قضايا وآراء

مشروع الإمام الصادق (ع) لبناء الإنسان الصالح

وهذا التفكير بالرغم من أنه خاطئ، فإنّه يعتبر خطأ من الناحية العلمية....))(الإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر)(قدس سره).

يعتبر الإمام الصادق(ع) حارس الرسالة المحمديّة، والقيّم على مسيرة التجربة الإسلاميّة، والمرشد العصموي لتصحيح أخطاء المجتمع، وهو ليس نتاج تناقضات مجتمع، أو حصيلة صراع إرادات قبليّة، أو تنافس على سلطة دنيوية كما يصور ذلك بعض المؤرخين. فالقضية ليست سعياً لتحقيق مكاسب ذاتية، أو منافع شخصية عبر سلطة الحكم الشموليّة، وإنّما عاش الأئمة بعد الرسول(ص)، لمهمّة أعظم وهدف اسمى. عاشو (ع) لتجسيد التجربة الاسلاميّة داخل الذات الانسانيّة، حتى مع اختلاف الجنس واللون والقوميّة، وبالتالي تحويل تعاليم الاسلام المجيد، الى سلوك ونمط حياة يغاير تماماً عمّا هو سائد آنذاك، ليكون منهج ثقافة له هويته ومميزاته المستقلة عن الثقافات الأخرى، وبناء مدنيّة ومن ثمّ الانتهاء إلى حضارة متجدّدة، لا يمكن للتاريخ أنْ يتجاوزها أو يُدرسها أو يمحو معالمها تدريجياًً، كما فعل مع الحضارة اليونانيّة أو الفرعونيّة أو البابليّة، التي لم يبقَ منها إلاّ الشواخص الصخريّة. والأئمّة(ع) يدركون تماماً بوعيهم الإيماني، أنّ واجبهم و رسالتهم يكمنان في رؤية واقعيّة، تهدف تطبيق الإسلام ومبادئه في المجتمع وترسيخها فيه أيضاً، ليستمد من ديمومة صحّة قيمه، عناصر استمرار وجوده، الى أنْ يخلف الله تعالى الأرض ومن عليها. إذن نظريّة كفاح الأئمّة الأطهار(ع)، تتمحور حول مفهوم ديمومة تجربة الإسلام، وتفاعلها المستمر مع حركة الإنسانيّة والتاريخ، وابقائه ينبض حيويّة ونشاطاً، ويشعّ فكراً وعطاءً ملبياً احتياج الانسان زمانياً ومكانياً. وفي هذا الصدد يحدّد الإمام علي بن ابي طالب(ع)، معالم هذه الحقيقة بالتركيز على إقامة الحقّ والعدل في المجتمع، لأنّها القيم الأساسيّة التي تضمن استمراريّة تطبيق الإسلام الحنيف، وتبقية متفاعلاً بشكل ديناميّ مع متغيرات الحياة. يحدّد أبو الأئمّة(ع) هذه الحقيقة بقوله: ((لَوْ لاَ حُضُورُ اَلْحَاضِرِ، وَ قِيَامُ اَلْحُجَّةِ بِوُجُودِ اَلنَّاصِرِ، وَ مَا أَخَذَ اَللَّهُ عَلَى اَلْعُلَمَاءِ، أَلاَّ يُقَارُّوا(يوافقوا) عَلَى كِظَّةِ(امتلاء جوف المستكثر من الطعام) ظَالِمٍ، وَ لاَ سَغَبِ(جوع) مَظْلُومٍ، لألْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، وَ لألْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ، أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ))(نهج البلاغة). فالإمام(ع)، يحدد في قوله أنّ حضور الحاضر، يعني وجود الظرف الذي يتطلب التغيير؛ ووجود الناصر، يعني وجود اشخاص يلبون دعوة الحقّ، فهذان العنصران، هما جوهر المشروع التغييري الذي كافح من أجله أئمّة الهدى(ع)، وبذلو في سبيله وجودهم. يقول الإمام الشهيد محمّد باقر الصدر(قدس سره):((وفي عقيدتي، أن وجود دور مشترك مارسه الأئمة جميعاً، ليس مجرد افتراض نبحث عن مبرراته التاريخيّة، وإنّما هو مما تفرضه العقيدة نفسها وفكرة الإمامة بالذات، لأن الإمامة واحدة في الجميع، بمسؤولياتها وشروطها، فيجب أنْ تنعكس انعكاساً واحداً في سلوك الأئمة(عليهم السلام) وأدوارهم مهما اختلفت ألوانها الظاهرية بسبب الظروف والملابسات، ويجب أنْ يشكّل الأئمة بمجموعهم وحدة مترابطة الأجزاء، يواصل كل جزء في تلك الوحدة دور الجزء الآخر ويكمله)) (أهل البيت تنوع ادوار ووحدة هدف/ص84). فدور الأئمة(ع) تجسيد لواقعية الرسالة الأسلاميّة واخلاقياتها وطروحاتها النظرية والسلوكية أمام الأفكار الأخرى، أي بمعنى وجود مرجعيّة عقائديّة وفكريّة وسلوكيّة، لها معياريتها المستمدّة من جوهر الاسلام و روح رسالته العظيمة، تتولى مهمّة حراسة الإسلام عقيدة ونظاماً. قال الاِمام أبو جعفر الباقر(ع) لبعض أصحابه: (يا جابر إنّا لو كنّا نحدّثكم برأينا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول اللّه (ص)). وبفس السياق قال الاِمام الصادق(ع) عند ما سئل عن الجامعة:(فيها كلّما يحتاج الناس إليه، وليس من قضية إلاّ فيها حتى أرش الخدش(الأَرْشُ:ديَةُ الجراحَةِ)). هذه باختصار شديد فكرة موجزة عن دور الأئمّة في المجتمع، وضرورة وجودهم فيه. 

والامام الصادق(ع) ولد عام (83هـ)، وعاش(ع) مع جده الإمام زين العابدين(ع) زهاء(11) سنة، وعاش مع ابيه(ع) بعد استشهاد جده(ع) قرابة(20)سنة، وتقلد مهام الإمامة المعصومة لمدة(34)سنة. هذه البيانات تعطينا ان الإمام الصادق(ع)، قد عاش مع إماميّن معصوميّن هما ابيه وجده(ع) قرابة (31) سنة. وكلّ تلك المرحلة كانت مشحونة بانحرافات سياسيّة، وتراكمات اجتماعية خطيرة، على رأسها رزية واقعة الطفّ، حيث تجرأت الأمّة على قتل ابن بنت نبيها(ص)، وهتك حرماته. واستمرت الانحرافات السياسيّة والعقائديّة بوتيرة متصاعدة، ولا أجد من الضرورة ذكرها، لأنّها من مسلمات تلك المرحلة. لقد عاصر الإمام الصادق(ع)، منذ ولادته لغاية انهيار الدولة الأموية عام (132هـ) عشرة من خلفاء بني أميّة، ورأى (ع) بأم عيّنه وعن قرب، استشهاد جده وابيه بالسم الزئام، على يد الطغمة الظالمة، واضطهاد الصالحين وخيار الأمّة، وشاهد جرائم القتل والتنكيل التي كانت تقوم بها السلطة الأمويّة، وعاصر المهمة الشنيعة التي حرص الحكّام الأمويون على إمضائها، طيلة مدّة حكمهم المشؤوم، وهي شتم الإمام علي بن أبي طالب(ع) على المنابر(باستثناء فترة حكم العبد الصالح عمر بن عبد العزيز(رحمه الله)، الذي أوقف هذه الممارسة طيلة حكمه البالغة سنتين ونصف، وما فتئ الامويّون من بعده إلاّ العودة اليها). وعاصر الإمام(ع) ثورة كبيرة على السلطة الغاشمه، هي ثورة عمه زيد بن علي(ع)(عام124هـ)، وصلبه على جذع نخلة شاخصة في منطقة لرمي النفايات في الكوفة، عارياً منكوساً. وصلب بنفس الطريقة كلّ الذين ناصروه في ثورته، وبقت الأجساد على هذه الحال لمدة خمس سنين، ثم أحرق جسد زيد بن علي(ع) وذرّوه رماداً في النهر. وموست نفس الحالة مع ابن عمه يحيى بن زيد بن علي(ع) عام(126هـ)، حيث صلب يحيى على باب مدينة (جوزجان) في بلاد فارس، وبقى مصلوباً حتى عام (132هـ)، حيث قام أبو مسلم الخراساني، بإنزاله من مكان صلبه ودفنه.

أمّا ما تبقى من حياته(ع) بعد انهيار الدّولة الأمويّة، لغاية استشهاده في عام (148هـ)، كانت فترة زاخرة بعطائه لسببين، الأوّل زوال الحكم الأموي البغيض. والثاني أنّ حركة العباسيين إبّان التهيئة لدورها رفعت شعار(الرضا لآل محمد)، لكسب الودّ الجماهيري لصالحها. وفي هذه المرحلة كرس الامام الصادق(ع) كلّ وقته وجهده لنشر تعاليم الاسلام الصحيحة، وتنشئة كوكبة من حملة العلم لينهضوا بمسؤولياتهم مستقبلاً، ((ليس من المبالغة والخروج عن الواقع، وصف مدرسة الإمام الصادق بأنها جامعة إسلاميّة، خلّفت ثروة علميّة وخرّجت عدداً وافراً من رجال العلم، وأنجبت خيرة المفكرين، وصفوة الفلاسفة وجهابذة العلماء، وقد عدّت أسماء تلامذته والمتخرجون من مدرسته، فكانوا أربعة آلاف رجل، وقد صنّف الحافظ أبو العباس بن عقدة، كتاباً جمع فيه رجال الصادق ورواة حديثه، وانهاهم إلى أربعة آلاف))(الإمام الصادق والمذاهب الأربعة/ أسد حيدر ج1 ص67). فقد تتلمذ على يديّه الشريفتين إمام المذهب الحنفي، أبو حنيفة النعمان بن ثابت الذي اشتهر قوله في حقّ الإمام الصادق(ع):(لولا السنتان لهلك النعمان)، وكذلك امام المذهب المالكي، الذي يقول في حقّ الإمام الصادق(ع) :((ما رأت عين أفضل من جعفر بن محمد))، وللمزيد عن ذكر هذه الشخصيات العلميّة مراجعة المصدر المذكور أعلاه.

لقد رافق الانحراف السياسي، انحرافات فكريّة وعقائديّة بسبب الممارسة الفاسدة للحكم، وكثرة الفتوحات التي فتحت الأبواب على مصراعيها، لدخول الثقافات الوثنيّة وفلسفاتها إلى  المجتمع العربي، فكثرت مدارس الكلام ومنابر السفسطة والزندقة، وكثر الملاحدة والشكّاكين، وكثرت الوشاية بين الناس، والتزلف للحاكم الذي كان يغري الناس بالمال والجاه، مثلما يخوفهم بالبطش على التهمة والظنة. وكان الإمام(ع) منبراً يذود بعلمه عن حياض الإسلام العقائديّة والفكريّة، من هجمات تلك الأفكار الفاسدة،((كان (جعد بن درهم) من الزنادقة يضل الناس ويغويهم، وقد جعل(وضع) في قارورة تراباً وماءً فاستحال دوداً وهواماً (كائنات حيّة)فقال: أنا خلقت هذا، لأني كنت سبب كونه. فبلغ ذلك جعفر بن محمد(ع) فقال: ليقل كم هو(أي يذكر عدد الدود والكائنات الأخرى)، وكم الذكر والاناث إن كان خلقه، وليأمر الذي يسعى(يتحرك) إلى هذا أن يرجع إلى غيره(اي يغيّر صورته وخلقته). قال بن حجر: فبلغه ذلك(لجعد بن درهم) فرجع(اي رجع عن قوله). وله مناظرات مع عبد الكريم بن ابي العوجاء وأصحابه وغيرهم من الزنادقة، فكان جوابه الفصل والحكم العدل))(نفس المصدر ص362).

كما لا يفوتنا ذكر فرق الغلاة الضّالّة، هذه الفرق التي تحمل عقائدأً وافكاراً بعيدة عن الإسلام وفكره التوحيدي، وهذه الفرق تحركها أهواء السّياسة، لغرض تشويه صورة مدرسة أهل البيت(ع) في نظر الناس. كما كان أعداء الإسلام في الخارج والداخل، يحاولون نشر هذه الأفكار وإلصاقها بمدرسة أهل البيت(ع) للتقليل من شأنها، و تنفير الناس منها، لأنّها تمثل صميم الإسلام وبيضته. فكان الإمام الصادق ومن قبله ومن بعده الأئمة المعصومين(ع)، يحثّون أتباعهم لمقاطعة الغلاة الكفرة، والبراءة منهم والابتعاد عنهم، وعدم جواز التعامل معهم، والزواج منهم والتزويج لهم. وكان الإمام الصادق(ع) يلعن أصحاب هذه المبادئ الفاسدة، الأمر الذي أدى إلى انحسار تأثير تلك الأفكار الهدّامة، على الإسلام وأهله حتى بادت وانقرضت تلك الفرق وأكلها الزمن.

ما تقدم من استعراض موجز، لجوانب واوضاع مختلفة احاطت بحياة الإمام الصادق(ع)، جعلته ينتهج خطاً رسالياً من شأنه أنْ يحفظ سمات وخصائص الإسلام ككلّ، ومن ثم دمج المجتمع الإسلامي بذلك المنهج. والهدف من هذا المشروع الشامل، صناعة الإنسان الصالح الذي به تصلُح الدنيا كلّها.  فأخذ يؤكد(ع) على مجموعة تعليمات، ويطلب من اتباعه تطبيقها والحثّ عليها، لتكن هوية المشروع الإصلاحي الجديد، منها:

1.   جمع كلمة المسلمين لأنها منجاة من الهلكة، والوحدة تعطي للمجتمع المنعة والقوّة. قال(ع): ((لا يفترق رجلان على الهجران، إلاّ استوجب احدهما البراءة واللعنة)).

2.   عدم الاحتكام إلى سلطات الجور، لأن في ذلك تفتيت لوحدة المجتمع، والحاكم المستبد يسعى لذلك، لتثبيت اركان حكمه من خلال تناحر أفراد المجتمع. ومن خلال ذلك عدم منح الشرعيّة للحاكم، ليكون وليّ الأمر، قال(ع): ((إياكم أنْ يخاصم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور...)).

3.   الدّعوة إلى الحق عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة، والتحبب إلى الناس. فكان(ع) يقول: ((كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسناً، واحفظوا السنتكم، وكفوها عن الفضول وقبح القول)).    

4.   كان(ع) يحث على صلة الرحم فيقول:((...قال رسول الله(ص) لا تقطع رحمك وإنْ قطعك)).

5.   كان(ع) يطلب من الناس كظم الغيظ لضمان وحدتهم وترابطهم الإجتماعي.

6.   مساعدة المحتاجين والمعوزين سراً وعلانية، منهج قرآني سار على هدية ائمة الهدى(ع) كلّ حسب ظروفه الموضوعيّة.

7.   اعتماد العلم كوسيلة مهمة للوصول إلى المجتمع الواعي الناضج، الذي لا يقع في شراك الجهل وآفات الوهم.

8.   تأديب جماعته(ع) على العمل الصامت، وهذا يعتبر رداً على منهج الحاكمين، الذين يستعرضون ما يقومون به من أعمال أمام الملأ، كدعاية لغرض كسب الشهرة والسمعة لخداع الناس. يقول(ع): ((كونوا دعاة للناس بغير السنتكم، ليروا منكم الاجتهاد، والصدق، والورع)).

لعلي لم أتمكن من أنْ اسلط الضوء، على كافة جوانب الموضع، بسبب الاختصار الشديد الذي يقتضيه الحال، ولكني بالتأكيد قد رسمت صورة بسيطة عن ملامح شخصيّة الإمام الصادق(ع)، تاركاً للقارئ الكريم مهمّة التوسع في هذا المجال. فسلام عليك يا ابا عبد الله الصادق، حين ولدت، وحين استشهدت، ويوم تبعث حيّا، لتشهد على جرم الظالمين.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1201 الاحد 18/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم