قضايا وآراء

ثقافة الاقتناء بين اللوحات والكتب .. والخناجر والسيوف / مهدي الصافي

والمستنسخة للصور التاريخية لحروب الطوائف في العصر الجاهلي (كما هي أيضا تعتبر من الموروثات الشبه عامة، لبقية الشعوب والأمم في العصور القديمة ، وحتى نهاية العصر الوسيط بما فيها أوربا، إلا إن عصر النهضة والأنوار والحداثة قلبت تلك المعادلة بشكل نسبي ملحوظ، وأصبحت الأنظار فيما بعد موجهة إلى الشعوب المسماة عندهم بالشعوب المتوحشة)،

والمتفاعلة مع الموروث السياسي الديني لدول الخلافة (الأموية والعباسية والعثمانية)، التي كانت تحكم بالحديد والنار، حيث كانت تمارس عملية تقطيع الأطراف الجسدية بما فيها اللسان والرأس ، كعقوبة رادعة خارجة على الشريعة الإسلامية،

فهي ظاهرة بدوية زحفت إلى المدن، وأصبحت في بداية نشوء الدول العربية الحديثة سمة من سمات الأنظمة السياسية الحاكمة،

التي استطاعت ان تستثمر الشعارات التحررية القومية والدينية لبناء أجهزتها القمعية، فكانت تستعين بالجهلة لتمرير مشاريع تخوين المعارضين لها، وممارسة عملية الإقصاء والتهميش والإذلال المتعمد للمواطنين

(مع إن أول مهندسي الأجهزة الأمنية القمعية في المنطقة والعالم هي أمريكا كما حصل في بدايات تأسيس جهاز السافاك الإيراني في عهد الشاه)،

وبعد ان اجتاحت منطقة الجزيرة العربية الحركة الوهابية المتطرفة، والتي تحولت فيما بعد إلى حركات سلفية مختلفة، مدعومة من دول البتر ودولار، تغيرت الأمور واختلفت التأويلات، وانتشرت ثقافة التكفير والذبح وقطع الرؤوس، وخصوصا إبان حكم الطالبان في افغانستان، وتكون مايسمى بالأفغان العرب،

فهي تعتقد إن الخروج على الحاكم السافل المنحط ، والزاني والمنحرف، وشارب الخمر، الذي لم يعلن كفره على الملأ باطل وغير جائز، لكنها تساعد الإرهابيين للخروج على الحكومات المعارضة للسياسة الأمريكية-الإسرائيلية الامبريالية في المنطقة (كما يحصل في سوريا ومحاصرتهم لإيران)،

تحت شعار غريب عجيب"الشيعة أو العلويين اخطر من إسرائيل"، متهميهم بالكفر ، ولهذا يجوز الخروج عليهم أي الحكام وشعوبهم، مع إن الرئيس بشار الأسد اعترف انه لايعرف شيئا عن طقوس وعادات العلويين (ويصلي أمامهم في المسجد بالطريقة السنية المعروفة)،

هذه الثقافة المدمرة بدأت تنتشر في أوساط الشباب العربي الهائج على حكومته وأجهزتها الاستبدادية،

المتابع لأحداث سوريا يجد تكرار ظواهر العنف المفرط ، التي انتشرت فيما سبق في العراق وليبيا ومصر والبحرين واليمن وحتى تونس (الخ.)، من كلا الجهتين أو الجبهتين ، النظامية الرسمية أو الحكومية ، والمعارضة من جهة أخرى، الكل تعود على ثقافة إذلال الأخر والتفنن في تعذيبه،

متناسين الأخلاق العربية الأصيل (التي لم يعرف عن شرفائهم الإجهاز على الأسير أو قتل الدخيل أو المجاور لهم والتمثيل به، وهذا لايعني كما ذكرنا سابقا انه مجتمع رقيق ليس فيه ظاهرة العنف، ولكن هناك فرق بين القيم الاجتماعية وبين هذه البيئات المحتوية على تلك الظواهر البدوية)، وسماحة روح الإسلام وشريعته الإنسانية، بعد ان استطاعت الدول الداعمة للإرهاب، إن تغير وجه الحياة العربية،

فصارت مسألة اقتناء السيف والخناجر والأسلحة النارية المتوارثة أبا عن جد (والتي لازالت بعض الشعوب العربية تضعها على خصرها وهي تتجول في الشوارع كما في اليمن وعمان وغيرها) وسيلة ثقافية لتشجيع عمليات الإرهاب المتفشي في المنطقة، كظاهرة قطع رقاب الضحايا وتعذيبهم لأتفه الأسباب ، ومن ثم تصويرها وبثها على الشبكة الالكترونية،

تفوقت هذه الثقافة على ثقافة اقتناء اللوحة ، أو الكتاب المفيد أو الصحيفة الهادفة أو حتى التحف الفنية الجميلة،

ترى مالفرق بين الثقافتين؟

وكيف يمكن ان تواجه تلك المجتمعات الغارقة في وحل العنف والجريمة والإرهاب المنظم؟

وبأي سلاح مدني حضاري يمكن إن تحاربها؟

 

لتوضيح هذا الأمر نرى على سبيل المثال،

لو أن أي شخص وضع في بيته أو غرفته أو مكتبه الخاص لوحة فنية لمنظر جميل، ووضع في الجهة المقابلة لنفس المكان سيفا أو خنجرا أو سلاحا ناريا،

من الطبيعي ان تكون الأشعة التأملية للوحة مختلفة عن الجهة المقابلة، منظر اللوحة يعطيك انطباعا معينا عن فحوى ومحتوى تلك اللوحة، بينما لايعطيك السيف في بادئ الأمر، إلا صورة مباشرة عن لغة الدم، الموزعة على مختلف الاحتمالات المرئية أو التأملية، تنقلك إلى عالم الثقافة الباطنية التي خزنتها ذاكرتك،

(التي تغذيك وتتحدث إليك عن صورة قطع الرؤوس والألسن والأطراف، واذكر في يوم من الأيام أرسل لي طبق من احد الجيران ، أكلة عراقية تسمى الباجة وهي رأس الخروف بمحتوياته الأخرى، وقد قطع اللسان إلى عدة قطع ، وما ان وقع بصري عليه، حتى ظهرت أمامي مشاهد قطع الألسن التي مارسها فدائيي صدام بحق معارضيه)،

ومن ثم يمكنها ان تعطي وتسد حاجتها في التعليق على حائط البيت، موحية في نهاية المطاف بمشهد متعارف عليه اجتماعيا، من مشاهد الحروب والبطولات التي استعملت فيها، ولكن الأجيال التي لم تحمل تلك الأسلحة ، لا يمكنها ان تستحضر تلك الصور ، ولاتجد أمامها غير صورة العنف ولون الدم التي تخرج منه.

ان ضرورة تعميم ثقافة اقتناء اللوحة، أو الكتاب والتحف الفنية، وتشجيع قراءة الصحيفة والمجلات، تحتاج إلى جهود الدول والحكومات والمؤسسات الرسمية المعنية بتخفيف حدة العنف المستشري في مجتمعاتها،

ليس من خلال فرض الرقابة والتوجيهات والأوامر والأمزجة الشخصية لتشجيع انتشار تلك الظاهرة المدنية، بل عن طريق دعم الحركة الثقافية والفنية ، والعمل على الترويج لبضاعتها الإنسانية والأخلاقية،

عبر توجيهات مباشرة وغير مباشرة لجميع الدوائر والمؤسسات والأجهزة الحكومية من اجل اقتناء تلك المرطبات النفسية، بتفعيل دور القطاع الثقافي والفني والأدبي بين أبناء المجتمع المتعلم اولا (الموظفين الحكوميين)،

مع مساهمتها بتوفير قسط معين من الاكتفاء المادي أو المالي للمهتمين بتلك المجالات الحيوية، وبالتالي تحقق عملية أحداث نهضة ونقلة نوعية في طريقة توعية المجتمع ، وتقليل فرص انتشار أجواء التوتر الاجتماعي والنفسي.

إن الدولة التي لا ترعى ثرواتها الثقافية والأدبية والفنية والفكرية دولة فاشلة تراوح في مكانها ، ولن يكتب لها التقدم والازدهار مهما فعلت،

ولكن إن حاولت ان تتدخل في رفد تلك الينابيع الدائمة الجريان ، فليس عبر وسيلة الإركاع المتخلفة

(كشروط توزيع قطع الأراضي والمنح المالية، والتدخل بعمل المؤسسات الثقافية والأدبية والإعلامية، تحت تهديد المساعدات وقطع الأرزاق أو الطرد من العمل)، وإنما تأتي وفقا لطبيعتها وسياقات عملها المستقل،

ولنضع مثالا هنا أمام القارئ حول تشجيع ودعم تلك الظاهرة(ظاهرة اقتناء اللوحات والكتب والصحف اليومية):

اولا:يجب إن تخصص اغلب الدوائر الحكومية شيئا من موازنتها المالية، لشراء اللوحات الفنية والكتب الثقافية(في مكاتب كل الوزارات ودوائرها أو المديريات التابعة لها في العاصمة والمحافظات والمدن وحتى مكاتب القرى والأرياف)

ثانيا:اقتناء اللوحات الفنية (المرسومة عراقيا)للمستشفيات والمستوصفات الصحية، وكذلك تشجيع العيادات والمستشفيات الخاصة لتنقية الأجواء النفسية للمريض في مراكزهم(بحيث تكون مسألة عدم وجود لوحات فنية أو صالة للقراءة أو المطالعة البسيطة من قبل اللجان التفتيشية الدورية المتابعة لنظافة العيادات أو المستشفيات العامة والخاصة أمرا مهما في تقييم درجة ملائمة تلك الأماكن للمريض )

ثالثا:تشجيع المدارس والجامعات والمعاهد والمراكز العلمية والبحثية والتعليمية على إتباع هذه الثقافة (اقتناء اللوحات وفتح مكاتب مدرسية)

إضافة إلى ذلك يجب إن تهتم وسائل الإعلام والفعاليات الثقافية والفنية والادبية بتطوير هذه الثقافة الاجتماعية المهمة، وكذلك ضرورة اهتمام بقية المؤسسات والأجهزة الأمنية والخدمية بتفعيل هذه المشاريع المدنية البعيدة المدى، والتي لها تأثير مباشر في تغيير نمط العيش والتفكير والثقافة والبيئات الاجتماعية العربية والعراقية تحديدا،

وإلا كيف يمكن لنا إن نرد على هذه الفضائح الاجتماعية والأخلاقية وحتى الدينية التي انتشرت عبر الشبكة الالكترونية لمشاهد الرعب والتعذيب السادي البشع للإنسان، لأسباب اقصائية تافهة ، عبرتها الشعوب المتحضرة منذ قرن تقريبا

 

(يصعب لنا إن نجد في الشبكة الالكترونية الكثير من مشاهد تعذيب وذبح متعمد لبقية الدول المعروفة بسجلها الإرهابي، وبممارستها لعمليات إرهاب الدولة المنظم ضد المواطنين العزل كإسرائيل مثلا، مع إنها مارست عمليات القتل الجماعي المتعمد ضد الفلسطينيين واللبنانيين منذ نشوئها، لكنها لا تستعمل الوسائل والطرق البدائية الهمجية التي تستعملها الجماعات الإرهابية المدعومة خليجيا ، كما حصل في العراق ويحصل اليوم في سوريا، أو يمكن أيضا ان نقارن جرائم نظام صدام أو جرائم الأنظمة العربية الشمولية البائدة أو التي لازالت قابعة على سدة الحكم وبين فضائح الجيش الأمريكي في قضية سجن ابو غريب، لنتعرف على حجم الهمجية، واعتقد إن رد فعل حماية السيد رئيس الوزراء الحالي في حادثة ضرب الرئيس الأمريكي السابق بوش بالحذاء في بغداد وحماية هذا الأخير تشرح الفرق بدقة)

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2197 الاربعاء 1/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم