قضايا وآراء

المتن المعرفي في الثقافة العراقية .. رؤية نقدية

وأنساق الفكر الأخرى يعد من العلامات الفارقة في نهضة الشعوب وتطورها، وهي متون لا تقل شأنا عن المتن الأدبي في التعبير عن ذات أي امة من الأمم تسعى لتحقيق نموها التكاملي، فمثلما الشعر والقصة والرواية والمسرح والسينما، وباقي المتون المختلفة حاجة أصيلة وضرورية، كذالك تكون الحاجة إلى فكر ومتن معرفي متطور ومتحرك باستمرار يساعد الشعوب على نهوضها المطلوب حضاريا .

من هنا، هل استطاعت الحياة الثقافية العراقية والقائمون عليها تحقيق ثنائية (المعرفي والأدبي) في المشهد الثقافي العراقي؟.

قد يعترض معترض ويقول: إن عدم تحقيق هذه الثنائية الثقافية – التي أقولُ بها – ليس حكرا على المشهد الثقافي العراقي، بل أن المنطقة العربية والإسلامية برمتها واقعة تحت وطئة تهميش المتن المعرفي، ولأسباب تاريخية عاشتها المنطقة.

صحيح، وكلنا يعرف أن وأد العقل ومنجزه المعرفي في منطقتنا العربية والإسلامية تم بشكل نهائي على يد الخليفة العباسي المعتصم (833-842 م) وابنه المتوكل لصالح الاتجاهات النصوصية الدينية، والأدبية الباهتة الداعمة لاستبداد سلطة الخلافة، السياسي والديني، وحل بعدها السلفيون النصوصيون محل المعتزلة التنويريين، وذاع صيت أحمد بن حنبل ومن بعده ابن تيمية وابن قيم الجوزية وآخرين على حساب المعتزلة والفلاسفة العقليين، واستمر هذا الوأد في كل المراحل اللاحقة، سواء في الدويلات الإسلامية المتشرذمة ووصولا للخلافة العثمانية، وبهذا قضي على كل بارقة أمل، تراكمُ المنجز العقلي المشتِغل على ما هو فلسفي واجتماعي واقتصادي وسياسي، الذي لو تم – هذا التراكم – لجعل الأمة العربية والإسلامية متوفرة على إمكانيات نموها الحضاري، ولقد ساد هذا الوأد حتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.

بعدها شكل تهالك الخلافة العثمانية والفسحة التي تأتت لبعض نخب الثقافية العربية في الإطلاع على تجارب الحضارة الغربية بارقة أمل في نهوضنا من جديد كأمة تحترم العقل ومعطياته الفكرية، وتأخذ عنصري الزمان والمكان "المتغيران" مدخلا حتميا وأصيلا في إنتاج متنا معرفيا يواكب التجدد والحداثة باستمرار، ليكون قادرا بعد انجازه كمتن معرفي على تحقيق سعادة حُرمت منها منطقتنا لقرون مديدة، وهذا ما حققته آنذاك "وبنسب معقولة" النخب التنويرية التي انطلقت في أواخر القرن التاسع عشر، والتي كانت تعيش في منطقة، قاعيّة تخلفها شديدة العمق.

فحركة التنوير الثقافي، التي خرج أصحابها من المؤسسات الدينية! في مصر والشام والعراق، وأجزاء أخرى من باقي المنطقة العربية، اقتحمت – هذه الحركة – موضوعات هي من اخطر الموضوعات التي لا تروق آنذاك لجماعة النصوصية الدينية والاستبداد السياسي المعادية للعقل ومنجزه المعرفي،  ومنذ أن أسست هذه النصوصية الدينية وتم ارتباطها بالمستبد السياسي في زمن المعتصم وابنه المتوكل.

فما قام به المصريون: من رفاعة الطهطاوي (1801-1873م) ومحمد عبده (1849-1905م) وعلي عبد الرازق (1888-1966م) وآخرين من الاشتغال على مفاهيم: الحرية/ الدولة المدنية/ الإصلاح الديني والاجتماعي، وسعي هؤلاء في إعلاء شأن العقل وتطوير العلوم ونقد الاستبداد والدعوة لفصل الدين عن السياسية كما حصل بشكل واضح عند علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) فكل هذا الاشتغال المعرفي جعل الحياة الثقافية المصرية تزدهر بشكل مقبول آنذاك، وأصبحت الاشتغالات المعرفية العقلية سمة من سمات أواخر القرن التاسع عشر إلى الثلث الأول من القرن العشرين، بعدها شكل الثلث الثاني من القرن نفسه بداية انتكاسة جديدة لمشروع التنوير العقلي على يدي التحالف النصوصي/ السياسي الذي انطلق من جديد في ثلاثينيات القرن العشرين، لكن هذه المرة لم يستطع هذا الثنائي المتحالف أن يقضي على اشتغالات التنويريين المصريين بشكل تام، كما حصل في التحالف الأول الذي انعقد بين النصوصيين وبين السلطة السياسية ( المعتصم والمتوكل) في عموم المنطقة العربية والإسلامية، والذي قضى بشكل تام على الاتجاهات العقلية في وقتها.

فمصر ما زالت تنبض بالمفكرين العقليين "وهم كثر" واذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: سعد الدين إبراهيم/ نصر حامد ابو زيد/ سيد محمود القمني، الذين يصرون على استمرارية الاشتغال في المتن المعرفي، رغم فتاوى التكفير ومحاربة السلطة لهم، وسجلت في مؤازرتهم منظمات المجتمع المدني والاتحادات الثقافية صورة مشرقة تبعث على التفاؤل والاحترام لهذه المؤسسات التي تصارع من اجل استمرار الحياة الثقافية المصرية.

إن ما يميز الاتحادات والمؤسسات الثقافية المصرية هو تحفزها الدائم والدؤوب في الدفاع عن قضاياها، وهي مؤسسات لم تستسلم لترهيب وترغيب السلطتين "الدينية والسياسية"  وبهذا استطاع المثقف المصري الغير منتمي "للسلطتين" أن لا يتراجع أو يخاف من إتمام مشروعه ومنجزه الثقافي المعرفي مع كل ما جرا عليه من تكفير وتهديد

أما في سورية وفي حلب على وجه التحديد برز المصلح الشيخ عبد الرحمان الكواكبي ( 1854- 1902م) الذي ناضل فكريا وضميريا ضد الاستبداد بكل أشكاله، الديني والسياسي والاجتماعي، فاستبداد الحاكم والفقيه والاستبداد الأسري كلها عناوين سبر أغوارها الكواكبي في كتابه ( طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ) ومارس النضال فعليا لصالح الحرية والحياة الدستورية، ولم يغفل الكواكبي في تحميل الفئات الاجتماعية مسؤولية المشاركة في ترسيخ الاستبداد وعدم زواله، فعدم سعي هذه الفئات  نحو العلم والمعرفة وخمولها وعدم نضالها في استرجاع حقوقها المدنية هو من أهم أسباب استبداد الحاكم عند الكواكبي.

ومثلما انتكست مصر في عدم إدامة وتجذير التجديد الفكري والمعرفي في الحياة المصرية وتحويله إلى مشروع حياة على المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كذالك انتكست الشام  ، وبقيت الشام الثقافية تصر – كما مصر – على وجودها المعرفي والفكري بعد الكواكبي وآزرت رموزها الثقافيين رغم انف السلطة السياسية والدينية، ولا ننسى لبنان الذي يشكل وسوريا روح ارض الشام الثقافية الحاضرة دائما بالمتن المعرفي للثقافة، فأسماء مثل: (حسين مروة / محمد مهدي شمس الدين/صادق العظم/ مهدي عامل/ محمد حسين فضل الله/ جورج طرابيشي/ علي حرب/ عزيز العظم/ برهان غليون وغيرهم الكثيرون) أبقت منجز الشام المعرفي والفكري مصرا على الحياة رغم المحاربة لهذا المنجز الإبداعي  ورجاله، ومن هذه السماء من اغتيل بسبب ما أنتجه من فكر ومنهم من هو محارب لهذا اليوم من جماعات النصوصية الدينية والاستبداد السياسي .

أما المغرب العربي فيصر اليوم وبشكل جاد أن يعيد زخمه الحضاري الذي أوجده ابن رشد وابن الطفيل وابن سبعين في الثقافية العربية ومتونها المعرفية، فما العروي واركون والجابري وبلقيز وآخرين إلا أسماء تزخر بالعطاء الثقافي الذي يقدم للثقافة العربية والمنطقة المغاربية متنا معرفيا يستحق الثناء .

 

العراق "ختامها المسك "

البلد الإشكالي الذي انبثقت منه عناصر النهوض العربي الإسلامي في زمن كان الخراب الثقافي يعم اغلب مفاصل المعمورة البشرية، ففيه أخذت اللغة مبانيها المعرفية وفيه نشأت مدرسة القياس والاستحسان الفقهي العراقية الصرفة، وعلى ضفافه فاض العقل بمدرسته المعتزلية الرائعة، ومنه انبثقت الفلسفة العربية الإسلامية والطب والكيمياء، وعلى يد أبناءه تمت الترجمات، وقبل العصر العباسي الأول الذي تمت فيه هذه القفزة المعرفية العالية كان العراق يبشر بأول تأسيس تداولي على مستويي المفاهيم والموقف السياسي العملي، فعندما نقرأ الإمام علي بن أبي طالب نتبين أن الحياة كانت تسير نحو نموها الايجابي في العراق وباقي المنطقة، الذي لو اكتمل – هذا النمو – واخذ شكله الانسيابي والحياتي لاختلفت الصورة، عن الصورة التي نعيشها اليوم والقائمة على التدليس الفكري والسياسي، الذي يأخذ من مواد وفقرات التاريخ البائسة حجة لشرعية الاستبداد والتخلف، ويبن لنا النص الآتي لعلي بن أبي طالب والذي يؤصل فيه لروح المشاركة ونبذ الاستبداد الفكري والسياسي، والذي قاله وهو في حالة حرب كانت تقتضي وفق منهج الحكم المطلق المستبد أن " لا صوت يعلو على صوت المعركة " يقول الإمام : " لقد كنتُ أمس أميراً فأصبحت اليوم مأموراً، وكنت أمس ناهياً فأصبحت اليوم منهياً. وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون " أذن كيف  يكون العراق والمنطقة برمتها لو تأصلت وتجذرت هذه الرؤى التداولية في  الفكر والسياسية داخل الحياة العربية الإسلامية .

 

هذا هو العراق بإرثه المعرفي والإنساني الكبير ، فأين هو اليوم ؟ .

ذكرنا في أول المقال: إن العراق مر بنفس ما مرت به المنطقة العربية من انحطاط فكري ومعرفي لصالح اتجاهات النصوصية والسلفية الدينية في عهدي المعتصم والمتوكل، اللذان دفعا السلفية الدينية لتسيد المشهد الثقافي والديني لأجل ضرب الثورات الفكرية والسياسية في عهديهما ، ومثلما عاشت مصر والشام وباقي المنطقة العربية عصر التنوير الثقافي في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين عاش العراق هذا العصر وأنجب رجاله لهذه الحقبة : (محمد حسين النائيني1276-1355 هـ /عبد الكريم الزنجاني( 1878- 1965م)/ حسين الحمامي ت 1959م / محمد رضا الشبيبي 1889- 1966 م/ محمد رضا المظفر 1904- 1964م/ محمد حسين كاشف الغطاء 1294 ــ 1373 هـ  وآخرين) فهؤلاء سبروا أغوار متون الفكر السياسي والفلسفة والإصلاح الديني والاجتماعي بقدرات متميزة وأصيلة .

كثيرا ما أقف بذهول عند جمل فكرية أقرؤها وهي ليست من نتاج عقود الحداثة التي نعيشها اليوم واسلم في قرارة نفسي إن المفكر التنويري في أي زمان ومكان تضعه يستطيع إن ينتج خيرا معرفيا للبشرية، فهذا النائيني العالم النجفي والثائر العشريني يطرح رؤيته التنويرية في بداية القران العشرين بكل ثقة وبدون وجل أو خوف من احد ويتناول موضوعات حادة تمس السائد والراكد من القناعات الدينية والسياسية ويعمل على تفكيكها وإعادة صياغتها ليخلق بعدها مشروعا فكريا قابلا للحياة ويستحق الصمود والدفاع عنه.

فالنائيني لم يخف أو يرتعش  من أن يذكر إن الاستبداد الديني هو اشد خسة ووطئة على الشعوب من الاستبداد السياسي فهو يبين أن الاستبداد السياسي لك أن تنازعه وتكشف زيفه لان منطقة اشتغاله هي معاشات الناس وحقوقهم المسلوبة لصالح المستبد الحاكم الذي لا يشرعن هذا الاستبداد باسم الله وإنما استبداده متأتي من سطوته وتنكيله بالناس، أما الاستبداد الديني فهو يضع" الله جل جلاله" بينه وبين منتقديه ،وفي رسالته ( تنبيه الأمة وتنزيه الملة ) يقول النائيني في الاستبداد الديني والسياسي:

" من هنا تظهر جودة استنباط بعض علماء الفن الذين قسموا الاستبداد إلى نوعين سياسي وديني، يرتبط كل منهما بالأخر ويسنده، واعتبروهما توأمين لا ينفك احدهما عن الآخر. من المعلوم إن قطع شجرة الاستبداد الخبيثة، والخلاص من هذه العبودية الخسيسة ، أسهل في الجانب السياسي منه في الجانب الديني. فالخلاص من الاستبداد السياسي قابل للتحقيق، إذا التفت الشعب إلى حقيقة حاله وتنبه إلى إمكانية التحرر من قيوده. وعلى العكس فان التخلص من الاستبداد الديني اشد صعوبة، بالنظر إلى فاعلية السيطرة على القلوب" ويؤكد على أن الخلاص من الاستبداد السياسي لا يتحقق ما لم يتم قبله التخلص من الاستبداد الديني " ويقول في موقع آخر من رسالته :

" وينقسم أهل الاستبداد الديني إلى طائفتين، الأولى تمارس التحريف والتدجيل عن سابق علم وإصرار، والثانية ترى الحق منتهكا مغلوبا، والباطل شاخصا مرهوبا، فلا تعترض، ولا تظهر شهادة الحق" .

وفي جانب أخر ينظر النائيني تنظيرا فذا لصالح مفهوم الدولة الدستورية والوطنية الذي لم يكن شائعا تداوله في منطقتنا، ويجعل الحياة البرلمانية هي المخرج الأصيل من نير الاستبداد السياسي، وأطلق على برلمانه اسم "مجلس الشورى الوطني" الذي أراده بوتقة للانصهار في الدولة الوطنية وبين شكل منتسبيه بقوله :

" إن عضوية المجلس لا تقتصر على المسلمين، بل لا بد أن تتمثل الأقليات غير المسلمة في المجلس، ولا بد أن تشارك في الانتخابات. لان أتباعها شركاء في الوطن، وشركاء في أموال الدولة وغيرها " وتناول في رسالته أيضا مسألة فصل السلطات ومسألة الحرية والأغلبية والأقلية البرلمانية !. - فهل قرأ النائييني جان جاك روسو وعقده الاجتماعي؟،  لا علم لدي - .

هذا هو فكر التنوير العراقي في بداية القرن العشرين الذي حرمت منه مناهج العراق التربوية منذ تأسيس الدولة العراقية والى يومنا هذا بسبب: غباء المؤسسة التربوية العراقية وقومانية مؤسسها ساطع الحصري الباهتة والمتشنجة، مما جعل مشروع النائيني الفكري والمعرفي لا يأخذ حقه في الانتشار والتبني كما حصل لأقرانه المصريين والشاميين الذين تحولت مشاريعهم التنويرية إلى مدارس لها أتباعها ليومنا هذا  .

ولم يسلم النائيني من تضييق جماعات النصوصية الدينية عليه في النجف، ومن التنكيل والنفي من قبل السلطة السياسية آنذاك  بسبب رؤاه السياسية التي خالفت بعض مشاريع السلطة السياسية.

ومثلما ضيع  مشروع النائيني كذالك ضيعت مشاريع الآخرين، الفلسفية والاجتماعية، ورحل أصحابها بين مهمش ومتهم ، فهذا الفيلسوف المجدد عبد الكريم الزنجاني مات فقيرا ومهمشا في النجف ومتهما بالجاسوسية لبريطانيا لأنه لم يسر في ركب جماعة النصوصية الدينية المسيطرة  على المؤسسة الدينية، ولان مشروعه الفلسفي التنويري والمطلع  على كل الفلسفات الغربية الحديثة في وقته لم يرق لهذه الجماعة المهيمنة، ومات الفقيه والوطني حسين الحمامي متهما بالإلحاد – وهذه التهمة بالعراق لحد اليوم تمثل نهاية لصاحبها – وهو الثائر والمصلح الديني والمؤمن بمفهوم الدولة الوطنية، وضاعت مشاريع المظفر والشبيبي وكاشف الغطاء في مجال التحديث والإصلاح الاجتماعي والديني بدون أن يأتي على ذكرها وذكرهم ذاكر، وكأن العراق خلا تاريخه الحديث من مصلحين اجتماعيين ودينيين، ومن مشاريع إصلاحية وهذا ما يحزن له القلب .

 

العقود القومانية الأربعة الأخيرة في الثقافة العراقية

هي اشد العقود تنكيلا وتدميرا للثقافة العراقية وخصوصا في متنها المعرفي، فالفلسفة وعلم التاريخ وعلم الاجتماع والانثروبولوجيا وعلم السياسة كلها علوم أصبحت هامشية ومحتقرة في زمن حكم البعث القوماني لأنها علوم تشتغل في عمق استراتيجيات التطور والتحول الاجتماعي والسياسي، وهذا ما لم يرق لسلطة البعث القومانية التي أرادت للشعب العراقي ان يتوجه بتوجه الأيديولوجية الوحدانية الفارغة والمملة، حتى أصبحت قومانيتهم في ما بعد تسمى باسم (فكر القائد) الذي يمنح لاطاريح دارسيه، الشهادات العلية التي بوأتهم من السيطرة على المؤسسات الأكاديمية وليومنا هذا!.

" علموا الطلبة على حب البعث يا تاريخ يا علوم ، عندنا النفط الذي سيوفر لنا السيارات والثلاجات والتلفزيونات ، فحب البعث هو المهم والاهم في العراق اليوم "* هذه نفحة من نفحات فكر القائد  الذي تعطى على دراسته الشهادات العلية! .

*(هذا النص من لقاء لصدام حسين عندما كان نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة سنة 1978 مع تدريسيي معهد معلمي العمارة ذكره لي التدريسي في المعهد آنذاك الشاعر والأستاذ المتميز لازم عبيد وأكده تدريسيون آخرون معه).

هذه هي حقبة البعثيين القومانيين التي دفعت بكل من يريد أن ينتقم من الثقافة العراقية أو يتسلق على أكتافها أن يكون هو واجهة الثقافة العراقية، وهمشت وقتلت وضاعت أسماء أرادت أن تصنع حاضرا فكريا يستحق من خلاله العراق أن يكون بؤرة إشعاع تنويري وثقافي لأهله وللآخرين، فأسماء مثل :(علي الوردي/ محمد باقر الصدر/ هادي العلوي/ مدني صالح/ كامل مصطفى الشيبي/ عزيز السيد جاسم/ وآخرين كثر) منهم من قتل ومنهم من همش، وأهمل اسمه ومشروعه المعرفي والفكري لصالح جماعة مثقفي (حب البعث من الإيمان) التي ابتلعت المؤسسات والاتحادات وحولتها لحانات من الدرجة الثالثة يتبختر قادتها بلباسهم الزيتوني ليوجهوا رجالهم المثقفين بعدم التنابز بالزجاجات الفارغة داخل هذه المؤسسات والاتحادات لأنها تضر بسمعة الثقافة العراقية أمام القائد وحزبه، وأصبح العراق في مهب الريح فكريا وثقافيا، إلا من الشعر والقصة والرواية، وأي شعر ليس الشعر الذي غزا به العراق قلوب الناطقين بالعربية والذي تسيد به مشهد الشعر العربي، حاشا أن يجمح بي الظن وأمس عمود خيمتنا الأنيق بسوء أو أن أمس قصة ورواية الزمن الجميل اللتان اشتغلتا على موضوعات لامست الوجع العراقي في بنيته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فأدب المتون الثلاث الذي أراده القائد وحزبه القوماني الهمام هو:

أدب الردح وتمجيد القتل وتأصيل الجهل، الذي جعل أصحابه يشاركون في مؤامرة تغييب أهل الفكر والمعرفة من أن يأخذوا حيزهم والتعريف بمشاريعهم داخل هذه المؤسسات والاتحادات التي كان يسيطر عليها هؤلاء الأدباء المتزلفون للقائد وحزبه، مما جعل العراق بأغلب شعبه لا يطلع على الأسماء والمشاريع التي أرادت له حياة أفضل من خلال اشتغالاتها المعرفية في متون الإصلاح الاجتماعي وعلمه ،والفلسفة، ونقد التاريخ، والفكر السياسي

 

" من شب على شيء شاب عليه !"

لقد استبشرنا خيرا  وقلنا في نفوسنا  إن زمن الثقافة البائسة التي كان يروج لها حزب البعث القوماني قد ولى وندحر باندحار سلطته، وستُعاد للثقافة العراقية اعتبارها، وكان تفاؤلنا كبيرا وفي غير محله عندما حلمنا بأن الاعتبار الثقافي سيعاد لرجال الفكر ومشاريعهم الإصلاحية التي فتتح بها العراقيون قرنهم العشرين، وسيبرز ويعاد الاعتبار أيضا للذين أتى بهم حظهم العاثر في أن يكونوا بمشاريعهم المعرفية وشخوصهم حاضرين في حقبة البعثيين القومانيين، فلا الوردي اعيد له الاعتبار ولا صدر ولا العلوي ولا الشيبي ولا صالح ولا السيد جاسم، والكثير من ألاسماء اللامعة التي لا تسع طبيعة المقال ذكرهم جميعا .

إن إعادة الاعتبار الذي أردناه لهؤلاء هو ليس للتخليد فقط ، وإنما ليشعر الجيل الآخذ في الصعود والنمو في الاتجاهات المعرفية (المأمولة) ويعرف أن له تأسيسا رصينا في المتون والعلوم الإنسانية، تستحق منه أن يطورها من خلال الاشتغال على نقدها نقدا معرفيا وإعادة صيغتها مفاهيميا ؛ لكن هذا لم يحصل، ولا أظن انه سيحصل قريبا، فمؤسساتنا الأكاديمية واتحاداتنا الثقافية الجديدة كأنها ورثت عرفا أسسه البعث القوماني ومثقفوه الباهتون يقوم على : إهمال المتن المعرفي في الثقافة. فهذه المؤسسات لم تعمل على إعادة تقييم حقيقي للثقافة العراقية والكوارث التي أصابتها جرا هيمنة أيديولوجية الحزب القوماني عليها، ولم تكلف  نفسها خلال الستة سنوات الأخيرة في إحداث موازنة حقيقية في عملية التطوير الثقافي، فاغلب مؤسستنا الثقافية الأهلية منها والحكومية يستهلكها المتن الأدبي بشكل مريع وأظنها استسهلت الثقافة وأصبحت لا ترى إلا المتن الأدبي ممثلا لحضور العراق ثقافيا، ولأنها "شبت وشابت عليه" بسبب ما أُريد لها أن لا تساوي على شيءٍ أمام (حب البعث وشراء الثلاجة في فكر القائد).

وختاما لييأس (عمار ابو رغيف وسيار الجميل وهاشم ناصر حمود وفالح عبد الجبار وعبد الجبار الرفاعي وسليم مطر وصائب عبد الحميد) الذين استحضرتهم ذاكرتي من الإحياء ألان، ولييأس الذين لم تسعفني بهم ذاكرتي، وهم كثر في المتن المعرفي  للثقافة العراقية، أقول فلييأسوا ولنيأس نحن ولييأس العراق من أن تُفرغ  لهم مؤسسات العراق الثقافية: زمنا، ومكانا، وندوة، ومهرجانا، ومشروعا، ودعما، حتى يتعرف عليهم العراق وأبناءه، وحتى نقول جميعا أن لنا مفكرون لا يقلون شأنا عن مفكري الدول الأخرى المحيطة، مفكرون يستطيعون تحريك الراكد في ثقافتنا .

أعزائي شيوخ التنشيط الثقافي في المؤسسات والاتحادات نستطيع أن نبدأ، فلنبدأ ألان، فالعراق يستحق أن يخرج من الهامش الثقافي ليلعب دوره الريادي الذي لعبه في أهم العصور فكرا وتنويرا.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1199 الجمعة 16/10/2009)

 

في المثقف اليوم