الثانية بعد الفتى ويضع كلا منهما في درج لوحده ويفصل بينهما بحرف الواو(واو العطف)، إلا أن الناي يبقى بمرموزاته الالأرضية والروحية الأداة التي تفصل بينهما حينا وتجمعهما حين، وكأنه يريد القول إن الصراع مستمر وستبقى سلطة الرجل سائدة برغم توسله، فالنص أوصل الينا بكلمات قليلة أشياء كثيرة، إن قصيدة النثر عند الشاعر "عبد الزهرة زكي" تتوسل الثنائيات والجمل القصيرة المكثفة وكذلك تعمد على توظيف الفضاء (فضاء النص) في تعميق مفاهيمها ورؤاها المنطوية على مرموزات خاصة تحتاج الى قارئ من نوع خاص ليسبرغورها، وستختلف القراءة باختلاف القراء

 

خاتمة

إن النص الذي كتبناه كان غير متخلق أومنجز لغاية قراءتنا النص الشعري، وهو بالصيغة هذه يعبر أو يشتغل بوصفه مدلولا للنص الشعري أي يؤلف علامة معه، ولكننا ننظر إليه بوصفه علامة قائمة بذاتها ضمن قائمة من النصوص لكنه يتمظهر بوصفه نسيجا من الملفوظات، وهو كبنية نصية عبارة عن (دال ومدلول) حسب تعبير (رولان بارت)، وهو أيضا يشتغل بوصفه دالا لنص آخر غير منجز أو غيرمتخلق قد ينجزه قارئ نموذجي آخر، إذن تتكون لدينا سلسلة نصية تبدأ بنص الشاعر ليكون علامة (دال ومدلول)، ويشتغل دالا لنص آخر (دال ومدلول)، وهذا النص يشتغل مدلولا لنص الشاعر ودالا لنص آخر أي يكون علامة نصية مقلوبة (مدلول ودال)، وهذا ما نفهمه من نظرية النص التي هي ترى في النص عبارة عن توالد نصوص من نص أو مجموعة نصوص قبلها  بصورة سيميائية.

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2138 الجمعة  01 / 06 / 2012)

في المثقف اليوم