قضايا وآراء

(وتكلمت الحياة) للاديبة علياء الانصاري (4) / علي جابر الفتلاوي

لقاؤنا هذا سيكون مع رجال آخرين في حياة جميلة بطلة الرواية، جميلة امرأة متميزة بهدوئها وجمالها الملفتين للنظر، بأخلاقها التي تجلب الانتباه، جميلة الهادئة الخلوقة الجميلة، لم تخض او تدخل في تجربة حب مع أي من الرجال، علاقتها مع مازن لم تكن عن حب بل استسلام للامر الواقع، لم تبح جميلة بهذا السر لاحد، فقط اخبرت امها بتحرش مازن ابن خالها بها، فكان جواب الام لصالح ابن اخيها مازن، واجبرتها على السكوت، وحمّلتها نتيجة هذا الخطأ، سكتت جميلة على اثر هذا الموقف واستسلمت لمازن، وبقيت معه الى ان خُطبت من رعد وتزوجت منه وبقي سرها مع مازن مدفونا في قلبها، أمها أُجبرتها على الزواج من رعد رغم رفضها لهذا الزواج، استسلمت جميلة لارادة امها ايضا، هذه هي المرة الثانية التي تستسلم فيها لارادتها استسلمت لها عندما اعتدى مازن عليها واجبرتها على السكوت، واستسلمت لها عندما اجبرتها هذه المرة على الزواج من رعد، وهذا هو واقعنا، لا رأي للبنت في اختيار الزوج الا فيما ندر، وفي هذا ظلم كبير بحق المرأة، واخيرا مات مازن الطائش ومات سرّه مع جميلة والى الابد .

رعد زوجها هو رجل الابهة والاتكيتات، طلب منها ان تكمل دراستها، وفعلا التحقت بالجامعة، هنا في الجامعة التقت بزميل لها في الدراسة هو خالد، جذبت نظره (جذبني اليك ذلك الهدوء الذي كنت تتسمين به والذي يبعث هالة نورانية تحيط بك اينما ذهبت)  يعرف خالد انها متزوجة، لكنه تعلق بها واحبها، وهي تعامله كاخ لها، بقي حبه صامتا لا يبوح به لاحد، وبسبب حبه لجميلة عزف عن الزواج، واعتبر زواجه من أي امرأة خيانة لحبه وفق معاييره الشخصية (سأخون نفسي لو فكرت بأن هناك امرأة اخرى يمكن ان تبني عشا لها بالقرب من عشك) (لن أتزوج ياجميلة، الا بالتي اختارها قلبي) .

نحن وفق ضوابطنا الاخلاقية، والقيم التي نؤمن بها، يعتبر هذا الحب باطلا، وغير اخلاقي، لأن هذا الاختيار فيه شذوذ، وهو دعوة لهدم البناء الاسري، فهو اختيار شاذ وحب غير مبرر، ولا تسمح به الاعراف الاجتماعية ولا القيم الدينية والانسانية، حب المتزوجة حالة غير طبيعية، تجلب الاشمئزاز والقرف، وتظهر الانحراف النفسي عند الرجل، فمثل هذا الحب غير مقبول، ولا تسمح به الاعراف، ومثل هذا الحب مدان من الاديان السماوية، ومدان من الناحية الانسانية والاخلاقية .

اما موقف جميلة من خالد فهي تتعامل معه كأخ وزميل، على عكس تعامله هو معها اذ يعتبرها حبيبة يطمح للزواج منها، وهذا شذوذ وانحراف، نعم ربما يوجد في مجتمعنا من الرجال من يشبه خالد، لكن ان وجد فسيكون مثل هذا النموذج محتقرا ومهانا ومدانا لأن الزواج رباط مقدس لا يمكن التعدي عليه من الاخرين .

من الرجال في حياة جميلة مصطفى، ابن خالها واخ مازن لكنه يختلف عنه في السلوك مصطفى احب جميلة حبا صادقا نقيا، اراد الزواج منها، خطبها من امها قبل ان يخطبها رعد، لكن الام رفضته لانها كانت تبحث عن المال، رفضت مصطفى الفقير الحال الذي لا يزال طالبا، واختارت رعدا صاحب الثروة زوجا لابنتها جميلة، رغم عدم موافقتها للزواج من رعد، مصطفى الذي احب جميلة بصدق متوسلا بعمته :    (ارجوك ياعمتي ان لا تتسرعي بقرارك، المال ليس كل شئ، انتظريني عامين اخرين  سأتخرج وسأخطب جميلة) اجابته عمته :

(المال كل شئ يا مصطفى، فأن كنت لا تملك المال فماذا تملك لأبنتي) .

لم تدرك ام جميلة معنى الحب ولم تفهمه، ولا تعرف نتائج ذلك، لا تفكر سوى بالمال، هي نتاج الظروف الاجتماعية السيئة والمتخلفة السائدة في المجتمع، وبسبب هذه الظروف القاسية والمؤلمة والظالمة بحق المرأة، تقف بعض النساء بالضد من تطلعات نساء اخريات من بنات جنسهن، لم تنفع توسلات مصطفى بعمته، واجبرت الام جميلة للزواج من الشخص الذي لا تحبه ولا تريده .

بعد زواجها من رعد، كان مصطفى الوحيد الذي صُدم بهذا الزواج، قرر ان يبتعد عن جميلة، وان لا يقترب منها بعد هذا اليوم على امل ان يخرج حبها من قلبه، لكن هيهات بقي قلب مصطفى وفيا لهذا الحب، رغم زواجه من اخرى، وانجابه بنتين .

 بعد ثمان وعشرين عاما سمع بموت جميلة، صُعق بهذا الخبر، تألم تحسر وبكتمان شديد انفجرت دموعه ساخنة عندما تلقى خبر موتها، كلم نفسه (لم يكن هذا هو اللقاء الذي كنت اتمنى ان يجمعني بك ... صبرت كل تلك السنين، ابتعدت عنك تحاشيت اللقاء بك او رؤيتك، لعلي انسى، فلم انسَ يا جميلة ...) ودعها وهي تنزل في قبرها، وجاء لزيارتها في مراسم الاربعين  .

(عندما اقبلوا ليزوروا قبرها ضمن مراسم الاربعين التي تعارف عليها الناس جزءا من طقوس الموت ..

كان هناك من زارها قبلهم .. وترك عند قبرها أثرا .

فقد كان هناك تلة من التمر، مصفوفة بعناية فائقة على طبق زجاجي موضوع عند حافة القبر من جهة الرأس، وكان التمر طريا لم يمرّ على وضعه سوى ساعات قليلة!!

التفت رعد الى الحفار متسائلا : من صنع هذا ؟

أجاب الحفار بثقة : اعتقد انه ذلك الرجل الذي مابرح يزور القبر كل يوم، ربما جاء هذا الصبح  باكرا وفعل ذلك .

رعد في سرّه : رجل؟! من يكون ياترى ذلك الذي يزور قبرها كل يوم ؟!)

سؤال رعد هذا ينم عن غيرته عليها حتى وان كانت ميتة، وهو يؤشر ايضا على ان رعدا بسبب غيرته الشديدة هذه كان يتحكم بحياتها ويوجهها بالاتجاه الذي يريد من دون معارضة منها، لم تكن تمتلك حريتها تماما، او تتصرف بأرادتها، هي اشبه بالمستعبدة للاسف الكثير من الرجال يعاملون المرأة هكذا، بغض النظر عن مستواهم العلمي او شهاداتهم، والغيرة الشديدة التي تجلب المشاكل لاحد الطرفين انما تكون  بسبب فقدان الثقة، وتكون في احيان اخرى بسبب فقدان الحب بين الزوجين، اعني الحب الحقيقي، لم يعرف حب مصطفى لجميلة غير اختها صفية وكانت تحسدها لكثرة المحبين لها، لهذا كان موقفها سلبيا دائما من جميلة، وجميلة تعرف موقف صفية هذا، لكنها تكتم ردود فعلها كما هي عادتها، التفت رعد الى الحاضرين معه في المقبرة :

(.. لن يأكل احد منه

ثم ركله برجله لتتناثر حبات التمر على الارض ...

ولا تدري صفية لماذا شعرت بوخزة في قلبها .. ثم ابتعدت عن الجمع لتلتفت وراءها فتجد شبحا خلف القبور ينظر اليهم من بعيد، عرفته رغم بعد المسافة، تساقط دمعها .. ليتحول الى نحيب مزق صمت المكان .

وعندما عاد مصطفى في ذلك اليوم من المقبرة بعد ان رأى كيف ركل رعد تلته التي قضى ساعة كاملة يصفف في تمرها، ليهديها الى جميلة في اربعينيتها، شعر بأن امنيته التي تمناها وهو يضع آخر تمرة في اعلى التلة، ستتحقق .)

ترى ما هذه الامنية ؟ احداث الرواية تقول انه تمنى الموت، بسبب فقدان جميلة، واليوم وقد رأى بعينيه نزول جميلة في قبرها، فلا مبرر في استمراره بالحياة، ياله من حب صادق وعميق وحقيقي وشريف، طيلة فترة زواجها لم يلتقِ بها ولا يريد ان يراها، لكن عندما ماتت تحرك قلبه الذي ينبض بالحب الصادق، لم يتذكر زوجته، ولا بنتيه، استحوذت جميلة على  قلبه، وتمنى الموت .

(لذلك اخرج هاتفه الجوال وكتب هذه الرسالة الى صفية : ((ابنة عمتي صفية : عندما ذهبت هذا الصباح الى المقبرة لأصنع تلك التلة هدية اليها في اربعينيتها، تمنيت وانا اضع اخر تمرة في قمة التلة، أمنية كما كنا نفعل صغارا .. تمنيت ان التحق بها سريعا، لأكون الى قربها، تلك الامنية التي لم تتحقق هنا، لعلها تتحقق هناك .. فان تحققت أمنيتي، فأرجو ان تسامحيني على جفائي تلك السنين، أريد ان أخبرك بأني قد سامحتك  وقد تطهر قلبي من كل ذلك الحقد الذي سكنه تجاه أمك وتجاهك ..)

(في اللحظة التي دخلت فيها صفية الى بيتها، رنّ هاتفها معلنا استلام رسالة . فتحت جوالها لتقرأ رسالة مصطفى) قرأت رسالة مصطفى، وابكتها كما ابكاها مصطفى في المقبرة، (اخفت جوالها في جيبها … حتى صباح اليوم التالي عندما رنّ ثانية، لتجد صوت أبنة خالها الكبرى يجهش بالبكاء، صفية ! مات مصطفى !!)

تحققت الامنية التي تمناها، انتقل مصطفى الحبيب الحقيقي لجميلة بسرعة الى الدار الاخرة ليلتحق بحبيبته هناك، تاركا زوجته وبنتيه، هذا النوع من الحب نادر الوقوع، وصعب التحقق في الحياة .

اقتبستُ نصوصا من خاتمة الرواية، لاهميتها في بيان المغزى من الرواية، الرواية باحداثها المثيرة، تجلب الانتباه، وتشدّ القارئ اليها شدّا، فيها تحليل نفسي دقيق وعميق لبعض الشخصيات في الحياة، من الرجال والنساء، فيها الحب الحقيقي، وفيها الحب الشهواني، وفيها العواطف الصادقة والكاذبة، الرواية فيها تشريح لبعض الشخصيات في مجتمعنا تشريحا دقيقا وصائبا، فيها نماذج للظلم الذي تتعرض له المرأة في مجتمعنا فيها سبر لاغوار نفسية المرأة العراقية خاصة، في الرواية تشريح لظلم الرجل للمرأة، وظلم المرأة للمرأة، بفعل العادات والتقاليد، وفيها ظلم المرأة لذاتها، بسبب الظروف الاجتماعية القاسية التي تعيش تحت ظلها الكثير من النساء، اللواتي يستسلمن لهذه الظروف من دون ادنى مقاومة، في الرواية عرض لظلم بعض الرجال للمرأة بحكم العادات والتقاليد المتخلفة، والتي يلبسونها احيانا لباس الدين زورا وبهتانا .

تحياتي للاديبة البارعة الاستاذة علياء الانصاري ودعواتي لها بالتوفيق، والى مزيد من الابداع والتألق .

 

علي جابر الفتلاوي

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2174 السبت 07/ 07 / 2012)

في المثقف اليوم