قضايا وآراء

الحداثة: ثقافة تحرير ارادة الانسان / نبيل عودة

ومع ذلك نرى ان الغموض والخلافات في فهم الحداثة ما زالت على أشدها في الثقافة الغربية نفسها ، حيث تطرح تعريفات كثيرة مختلفة ومتناقضة، وهو أمر طبيعي في حضارة أطلقت العقل من قيوده، وحررت الفكر من الكهنوت الديني ومحاكم التفتيش وقمع العلم، واعتمدت المنطق العلمي والبحث طريقا، وتخلصت من فكر الخرافات والخوارق.

  اذن التعريفات المختلفة للحداثة في الفكر الغربي هي من منطلق التصورات الفكرية المختلفة، ومن تعدد الأذواق وانفتاح العقل، ومن  نهضة تنويرية احدثت أعظم نقلة في الواقع الاجتماعي والثقافي للإنسان. ومع ذلك تعددت التفسيرات وتشعبت وانتقل الفكر الغربي الى "ما بعد الحداثة" ولم يكن قد اعطى تفسيرا متفق عليه لمفهوم الحداثة.

الثقافة العربية نقلت مفهوم الحداثة بشكله وليس بمضمونه، بل والبعض "سبق" المصادر التي انطلقت منها الحداثة، وفسر ما لم يفسر بعد في الغرب،وطرح مفاهيم جاهزة اعتمدت الاجتهاد اللغوي بالأساس، لدرجة يبدو ان الحداثة نقلها الغرب عن العرب وليس العكس. ولكن المطلع على فلسفة التنوير الأوروبية، ولو خطفا، يجد ان ما قام به بعض انصار الحداثة العرب هو أشبه بعملية اغتصاب فاشلة لفكر لم يجر تجهيز القاعدة المادية الاجتماعية والفلسفية لاستيعاب مفاهيم التنوير اولا ثم الحداثة قبل ان ندعي، او نضفي على بعض الأعمال الأدبية صفة الحداثة بشكل اعتباطي، وكأن الحداثة هي معيار للأدب فقط.

أشغل موضوع الحداثة بال المثقفين والمفكرين في العالم العربي ، كما في سائر الثقافات العالمية،منذ فترة طويلة, ومعظمهم  مثقفين تأثروا بالتنوير الأوروبي، الذي ما كان للحداثة ان تنشأ وتنتشر بدونه. كان الإهتمام  أكثر بجانب من التنوير يتعلق بالإبداع الأدبي تحديدا، لغياب فرص الحداثة الاجتماعية والسياسية، وبالتالي جرى فصل مفهوم الحداثة عشوائيا عن جغرافيتها، وبيئتها ومسيرتها الحضارية،وما أحدثته الحداثة من انتشار واسع لفلسفة التنوير  ويبدو انهم حاولوا استباق العملية التاريخية المفترض ان تبدأ بعصر تنوير عربي، كانت له بدايات لم تكتمل بدأتها مجموعة من التنويريين العرب، لتحرير العقل العربي من قرونه الوسطى، أسوة بما جرى في التنوير (الرينيسانس) في اوروبا.

  حتى الان لم يظهر تعريف دقيق لهذا المفهوم الذي فرض  نفسه على مجتمع شبه قبلي, او قبلي تماما .. تسيطر عليه الماضويه والببغاوية  والتلقين بدل التفكير, ويبدو الحديث عن الحداثة اشبه بالحلم الذي يلهم الرواد من المثقفين العرب , للتخلص من الماضوية التي تعيق انطلاقة المجتمعات العربية نحو آفاق حضارية جديدة , بل ونشهد في الاونة الاخيرة  تنامي شهوة السلطة في التيارات الدينية الأصولية واقصاء القوى العلمانية او الدينية العقلانية او المختلفة ثقافيا واثنيا. الملاحظة الصعبة ان  وما يشغل العالم العربي ليس العمران انما الحد من التطرف... وهذا يتضح أيضا بما يجري من تطورات سياسية سلبية في ما بات يعرف بالربيع العربي. بحيث نشهد عودة الى العصبية الدينية ، الى القبلية، بغياب نسبي كبير للدوافع الاجتماعية والسياسية التي اطلقت الربيع العربي. الوعي الجماعي غائب عن الصورة. واصوات الفئات المتنورة لا تصل الى عقول نشأت في ظل نفي العقل لحساب النقل والتلقين.. وآمل انها مرحلة قصيرة !!
بعض المثقفين العرب اعطوا تفسيرات سطحية ويمكن
القول شكلية لمفهوم الحداثة , بالقول مثلا انها " الاختزال والشفافية ", اي يقرنون مفاهيم الحداثة بشكل أدبي او لغوي لأن فهمهم لم يمتد لمضمون الحداثة الشامل حضاريا, وجهل جذور الحداثة تاريخيا، حتى في ظل تعدد وتناقض التفسيرات في موطن الحداثة نفسها ..

الأساس الذي يمكن الانطلاق الواسع منه انها ( الحداثة) عنصر من عناصر التنوير العام للمجتمع والثقافة والعلوم والإقتصاد ونوعية السلطة.
هذا التعريف وغيره من التعريفات المشابهه في مضامينها, لا تاخذ في اعتبارها جوهر الحداثة من مصادرها الجغرافية والتاريخية .

ان الحداثة في الادب والفكر والحياة , لم تكن وليدة ظاهرة شكلية , انما نتيجة عملية تغيرات وتطورات شملت العلوم، الثقافة, الاقتصاد والمجتمع البشري نفسه, بحيث احدثت نقلة نوعية غيرت كل الافكار ومفاهيم  القرون الوسطى البالية, وطرحت مكانها افكارا وموازين تعتمد على العقل والمنطق والعلم والمعرفة لذا ليس بالصدفة ظهور فلسفة التنوير الأوروبية بفلاسفتها العظام فولتير، كانط، سبينوزا، لوك، ديكارت،نيتشه، سبينوزا وسميت وغيرهم  كمحرك عاصف للتغيير اعادوا بناء الوعي الاجتماعي والعلمي والديني والثقافي واعتماد منطق التغيير والرقي بدل منطق الارتداد الماضوي وانتظار الفرج من السماء بوهم انه طريق الخلاص.  
لا يمكن الحديث عن الحداثة بمنظار قديم وبمواقف تجتر الماضي , لا يمكن " اتهام " مقطوعة ادبية بالحداثة لانها مكتوبة بلغة لا شي واضح فيها الا حروف الابجدية , وجعل الحداثة محصورة في الادب ... هذا جهل فاضح .

الذي يحدث هو خلط مضحك بين المفاهيم والاصطلاحات التي لم تنشأ اصلا في الفكر العربي , وبالتالي , ظاهرة الحداثة لم تخترق بقوة محركاتها المجتمعات العربية , التي ظلت على جهل مريع بمفاهيم الحداثة التي تقودنا جذورها التاريخية الى عصر التنوير الاوروبي , الذي بدأ قبل 300 - 400 سنة، ولكن مفهوم الحداثة نفسه ظهر فقط في المائة سنة الأخيرة فقط.

مثلا لماذا لا نقول ان الحداثة هي حرية الإرادة؟ الم تكن حرية الارادة منقوصة تحت سلطة الكهنوت الديني في اوروبا حين كان المجتمع الأوروبي يعاني من التخلف والاستبداد السياسي والديني؟ وبالتالي لم يكن الانسان يتصرف بناء على ارادته الحرة.. وهي حالة لم تغب  من مجتمعاتنا العربية اليوم ، ورؤيتي متشائمة أكثر بسبب تعمق هذه الظاهرة، وفي التلخيص لا بد من التحديد أن تحرير الارادة هو ما يجعل الانسان كائنا أخلاقيا، لأن حرية الأرادة تعني بالأساس ان الانسان قادر على تحديد تصرفاته بنفسه، وقادر على التمييز بين الخير والشر  والأخلاقي واللاأخلاقي، وتحمل مسؤوليته عن نشاطه وابداعه بالمفاهيم الأكثر شمولية للمجتمع .وقد اهتمت فلسفة التنوير بموضوع حرية الارادة، واعطت تفسيرات عديدة لا مجال لبحثها هنا.ونلاحظ ان مفهوم الإرادة كان ضمن اهتمامات الفلسفة الإغريقية القديمة ايضا.

في العالم العربي نتحدث عن اصلاح برامج التعليم وهي برامج تفتقر للتحديث ،ولم تعد تلائم حياتنا المعاصرة وتنشئة جيل قادر على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين.  يعاني العالم العربي من فجوة علمية آخذة بالإتساع مع عالمنا اليوم، بل والمؤذي أكثر اذا قارنا واقعنا العلمي  وواقع الجامعات والأبحاث مع دولة اسرائيل مثلا، التي تعتبر التحدي الأخطر للعالم العربي. يتبين ان اسرائيل توظف (15) مرة في الابحاث أكثر من كل العالم العربي، وبنسب أخرى توظف (4.5%)من ناتجها القومي للأبحاث مقابل ارقام عشرية هزيلة للعالم العربي. وجامعاتها في الصدارة وجامعات العالم العربي لا تظهر في ال (500) جامعة الأولى حسب سلم شانغهاي.اسرائيل تطور الفيزياء والعلوم والعالم العربي غارق بالفتاوى من ارضاع الكبير حتى مضاجعة الوداع، وتتحكم بالعالم العربي أنظمة كاتمة للانفاس وللاصوات وللنظرات حتى تلك المسماة جمهورية وثورية, فعن اي حداثة نثرثر وتحكمنا عقليات القرون الوسطى؟  

مجتمعاتنا العربية تفتقد لاول شروط الحداثة : تحرير ارادة الانسان العربي أولا، نشر الديمقراطية  وحق التعددية الثقافية والدينية والسياسية . وما يقلق ان الربيع العربي يُخطف من قوى ترفض التنوير وترفض كل المفاهيم الديمقراطية والتعددية الفكرية والثقافية.

ان جزء من الحداثة يتعلق ايضا بموضوع المصارحة والمكاشفة وقبول الآخر المختلف, فهل نستطيع ان نكون صريحين ومتقبلين للاخر  المختلف في ظل عقلية تنفي الآخر المختلف وتحرض عليه وتحرمه من حقوقه الأساسية، ولا ترى به الا "أهل ذمة" او صليبي ، او  ينتمي لطائفة كافرة، حتى لو كان مسلما من طائفة أخرى، بتغييب كامل لكل مفاهيم المواطنة والمشاركة.
اؤكد خطأ الظن ان الحداثة هي ظاهرة ادبية فقط . صحيح ان المفاهيم المجازية العامة للحداثة في العالم العربي , ظهرت في الشعر تحديدا بابداعات بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وأخرين ,ولا اميل لفهم التحديث الأدبي كتأثر بالحداثة الأوروربية، ولا انفي ذلك، ولكن الأفضل للدقة استعمال تعبير "التحديث" في الشعر وليس "الحداثة"، من منطلق ان الحداثة لها مضامين أعمق وأشمل من الظاهرة الأدبية الإبداعية.

 وواضح ان النثر يشهد أيضا تحولات حداثية عميقة جدا، ولكني بشك قوي من صحة استعمال اصطلاح الحداثة.

الحداثة  بمفهومها الاجتماعي والسياسي والديني ظلت مستبعدة , وغير قادرة على اختراق الحواجز العقائدية المتصلبة للمجتمعات العربية.  
من هنا ما يطرح من  نقاشات حول الحداثة في الادب او " اتهام " ادباء بالحداثة .. فية  عدم فهم لجذور الحداثة وشموليتها وفلسفتها.
المحافظون المتعنتون يحاربون الحداثة, اي التغيرات الاجتماعية والثقافية بالتمسك ( كما يدعون ) بالاصالة والتراث والتقاليد ...
والسؤال : هل تتناقض الحداثة مع الاًصالة والتراث ؟
واليس التراث واصالته  هو نتاج حداثي في عصرة ؟

واضحا هنا ان رفض الحداثة وطرح  التراث مكانها هو طرح يعبر عن فكر سياسي واجتماعي ماضوي يرفض التنوير ويرفض التغيير.  المفكر الراحل محمد عابد الجابري يدعو إلى ضرورة التحرر من "الصواب الموروث" الذي يتلقاه الناس ويتداولونه فيما بينهم بوصفه الحقيقة التي لا تقبل الشك ولا تخضع للحوار.أي لا تخضع للتفكير.
لكل عصر
مميزاتة الاجتماعية والحضارية , والحضارة لا تتوقف في مكان ما , مكتفية بما انجزتة , التوقف يعني التخلف عن الحضارات الاخرى , "الصواب الموروث" له حصة الأسد في تعويق انطلاقة مجتمعاتنا من جديد، وتعميق ظاهرة النقل والتلقين.
هناك قاعدة اساسية للحداثة , هي قدرتها على نقد ذاتها بعد كل مرحلة ,وتصويب الخطأ ومواصلة الانطلاقة , والفكر الحداثي لا يطرح نفسة كفكر نهائي ثابت معصوم عن الخطأ، بل كمرحلة مرافقة للتنوير، حررت ارادة الانسان وأطلقت طاقاته الابداعية، وليس مجرد صياغات لغوية كما يذهب بعض نقادنا الأفاضل.  
مشكلتنا هو ثقافة النقل المتأصلة فينا دون التعمق بالمضامين, ورفضنا لمصادر الحداثة ( حركة التنوير الاوروبية بالاساس) التي استفادت في وقتة من الفكر العربي (ابن رشد وآخرين)  وقادت المجتمعات الاوروبية الى نقلة نوعية من التقدم في كل مجالات الحياة , وهذا لم يحدث في شرقنا الذي قمع كل صاحب رؤية تنويرية , لذلك يبدو لي الحديث عن " الحداثة " ضربا من الفتح بالمندل, وربما يصح القول ان بعض الحداثة في الادب تعني "كسر الحواجز التقليدية والخروج من النمطية والتكرار والتقليد".
مثقفون طلائعيون عرب روجوا لفكر الحداثة ولفكر التنوير والاصلاح الشامل لكن بين هذا وتحويل الحداثة الى قاعدة للحياة مرحلة طويلة وشاقة، للأسف اوقفت او اسقطت.
هل يمكن تحقيق الحداثة بدون حرية اجتماعية وفكرية؟ بدون مساواة وتعددية ثقافية؟ بدون تطوير العلوم والتعليم؟ هل يمكن تحقيق الحداثة بدون دولة مؤسسات ورقابة واستقلال السلطات عن بعضها البعض؟  
ما زلنا في الشرق نعيش على ماضينا نجتره ونحوم حوله, وكل صراخنا حول تراثنا وحضارتنا هو تموية للحقيقة وخداع للنفس , وما زلنا عالقون في "الصواب الموروث".... والصورة تبدو سوداوية , ولكن الصورة لم تكن اقل سوداوية في اوروبا القديمة قبل بداية عصر التنوير  !!

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2159 الجمعة 22/ 06 / 2012)


في المثقف اليوم