قضايا وآراء

رحلة أسطورية الى بلاد الإغريق مع سعود الأسدي* / نبيل عودة

وكيف لا وهو أستاذي للغة العربية، لفترة سنتين، أعتبرهما أجمل وأروع سنتين في تأثيرهما الثقافي والأدبي على عالمي، وأنا شاب ناشىء يعشق الأدب العربي، يعشق التراث العربي ويحاول ان يكتب القصة القصيرة، يحلم بان يبدع في يوم من الأيام أعمالاً أدبية تروق في أعين القراء... فيجىء ذلك المعلم الشاب الى الناصرة، يعلِّم في ثانويتها اللغة العربية. كنت آنذاك طالباً في الصف التاسع، فاذا نحن أمام معلّم من نوع جديد، لا يكلّ ولا يملّ، يتجدّد كل يوم ولا يكرِّر ذاته فيدفعنا الى الملل.

 كان يتحفنا بقصص العرب وأشعارهم ليقرب درس الصرف والنحو الى نفوسنا بكلام مليء بالسّحر وروعة الشّعر وقصص تراثنا، فتحت أمامنا كنوزاً لا تنضب ولذا كان له دور في تكويني الثقافي والأدبي قبل ان أشبَّ ويصلب عودي.

 بعد هذا فهل يمكن ان اكون حيادياً مع نصوصه؟ كيف أستطيع ان أتخلص من تلك النوسطالجيا (الحنين) المدهشة، التي تأسرني كلما داعبتني إبداعات أستاذي سعود الأسدي؟ هل أستطيع بهذه الحالة ان أكون ناقداً غير متحيز للشاعر سعود الأسدي؟

أعترف اني قد أختلف معه حول قضايا فكرية وادبية معينة، لكني أرى دائماً بسعود ذلك المربي الذي أغرقنا بأجمل ما في لغتنا من سحر وبيان. هذه الأفكار راودتني عندما وصلني كتابه الأخير "إشراقة الشعر الغنائي اليوناني" وهو دراسة وأشعار مترجمة، انا عادة لا أحب ان أكتب بجو الحماسة لكاتب ما، حتى لا أفقد موضوعيتي، لكن هذا الكتاب، الدراسة عن الشعر الغنائي اليوناني، الذي يأخذ القارىء الى عالم الأساطير والآلهة في بلاد الإغريق، عالم الحب والموسيقى الهلينية، في نصوص قام سعود بترجمتها شعراً، أضفت على الدراسة جواً من الحلم وهو بالتأكيد جهد ليس من السهل ان يقوم به الا شاعر متمكن من لغته وأدواته وقدراته التعبيرية والتصويرية.

لم استطع بعد ان قرأت هذا الكتاب الا ان أحمل قلمي لأكتب عنه، ليعذرني القراء اذا وجدوني متحمّساً لهذا العمل. حاولت ان أجد ثغرة حتى لا تبدو كتابتي متحيّزة، لكن سعود الأسدي في هذه الدراسة وهذه الترجمات، وهذا العرض الشيّق، أغنى مكتبتنا العربية بكتاب هام، كتاب يكشف أمام القارىء حضارة الإغريق التي أثّرت الحضارات الإنسانية الأخرى، ولا تزال تبعث الدفء في النفس الإنسانية. لا بد هنا من قول كلمة حق: هذا الكتاب مهم وضروري لكل فرد مهتمٍ بالثقافة والمعرفة.

الأمر الآخر الذي ينبغي توضيحه، انني لست ناقداً أدبياً، رغم مئات مقالاتي التي يمكن تصنيفها ضمن النقد الأدبي والفكري، ودافعي للكتابة عن الأعمال الأدبية ينطلق من ذاتيتي، لذلك لا أكتب نقداً بقدر ما أكتب مداخلة أدبية حول العمل الأدبي المعين.

في هذا الكتاب الفريد يأخذنا سعود الأسدي الى أعماق التاريخ، يعود بنا القهقرى الى القرن الحادي عشر قبل الميلاد، الى بلاد زيوس وأفروديت وهرقل وأخيلوس وأوديبوس.. الى بلاد أفلاطون وسوفوكليس وإبيقراط وهوميروس.. فيسحرنا ويلهمنا من جديد، كاشفاً لنا عظمة الانسان وقدراته الإبداعية وخصب خياله – يشمل الكتاب دراسة جميلة عن علاقة الشعر بالموسيقى والغناء.. ومن مثل سعود الأسدي، الشاعر الذي ولد ونشأ في كنف والد زجّال، لا تولد القصيدة معه الا مغناة، يعرف معنى الشعر المغنى، فالموسيقى والغناء كانا جزءاً من التكوين الشعري لسعود الأسدي، في هذا الكتاب استعراض للشعر اليوناني بدءاً من شعر الملاحم والشعر الغنائي وصولاً الى الشعر التمثيلي وتأثير الشعر اليوناني على الأدب الروماني وعلى الأدب الأوروبي في عصور لاحقة، وبالطبع ما زال لهذا الابداع الاغريقي تأثيره الثقافي العميق حتى يومنا هذا ولن ينتهي ما دام في الارض حضارة انسانية.

يبدو واضحاً من دراسة سعود الأسدي أسباب خوضه في هذه الدراسة عن الشعر الغنائي، فهو شاعر غنائي بالأساس. ولا ينسى بالطبع ان يتطرّق لأسباب عدم اهتمام العرب إبان عصور حضارتهم الزاهية، للشعر اليوناني من مسرحي وغنائي وتمثيلي، وتركيزهم على الفكر والفلسفة.

يكشف سعود ان البابليين سبقوا اليونانيين في غناء الشعر. الدراسة عن علاقة الشعر بالموسيقى والغناء تكشف أمامنا ان الشعر العربي يشمل موسيقى حقيقية.. يشرحها سعود بلغة الخبير المطلع ويخوض في تراثنا العربي كاشفاً حقيقة ان الكثير من الشعراء كانوا ينشرون شعرهم بمصاحبة آلات موسيقية.. أي شعراً مغنّى.

 هذه الدراسة عن الشعر العربي المغنى والشعراء المغنيين قد تستحق كتاباً منفرداً لشدة جمالية ما يكشفه سعود الاسدي ولاطلاعه ومعرفته الممتازة بهذا الحقل البحثي الذي قل رواده.

 ينتقل بعد ذلك الى دراسة عن إشراقة الشعر الغنائي اليوناني ويقدم نماذج من هذا الشعر الذي ضاع معظمه وبقي القليل منه ويسحرنا بالنماذج التي ترجمها شعراً ويمكن القول أبدعها شعراً.

في مداخلتي هذه لا أنوي الخوض في تفاصيل الكتاب، انما اكتب انطباعي عن عمل يثري ويضيف لمعارفنا الثقافية الشيء الكثير، وهو يشرح بوضوح بان الشعر المقروء غير المسموع غناء او انشاداً يفقد الكثير من خاصته وتأثيرة .

ربما ليس بالصدفة ان اختار الشاعرة المغنية "سافو" ليبدأ بها حديثه عن الشعراء المغنّين. فسافو رأى فيها أفلاطون ربَّة من ربّات الفنون وقال عنها فيلسوف آخر "انها كالخمرة تمتزج باللهب". ينتقل من سافو وأشعارها الرائعة الى هوميروس، صاحب الإلياذة والأوديسة وكيف لا وهذا الاسم أصبح مرادفاً ثقافياً لا أظن ان أحداً يستطيع ان يدّعي الثقافة ويجهل عظمة هوميروس في الإلياذة والأوديسة.. ثم يحدثنا عن شاعر ملحمي آخر هو هسيود.. هكذا يبحر بنا سعود في محيط الحضارة الاغريقية لنلتقي مع ألكايوس وأرخيلوخوس وثيوجينس وأناكريون.. وترباندر وألكمان، ثم ينتقل الى شاعر غنائي آخر هو أريون – نصفه حقيقه ونصفه أسطورة... بعدها يتحدث عن شعر الجوقات وعن عدد آخر من الشعراء والقصائد المجهولة المؤلف، يختتم كتابه بدراسة عن الشعر الهيليني موضحاً فترته التاريخية، وبدراسة عن الشعر الاسكندري (نسبة الى الاسكندرية).

كان بودي استعراض بعض القصائد، ولكني أكتفي بهذا القدر، ومهما أضفت لن استطيع ان أوفي هذه الدراسة وهذا الشعر وهذا الغناء وهذا الجهد في ترجمة النصوص شعراً وكتابة الأبحاث.. ما تستحقه.

 

الكتاب:              إشراقة الشعر الغنائي اليوناني

المؤلف:              سعود الأسدي (منشورات اليمامة)

 

 *سعود الأسدي - شاعر، كاتب وزجّال معروف –

كان أستاذا للغة العربية في ثانوية الناصرة،

له عدة دواوين شعر وزجل ودراسات

  

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2164 الاربعاء 27/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم