قضايا وآراء

مقهى (الدَّكة) في البصرة: فضاء ثقافي .. وزمن سبعيني (2) / جاسم العايف

وعبر تقاطع يقود نحو شارع (أبو نواس). بينما يواجه الأول الشارع الرئيس الممتد من (الداكير) وجامع المقام، تجاه بداية شارع الكويت، نحو البصرة القديمة  والى قضاء الزبير.. أمسى مقهى (أبو مُضَر ودكَّته) مكاناً، يلتقي فيه اغلب أدباء البصرة ومثقفيها وفنانيها، وبعض سياسييها، خاصة المنشقين عن أحزابهم، وتختلط فيه حوارات، في الأدب والفن والثقافة عامة والسياسة، التي كانت تحتدّ أحياناً، بثرثرات الزبائن العاديين. يقع المقهى  في (العشار)عند نهاية سوق (المغايز) المشهور، مقابل الجسر المعروف بجسر المغايز. لا وجود الآن للمقهى إلا في ذاكرة الأدباء السبعينيين البصريين. والذين غادروا البصرة منهم إلى خارج العراق، هرباً بطرق ووسائل شتى، من فكي الذئب السلطوي وحزبه الشره، وعادوا إليها بعد سقوطه المهين، كانوا يأملون أن يجدوا أثراً لمقهاهم الأثير لكن خاب أملهم جميعاً فقد تمّ هدمه، في الثمانينيات، بعد أن جرت توسعة الشارع الذي يقع عليه. وانقلب فضاء المقهى الثقافي- الأدبي إلى دكان متجهّم لبيع(البالات) وبعض الدكاكين التي تعرض بضائع عدة مستوردة، و تحيطه تلال الازبال والنفايات، ويتلقى من النهر الذي ما عاد نهراً روائح عفنة. بسبب البطالة، وعسر الحالة المادية، كان بعضنا يستدين، من صاحبها المهذب والحييّ جداً(أبو مُضَر)، دراهم قليلة لشراء سندويجة لاذعة من الفلافل أو السمبوسة من دكان (أبو عباس) الذي يقع في الجهة المقابلة للمقهى عبر النهر.أو لنحصل على تذكرة الدخول للسينما في الدور الثاني الذي يبدأ عادة بعد الساعة العاشرة ليلاً، حينما كان للبصرة مسراتٍ و ليالٍ. وعندما يَصرّ (أبو مُضَر) على تسوية حسابنا معه، بعد إلحاح متواصل منه، نقلب اسمه، بمزاح معه، إلى (أبو مُضِر)!. شهد (المقهى) , الذي كان مكاناً مشخصاً، من قبل أجهزة أمن السلطة البعثية الفتاكة المتعددة، لتجمع أغلب الأدباء والمثقفين المناصرين أو المنتمين إلى"الحزب الشيوعي العراقي " حينها أو سابقاً، صراعاً مريراً و اتهامات رخيصة، من قبل مَنْ كان مؤمناً بتوجهات تمتين علاقات "الحزب الشيوعي "، الآخذة بالتطور، دون أسس اجتماعية ملموسة،  بحزب السلطة وقادته القتلة  المعروفين المُجرَبين. ومَنْ كان يرفض بعلنية علاقة (الشيوعيين) الجديدة والانجرار خلف( الحوار) الذي سيؤدي إلى تحالف (مهين)،حسب وصفهم، دون تسوية  قانونية وإجرائية واضحة،  لجراحات الماضي ومآسيه، خاصة إثرَ عاصفة 8 شباط  الدموية1963 إذ خضع مئات الآلاف من العراقيين رجالاً ونساءً وحتى الأطفال،  لـ(هولوكست) الحرس القومي، ومن نجا من ذلك الليل الدموي أعطبت روحه، وبهذا أزيح آلاف الرجال والنساء من ساحة العمل الاجتماعي- الديمقراطي. المعارضون، بوضوح وحدة، كانوا يشمئزون ويستنكرون الحوار مع قتلة الأمس القريب، لأنهم يعتقدون أن مجرد (الحوار) هو محاولة لتبييض صفحات سوداء دموية ومريبة، عانى منها الشعب العراقي عامة، والحزب الشيوعي بالذات. وكانوا جميعاً، بهذا الشكل أو ذلك، من المنتمين أو المؤيدين لتوجهات وأطروحات "القيادة المركزية"، التي تم القضاء عليها تنظيمياً بضراوة وقسوة (بعثية) معروفة ومجربة، ووجدت جثث بعضهم مشوهة وطافية في مياه " شط العرب" أو ملقاة في ترع و بساتين "القرنة وأبو الخصيب". وكنا في المقهى ذاته نطلع دائماً على كل المنشورات السرية للطرفين. بعض رواد المقهى، من الأدباء المنتمين للحزب الشيوعي، أو المناصرين لسياسته تلك، كانوا يحاولون إيجاد التبريرات لتلك الحوارات ولتلك العلاقة الهشة والتي لم يسمح لها حزب السلطة، نهائياً، أن تمتد للقاعدة الاجتماعية، و يمكن الاطلاع على موقف المناصرين للتحالف والضغوط الدولية، بالاشتراك مع بعض القوى العربية التقدمية و التي  ضغطت عليهم في هذا الشأن، على ما كتبه بصراحة بعض قادة(اللجنة المركزية) للحزب الشيوعي العراقي في مذكراتهم، خاصة بعد أن استوطنوا المنافي وبات بعضهم، مستقلاً وخارج الحزب، ويلخص الكثير منها الأستاذ ماجد زيدان الربيعي في القسم الثاني من بحثه المنشور في مجلة الثقافة الجديدة ص 31 العدد 349 والمعنون "موقف الحزب الشيوعي العراقي من الجبهة الوطنية والقومية التقدمية". بعد اشتداد حملة القمع السلطوي بشراسة مع نهاية عام 1978 استطاع بعض رواد المقهى، من الأدباء والكتاب البصريين، النجاة بجلودهم من آلة القتل أو التسقيط الإنساني والسياسي، من خلال مغادرتهم المدينة أولاً، وثم العراق كله، بوسائل متعددة، أغلبها شخصي، حفاظاً على كرامتهم الشخصية قبل كل شيء، وعبر مغامرات وضعت مصائرهم الفردية بين ((جفن الردى)) وهم أولى بالحديث عنها، ومَن لم يستطيعوا ذلك،لأسباب شتى، تلقفتهم سراديب التعذيب  الوحشية والمعتقلات المهينة، واختفى بعضهم بلا آثام أو معاصٍ ودون معرفة أي شيء عنهم، إلا من خلال بعض الوثائق الرسمية المهملة، التي تم العثور عليها، بعد سقوط النظام في المراكز الأمنية والمخابراتية والحزبية، تكشف عن مصائرهم المأساوية المحزنة و المجحفة التي انتهوا إليها دون خطايا أو ذنوب ما، ولم يعثر على جثثهم، أو أي أثر لهم نهائياً. وسأتجاوز-عامداً- تفاصيل مؤلمة ومهينة ومخجلة ومؤسفة ومحزنة، حدثت بين الطرفين- المؤيد والمعارض- في المقهى خلال هذه الفترة الملتبسة.

2

أعود لـ"مقهى الدَّكَّة" الذي فيه استمعنا،عبر المذياع،صباح جمعة ما، وفي الشهر الثالث من عام 1971 عن فوز القاص"محمد سعدون السباهي" بالجائزة الأولى للقصة القصيرة،  عن قصته المعنونة (الوصية)  التي كانت تجريها سنوياً  "إذاعة صوت الجماهير"، ومبلغها المغري، إذ كان (150 ديناراً) والدينار العراقي الواحد،حينها، يعادل (3) دولارات و(18) سنتاً. إضافةً لما تحققه من شهرة ونشر في وسائل الإعلام الرسمية على مستوى العراق، للفائز بإحدى جوائز الشعر والقصة وغيرهما. وعبر مذياعها، في عام آخر، سمعنا فوز قاص بصري يدعى(رياض عبد العزيز) بالجائزة الأولى في القصة القصيرة، كان(رياض)هذا مجهولاً لنا تماماً!؟. لا أحد من الجالسين،في المقهى حينها، خاصة من قصاصي البصرة، وبعضهم كان يمني نفسه بالفوز بإحدى جوائزها، أو كتابها وأدبائها، قرأ له، أو يعرفه، أو حتى سمع به، ولم يسبق له أن مرَّ بالمقهى إطلاقاً، أو نشر شيئاً قبل فوزه الغريب هذا !؟. أحدث ذلك الاسم وفوزه، بالجائزة الأولى، لغطاً وتساؤلات عدة، وحيرة !؟. عندها بدد كل ذلك القاص"الياس الماس محمد"، معلناً معرفته به !؟. وبعد تساؤلات متواصلة موجهة إليه، وبإلحاح من الحاضرين جميعاً. قال (الياس):" هو أصلاً لم يكتب حتى خاطرة ما، أو يقرأ قصة واحدة طوال حياته " !؟. وأضاف :" انه بَحّار، يعمل في شركة(الرافدين) العراقية – السوفيتية لصيد الأسماك..وهو الآن في أعالي الخليج العربي أو المحيط الهندي .. يصطاد السمك البحري.."!؟. ثم صمت !؟. وبعد إلحاحنا جميعاً عليه لتوضيح هذا الأمر. ذكر :" مَنْ كتب القصة وأرسلها باسمه أنا، لأنه شقيق زوجتي، وكنت أخمن فوزها، فعمل لي وكالة مصدقة من قبل كاتب العدل، يخولني فيها تسلم مبلغ الجائزة "!؟. وأبرز أمامنا الوكالة المصدقة رسمياً. ثم أضاف:"أردت الضحك والسخرية على منظمي ومحكمي الجائزة سراً، لأني أعلم بالخبرة، إن الفوز في مجال القصة القصيرة، وفي مثل هذه المسابقة بالذات، ليس لدواعٍ فنية، بل لأسباب لها علاقة بالتوجهات الفكرية الحزبية - السلطوية بالذات. إذ ثيمة القصة فلاح (مصري) يأتي مع عائلته ويسكن في مشروع زراعي، تم استصلاحه و يقع بمنطقة "الدواية" في الناصرية" !!. وأكمل(الياس): "هذا الموضوع، ينسجم مع توجهات السلطة حالياً، وإذا أرسلتها باسمي ستُبعد حتماً "!؟. عند ذهاب (الياس) في الموعد المحدد لحضور حفل توزيع الجوائز، في مبنى الإذاعة، منعه مديرها العام آنذاك الشاعر" ارشد توفيق" من الدخول، فأبرز له (الياس) وكالته الرسمية عن (القاص الفائز بالجائزة الأولى). يقول (الياس): " امتقع وجه ارشد توفيق، الذي يعرفني جيداً قبل ذلك، ويعرف توجهاتي الفكرية - السياسية، وأصر على منعي حضور الحفل "!؟. ذهب "ارشد توفيق" للدائرة . ثم عادَ ومعه (صك) بمبلغ الجائزة سلمه إلى ( الياس) قائلاً:" لقد استغفلتنا، فأنت مَنْ كتبَ القصة الفائزة "!؟. ولم تنشر القصة في وسائل الإعلام الرسمية نهائياً، كذلك لم تنشر  قصة" محمد سعدون السباهي" بعد معرفتهم بتوجهاته الفكرية والسياسية أيضاً.ولد في المقهى الكثير من الرؤى و المشاريع الثقافية الخاصة والعامة ومنها (12 قصة)، وسأتطرق مستقبلاً لماذا عمد بعض قصاصي البصرة لذلك؟ ومن اشترك فيها؟. وما واجهه هذا المشروع من ترحيب وتحمس من قبل الوسط الثقافي والأدبي غير المعني بالمشهد السلطوي - ومؤسساته الثقافية وتوجهاتها الحزبية، وكذلك الموقف الرسمي من مشروع ما بات يعرف ثقافياً بجماعة(12 قصة) بعد صدور حلقتها الأولى، والتي صميم غلافها الفنان الصديق العزيز الراحل في الغربة" أياد صادق" .

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2143 الاربعاء  06 / 06 / 2012)


في المثقف اليوم