قضايا وآراء

الربيع العربي .. إسلاموي بامتياز! / حسين درويش العادلي

المنتجة للتحرر السياسي والعدالة الإجتماعية والسلم والتعايش والتضامن الأهلي والإقليمي،.. غدى مركزاً منتجاً لمركزيات شمولية اسلاموية، ومركزاً منتجاً للجبهات الطائفية، ومركزاً منتجاً لمجاميع الإرهاب والكراهية والتمييز.

يوماً بعد يوم تتكشف احتماليات المجهول الذي ينتظر شعوب الشرق الأوسط بفعل ابتلاع التغيير اسلاموياً، فما بات يعرف بالربيع العربي لم ينتج بعد مرتسمات الدولة المدنية المفعمة بالحقوق والحريات والعدالة الإجتماعية، لم يفرز بعد معالم نموذج الدولة المتحررة من الشموليات والطبقيات والإنتهازيات الآيديولوجية،.. وما آل إليه الواقع في أكثر من دولة تحررت من قبضة الإستبداد –أو مازالت- خير دليل على ذلك،.. لقد تسيد التغيير المركزيات الآيديولوجية الشمولية المتعصبة، وتهدد السلم الإجتماعي بقوة جراء انتشار وباء الطائفية الدفين، وتكاثرت مجاميع الكراهية والإرهاب لتهدد السلم الأهلي بالصميم.

 

الواقع المخترق

لأنَّ الثورات الشرق أوسطية لم تستند الى صيرورة مدنية تاريخية متراكمة تعرف ما تريد ولها حملتها وقواها الصلدة.. فإنها نجحت بالتغيير إلاّ أنها رهنت التحول برسم المجهول، والمجهول تتحكم به قوى الإختراق، وأكثر قوى الإختراق مهارة هي القوى الشمولية الآيديولوجية والسلطوية الإسلاموية بالأخص. والأخطر أنَّ التحولات الشرق أوسطية فتحت الباب واسعاً لمجاميع الفوضى والإرهاب والتعصب.. وأيضاً غدت الشعوب مرتعاً لأجندات التلاعب الإقليمي والدولي التي تتغذى على التناقضات التاريخية والراهنة.

 

لمن الربيع؟

الربيع العربي.. حدث القرن الحادي والعشرين.. هل هو ربيع الحقوق والحريات والعدالة الإجتماعية؟ هل هو ربيع القيم المدنية العمود الفقري لفلسفة الدولة الحديثة؟ هل هو ربيع الشعوب والطبقات المهمشة والمسحوقة والمحرومة؟ أم هو ربيع الشموليين الآيديولوجيين والإنتهازيين الميكافيليين؟ هل هو ربيع الأغلبيات المجتمعية المسالمة أم هو ربيع مجاميع الإرهاب والكراهية وعصابات السطو السياسي؟ هل هو ربيع التحول الجذري في طبيعة أنظمة الحكم القائمة على الإستبداد والإستعباد والإستبعاد أم هو إعادة استنساخ لها بعناوين جديدة مع انفتاح الواقع على احتماليات أكثر دموية وسحق وصدامات كبرى.

خلافاً للصورة الوردية التي رسمها الحالمون (المدنيون) لمستقبل شعوب ودول المنطقة، فإنَّ الربيع العربي كان وما زال ربيعاً للقوى السياسية الشمولية وعلى رأسها القوى الإسلاموية وأيضاً لمجموعات الإرهاب والتعصب، وكان وما زال ربيعاً لمخططات وأجندات مصالحية دولية واقليمية أقل ما يقال عنها أنها مصالحية بحتة لا تتصل بتطلعات شعوب المنطقة.

 

مفارقة

القوى التي استفادت من الربيع العربي لم تخلقه بل وظفت نتائجه،.. فالثورات الشرق أوسط فجرتها الطبقات المسحوقة وفئات الشباب المدني الحالم بالحرية السياسية والعدالة الإجتماعية،.. أي لم تفجرها الأحزاب المؤدلجة الإسلاموية وحتى القومية أو اليسارية.. فمنذ التكوين الحديث لدول المنطقة لم تستطع أية قوة حزبية مؤدلجة النيل من أي نظام سياسي حاكم إن لم تكن هي النظام الحاكم نفسه أو جزءً من كتلته التاريخية أو جزءً من لعبته وأدواته..  لقد نال من نموذج الدولة الشرقية الفاشلة الفئات المسحوقة والطامحة للعدالة... فبفعل تراكم الإستبداد والتمييز والحرمان وانتفاء العدالة الإجتماعية والإقتصادية، وبفعل فشل نموذج الدولة الشرق أوسطية في فلسفتها وسياساتها.. ثارت الجماهير المسحوقة والحالمة البسيطة والمدنية لتغيير الواقع،.. في تونس أشعل ثورة التمرد فيها الشهيد بوعزيزي.. وبوعزيزي هذا لم يكن قائداً أيديولوجياً، لم ينتم لحزب مناضل أو جهادي أو آيديولوجي.. بوعزيزي هذا إنتاج أرصفة الحرمان.. وعربته (رمز الثورة) وليدة أرصفة الجوع المتوج بالذل... عقود متوالية لم تنل الأحزاب الآيديولوجية بكل تنظيراتها وخطاباتها وتكتيكاتها من كيان النظام التونسي.. لقد نال منه جسد بوعزيزي الذي نخره الحرمان، ونالت منه عربة الرصيف رمز كدح الإنسان الشرقي. لكن.. ولكن.. مَن استفاد من التغيير؟ مَن وظفه ليسود.. إنها الأحزاب الآيديولوجية الإسلاموية بالأخص.

في مصر.. تعاهدت ثلة من الشباب الحالم بالدولة المدنية على إحداث التغيير.. تكاثر عددهم بفعل الإصرار ليحتضنهم ميدان التحرير.. فانضمت إليهم الفئات المهمشة والمسحوقة... وما أن سقط النظام حتى ابتلع التغيير الإسلام الإخواني السلفي.. وها هو يبتلع الدولة.

بالمناسبة: هناك قدرة مضاعفة لدى الإسلاموية السياسية في الإحتيال على الجمهور والواقع، إنها تحتال على العقيدة الدينية عندما تحولها الى آيديولوجيا سياسية، وتحتال على المتدينين البسطاء عندما تستخدم المقدس للوصول الى السلطة، وتحتال على الديمقراطية عندما تقزمها بالإنتخابات،.. والأغرب أنها تتلون بلون الواقع ولا تشم لها رائحة قيمية تميزها كقوة آيديولوجية، فمثلاً هي ضد التدخل الأميركي في هذا البلد ومعه في بلد آخر! مع التدخل الأطلسي هنا وضده هناك! هي رافضة للتعاون مع الإحتلال وتعمل في ظله ومستفيدة منه! والأنكى وبمجرد وصولها للسلطة فإنها لا تعمل وفق مقتضيات خطابها الإسلاموي السياسي بل وفق مقتضيات السياسة البراغماتية الصرفة، فتراها تقيم تحالفات ستراتيجية مع هذه القوة (الإمبريالية) أو تلك، وتبقي على تعهدات الدولة التي تخالف ثوبها العقائدي، إلا أنها مع ذلك تبقي على خطابها وهويتها الإسلاموية لتضمن كسب الجمهور البسيط. هكذا نرى إسلامويون مع الغرب وضده في آن واحد، مع الديمقراطية والمواطنة والمدنية في حين أنَّ خطابهم العقائدي يرى فيها كفراً!!

 

أين المشكلة؟

ليست المشكلة في الدين الفطري المنتج للتسامح والمؤسس للفضيلة، وليست المشكلة في المتدين المعتز بهويته العقدية والسلوكه الديني، وليست المشكلة في أحقية أي مواطن كان في المشاركة السياسية –بما فيهم المتدين- لإعادة بناء الدول الخارجة تواً من براثن الإستبداد والتمييز والحرمان،.. الخطر كل الخطر يكمن في الشموليات السياسية الآيديولوجية،.. لقد جرب التاريخ حظ الشموليات اليسارية والقومية، ورأينا كيف تم نحر مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية على يد هذه المدارس السياسية،.. واليوم تقع التجربة التاريخية بيد الإسلاموية السياسية الشمولية المتخندقة طائفياً،.. هنا تكمن المشكلة، فهذه المدرسة لا تحمل مشروعاً مدنياً واضحاً وحاسماً للدولة التي هي المأزق، ولا تمتلك وضوحاً حاسماً لملفات المواطنة والتعايش والثقافة والإقتصاد،.. وما دامت المجتمعات المنتجة للتغيير لم تتأهل لتكوّن قاعدة صلبة لبناء نموذج دولة المواطنة المدنية، فإنها ترهن التحوّل بيد المجهول الذي تتحكم باحتمالياته قوى التعصب الديني وآيديولوجيات التسلط ومجاميع الإرهاب والكراهية.

 

احتماليات مخيفة

بفعل غياب المركزيات المدنية قيماً وقوى وثقافة في مجتمعات الشرق الأوسط، فإن احتمالية انتاج شرق أوسط مدني متضامن ومزدهر ما زالت برسم المجهول،.. بل أنَّ الواقع بدء يسفر عن احتماليات  مخيفة على ضوء تسيد الإسلاموية الشمولية شرق أوسطياً، احتماليات تتراوح بين الحروب الطائفية، الفوضى، والتقسيم.

هناك اصطفافات وتخندقات طائفية واضحة أنتجتها ثورات الشرق الأوسط قد تقود الى حروب على أساس طائفي داخل الدولة الواحدة أو اقليمياً، وهناك نظام الفوضى آخذ بالترسخ في أكثر من دولة على حساب نظام الدولة، وهناك احتمالية إعادة رسم الجغرافيا السياسية لأكثر من دولة بفعل تضخم الهويات الطائفية على حساب الهويات الوطنية وبفعل عوامل الشحن والتصادم الديني والمذهبي والقومي في أكثر من دولة.

 

ما تحتاجه الدول الوليدة

من حق أي مواطن أو أية قوة سياسية المشاركة بالسلطة، لكن ليس من حقها ابتلاع أو احتكار الدولة،.. الدولة كيان أمة ومظهر إرادتها وجوهر هويتها الجامعة،.. يجب تحرير الدولة من سلطة الإبتلاع الذي تمارسه الأحزاب الشمولية اسلاموية كانت أم قومية أم يسارية،.. إنَّ أهم وأخطر مشكلة أبتليت بها الدولة في الشرق الأوسط هي مشكلة الإبتلاع المتأتي من الشموليات السياسية،.. تحتاج الدول الشرق أوسطية الوليدة الى عقد مدني تأسيسي يقوم بوضوح تام على أساس من المواطنة والديمقراطية والتعددية، تترجمه منظومة تشريعات متكاملة تضمن مدنية الدولة وانسيابية ولادة السلطات ديمقراطياً، وتحرر الدولة من الإبتلاع والشمولية والإحتكار. إنَّ الدولة المدنية هي صمام الأمان لتماسك المجتمعات ووحدة الدولة وسيادة السلم الإقليمي. الخطير في تحولات الشرق الأوسط تسيد الشموليات الدينية الطائفية سياسياً،.. عندها لا مفر من الفوضى والصدامات الطائفية والتقسيم الكانتوني.

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2225 الثلاثاء 25/ 09 / 2012)

في المثقف اليوم