قضايا وآراء

تطور الفلسفة الأوروبية / جعفر المزهر

 

ليس خافيا على المهتمين بتطور الفلسفة بشكلها العام، بأن الفلسفة الغربية الحديثة ما هي الا نتاج لحراك اجتماعي وسياسي واقتصادي ، وهي لم تأت نتيجة أوامر عليا ، او هي مشروع ترفي أرادته نخبة حاكمة لتتمايز به على الحقب التاريخية الاخرى كما كان حاصلا في المراحل التأسيسية الاولى في فلسفتنا الاسلامية .

ان الفلسفة الغربية – واقصد بها هنا الفلسفة ما بعد المدرسية الأرسطية – جاءت ونشأت بالأساس كمدافع عن حرية العلم ومحاربة الخرافة التي كانت الكنيسة واللاهوت المسيحي تطبع بها حياة الغربيين والمسيحيين بشكل عام ، فتصدي غاليليو وبيكون في أواسط القرن السابع عشر ودفاعهما عن العلم ونتائجه كانت كلها لحاجة انسانية احتاجها المجتمع الأوربي انذاك ، والذي وصل في وقتها الى ذل انساني ومعرفي اركسته فيه الكنيسة وخرافاتها ، وجعلته يتخبط في مجاهيل الخرافة والخنوع للحكومات المستبدة وسلطة الكهنوت، ولم تذكر سير غاليليو وبيكون وأتباعهما ان إيمانهم بالعلم وما اوقعته عليهم الكنيسة من اضطهاد جعلهم يكفرون بالله ، نعم قد يكون كثير منهم لحد بالدين لكن ليست هناك إشارات تشير انهم كفروا بالله،( والفرق معروف عند العارفين بالفلسفة بين الكفر بدين معين وبين الكفر بالله وعدم الايمان بوجوده ) .

إن فلسفة أواسط القرن السابع عشر كان جهدها الأساس ينصب على عقلنة اللاهوت المسيحي ودحض الخرافة وإعلاء شأن العقل ورفعة العلم ، وكانت هذه الحقبة تمثل الانطلاقة والبداية لمشروع الفلسفة التنويرية وليست النهاية، ولم نلمس والى يومنا هذا اي بيان يدعي اكتمال الفلسفة العلمية التجريبية او الفلسفة بعمومها في اوربا ، فما زالت الفلسفة في اوربا ليومنا هذا تنمو وتزدهر وترفد الحقول الاجتماعية والاقتصادية والسياسية برؤاها المعرفية – نعم كان هناك موقف سلبي من قبل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي سنة ???? اتجاه النشاط الفكري الدائر بين مدرستي المادية الميكانيكية وبين المادية المثالية المنشفية، وهذا النشاط لو لم يُحرّم من قبل السلطات السوفيتية لكان ينبئ بحياة فكرية مختلفة في الاتحاد السوفيتي ، ولما جمدت الحياة الفكرية عندهم واصبحت فيها اللجنة المركزية مثل الكنيسة تفرض رؤية واحدية على المجتمع ونخبه الثقافية، هذه الرؤية السلطوية هي عبارة عن إلزام حزبي ب: قراءة الماركسية او المادية التاريخية برؤية للنينية لا غير ، وحتى تعليقات مفكري الدولة السوفيتية ومثقفيها فرض عليها ان تقع تحت سقف الرؤية اللينينة لا غيرها من قراءات . سقت هذه الصورة السوفيتية للامانة المعرفية ، مع ان الدولة السوفيتية لم تكن تمثل الحياة الغربية او المسيحية وانما منظومتها الفكرية هي من منجزات الفلسفة الأوربية ، وبقيت أوربا الغربية لم تعترف في اغلب اكاديمياتها ب( القراءة الينينية ) للمادية التاريخية التي انتجها ماركس اونجلس .

إذن ، لم يبق المشروع الفلسفي التنويري الذي انطلق في أواسط القرن السابع عشر جامدا على حاله وعلى ماديته البدائية التي انطلق بها غاليليو ورهطه من العلماء حتى بعدما تفاقمت النزعة المادية في القرن التاسع عشر والتي توجت فيه كمذهب مادي صارم يؤمن بأزلية المادة ، فلم يُخْف نيوتن او ماركس او أنجلس او دارون صاحب نظرية النشوء والارتقاء من جاء بعدهم من فلاسفة وعلماء في ان يواصلوا التحليل والدرسة ، وان لا يجمدوا على ما قاله الفلاسفة والعلماء الاسبقين اصحاب المذهب المادي الصارم ، ومن هنا رأينا ان الحقب اللاحقة تفجرت وبزغ عنها نظريات جديدة في كل الاتجاهات المعرفية والإنسانية ، فلقد تم إثبات ان المادة ليست أزلية واثبت تجريبيا على عدم أزليتها ، فلقد استطاع أينشتاين وبور وغيرهما من علماء الفيزياء في القرن العشرين ان يثبتوا ان الذرة ليست اصغر جسيم يمكن معرفته كما قال نيوتن ، وان الزمان ليس مطلقا كما كان يقول به اصحاب المذهب المادي الصارم ويتبعه المكان والحركة فلقد تم تجريبيا إثبات نسبية هذه العناوين الثلاث ، وتم اعادة الجدل الفكري وتفجيره من جديد حول المادة وعدم اسبقيتها على الوعي في هذا الكون كما كان يقول به اصحاب المذهب المادي الصارم ، ومع كل هذا الحراك المعرفي في هذا المجال العلمي والتجريبي ، بقيت رؤية هيغل باسبقية الوعي على المادة تشكل هاجسا فلسفيا ومختبريا في جامعات الغرب ومراكز أبحاثه ، ولم يتم التسليم التام لدارون ونظريته النشوء والارتقاء الى يومنا هذا ( قبل ايام اكتشف علماء احياء غربيون انسان في اثيوبيا يسبق بمليون سنة تقريبا انسان دارون المشترك مع الشمبازي في فصيلة واحدة ) وهذا الاكتشاف يمثل نقلة نوعية في عدم التسلم لنظرية دارون الذي بنيت عليها جل التوجهات المادية في اصل الانسان وطبائعه الاجتماعية .

اما في علم النفس فلقد حدثت انقلابات نوعية على المبادئ السلوكية التي انتجها فرويد وفق رؤى مادية صارمة ، فلقد اصبح علم النفس يعالج أحداثا ذاتية مثل ( الأفكار الباطنية والمشاعر والصور الذهنية ) وهذا لم يكن معترفا به في علم النفس الميكانيكي الذي يركز على الغرائز كمعطى اساسي في تفسير السلوك الإنساني ، وهذا التطور الذي حدث في سبعينات القرن العشرين هو نتاج مباحث وتجارب اكلينيكية في علم الأعصاب وليس نتاج خيال علمي بحت حتى يرفض من قبل الماديين ، ويثبت رائد علم الأعصاب روجر سبري ان " الخواص المخية العليا للعقل والوعي هي التي تملك زمام الامر " وليس الحواس الخمس ، وان هذا الوعي والعقل ليس له حيز فسلجي كما كان يصوره اتباع المذهب المادي الصارم .

اما في مقولة الجمال وهي من اهم المقولات الفلسفية بعنوانها معطى اساسي في المعرفة ، والتي رفضها الماديون، وجيروا هذا الرفض في السابق على مفاصل مهمة في الحياة الأوربية ، ورفضهم قام على اساس ان الجمال ليس له خواص كمية مثل( الوزن والعدد والحجم والشكل ) ولهذا هو ليس صفة من صفات الطبيعة ، وتم حصر الجمال عندهم على مستوى علم النفس و في دوائرالغريزة والشعور الجنسي لا غير وهذا ما عبر عنه فرويد في (الهذيان والأحلام في الفن) .

اما اليوم فإننا نرى الفزيايئيين يؤكدون ان مجال عملهم الفيزياء تقوم سائر قوانيه بالأساس على الجمال وجوانبه الفلسفية الثلاث : ( البساطة والتناسق والروعة ) يقول العالم الفيزيائي الكبير هايزنبيرغ عن الكون بانه قائم على " تناسق جمالي وانسجام بين الأجزاء بعضها مع بعض ومع الكل " وهنا تكمن مقولة ان الجمال من صفات الكون ، وليس من توابعه الشعورية ، كما كان يقول الماديون . ويؤكد اليوم جل الفيزيائيين ان من دون جوانب الجمال الثلاث ( البساطة / التناسق / الروعة ) لا يمكنهم تصور كل النظريات العلمية في الفيزياء وأكدوا بشكل قاطع ان الجمال خاصة من خواص الطبيعة، وبهذه الخاصية دشنوا طريقا للعلاقة بين العلوم وبين الفنون ، وهذا يخالف ما نظّر له الماديون في ان الجمال ليس من الصفات الاصيلة ، بمعنى انه ليس حقيقة مطلقة في الاشياء ، وهو عندهم من الاثار الناتجة في نفس الانسان وفقط من خلال إحساسه وغرائزه .

هذه هي الصورة الموجزة التي مرت بها الفلسفة والعلوم داخل أوربا ولم تنحصر الفلسفة في أوربا باتجاه او اطار مذهبي محدد كما يتصور كثير من مثقفينا العرب ، فما انطبع في أذهاننا وبشكل بدائي على ان العلوم وفلسفتها في أوربا قد وقفت على اتجاه علمي محدد ومذهب فلسفي واحد وهو المذهب المادي ، امر لا يمثل الحقيقية المعرفية التي تعيشها أوربا، وقد يكون السبب في هذا التصور يقع على عاتق كل الأطراف العاملة في الحقول المعرفية والثقافية سواء كانت أوربية او عربية ، فليس من المعقول ان نبقى نكرر ذات المقولات والرؤى المبتورة عن الفلسفة الأوربية والتي سادت في مكتبتنا العربية في خمسينيات القرن الماضي ونقيم على أساسها تحليلاتنا الثقافية او مقالتنا الفلسفية المقارنة بين إلانا والآخر ، فنحن اليوم مطالبون ان يكون فهمنا للآخر فهما تاما وناجزا وبعيدا عن التصورات الذهنية الغير مكتملة التي تسيدت وما زالت تتسيد المشهد الثقافي العربي جراء سياسات حزبوية لا تريد لنا ان نغادر أنماط التفكير الكلاسيكية والتي بنت عليها هذه الحزبويات أهم مشاريعها الفكرية ، سواء كانت هذه الاحزاب أحزاب موالية او احزاب معارضة للمشاريع الفلسفية في أوربا، مثالهما ( الاحزاب الشيوعية والاسلامية في منطقتنا ) .

ان تغيير الرؤية النمطية — اتجاه الفلسفة الأوربية المتحركة والمنفعلة دائما بتحولات جوهرية — يعد بالنسبة لنا كعرب ومسلمين أمرٌ مهم وحيوي في مجال تعميق وتطوير رؤيتنا للآخر ومدخلٌ معرفي وأكاديمي في تطوير مناهجنا العلمية التي ما زالت " ومع شديد الحزن " تدور في فلك الرؤية الاكلاسيكية التي سادت في بدايات القرن العشرين .

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2188 السبت 21/ 07 / 2012)

في المثقف اليوم