قضايا وآراء

مناضلون في الظل .. د. فائق السامرائي مثالا

 ليغمرها بالندى .. وأعرف كيف تتجمّعُ العصافير الصغيرة المذعورة على كتفيه لأنّه الأمان .. وأعرف كيف تتضاحك السواقي لأنّ من قدميه ينبعُ ماء زلال ..وبين يديه تُحلُّ نزاعات وخصومات الورد والأعناب وشجيرات الليمون .. إنه صديق الفراشات الملوّنة وصديق الباعة الفقراء والصديق الصدوق لبتهوفن وباخ وموزارت وواكنر وجايكوفسكي وكل عظماء الكلاسيك الذين تخرّجوا من كنائس فيينا ودار أوبرا برلين وقصور بطرسبيرغ ..وهو صديق ل (قصّة الحضارة) وول ديورنت و(المفصّل لتأريخ العرب قبل الأسلام) وجواد علي والمجموعة الكاملة ل (ديوان الجواهري) .

د. فائق السامرائي، أنيق في ملبسه، فحين يدخل الى محراب حديقته يرتدي زيّها الخاص، وحين يجلسُ في زاوية مكتبته يرتدي لبوسها، وحين يأتي الخميس المخصّص لسماع الموسيقى يلبس أحلى ما عنده .

د. فائق السامرائي أسّس معهد طب الأشعاع الذري ومن ثم مديراً لمستشفاه  وعلى يديه شُفي المئات من لعنة الرحيل .

في بيت نشأته الأولى على ضفاف شط العمارة، تعلّم مظفّر النوّاب أبجديات (الحسجة)، ولمس عن قرب كيف ان ناسها ينتزعون من قلوبهم المتعبة آهات شاردة حيرى حينما تصدح حناجرهم ب (المحمداوي والطور الصبي)، وتعرّف على الأبناء الحقيقين للسلالة السومرية، وقرأ على تغضّنات وجوههم وأكفّهم بعضاً ممّا تركته ملحمة كلكامش .. وفي نفس البيت أيضاً شاهد يوسف العاني وسامي عبد الحميد كيف تكون واقعاً أمامهما تراجيديا القلوب المكلومة وكيف يصاغُ سيناريو البكاء الأزلي، ورأوا الوجع الأنساني يمشي على قدمين ..

تم ذلك في أواسط الخمسينات من القرن الماضي عندما كان الجو السياسي يشهد أستقطاباً حادا بين من يمثّل المعارضة وقوى اليساروبين أركان النظام الملكي واتباعهم وعندما كان الصراع الطبقي على أشدّه بين الغالبية المسحوقة وبين الأقطاع المتجبّر .

من رحم تلك النشأة ومن قاع مدينة العمارة الذي كان مشحوناً بالتذمر والأحتجاج والتظاهر، أستلّ د. فائق السامرائي مادته الثورية الأولى  وتبنّى وهو لا زال طالب في الثانوية فكر اليسار، وقد خرج عن طاعة إنحداره البرجوازي ليصطف مع الفلاحين والفقراء وهو يتأبّط (آلة كمان) إشتراها خفية عن أعين الرقباء الذين يكفّرون الأوتار والأغاني ويحتجّون حتى على شدو البلابل صنيعة الله !!

وحين أحتلّ مقعده في مدرجات الكلية الطبية، تبلور الوعي لديه، وبدأت رحلة إلقاء القبض والتوقيفات والتحقيقات ثم الفصل لأربع سنوات سيق خلالها الى معسكر السعدية ذائع الصيت الذي ضمّ أغلب مفكّري ومبدعي العراق ممّن فصلوا من وظائفهم  وتوثّقت صداقاته مع إبراهيم كبة وعبد الوهاب البياتي وعبد الملك نوري والنوّاب وعبد الرزاق عبد الواحد ويوسف العاني ورشدي العامل والعشرات غيرهم . أتهم وهو في المعسكر بكونه المسؤول عن الأضراب داخله فأحيل الى المحكمة العسكرية وقضى سنة ونصف سجيناً هناك .

بعد ثورة تموز 1958 عاد الى الكلية الطبية وتخرج منها أوائل الستينات، وبعد إنقلاب شباط 63 الدموي، ألقي القبض عليه في مستشفى البصرة الحكومي حيث يعمل، وقضى في سجن نقرة السلمان ثلاثة سنوات، إستطاع بعد إطلاق سراحه وبجهد فردي الحصول على جواز سفر هو وزوجته ليغادرا الى بريطانيا لتكملة اختصاصهما هناك .

عاد بعد إنقلاب 1968، وأسّس معهد طب الأشعاع الذري لأوّل مرّة في العراق و وأصبح من أشهر وأهم الأطباء في هذا التخصّص على صعيد المنطقة .

وطيلة حكم النظام الديكتاتوري نجح في أن يمكث في الظلّ يمارس عمله كطبيب وأستشاري في مجلة علوم التي تصدرها وزارة الثقافة والأعلام و حيث كتب عشرات المقالات والبحوث العلمية التي أضاءت الكثير من الجوانب المعتمة للحقائق الطبيّة ووضعها أمام القاريء لزيادة ثقافته الصحيّة .

وبعد 9 نيسان 2003 كان أوّل من طرق باب بيتي ليبلغني بسقوط الصنم، وكان اوّل من أشترى نسخة من العدد الأوّل من صحيفة (طريق الشعب) بعد ان عزف عن شراء الصحف طيلة اربعين عام .. وقد أقترح على مسؤولي تحريرها ان يتبرّع بتحرير صفحة علوم فيها، الاّ أن هؤلاء لم يكترثوا لمقترحه التنويري هذا مع الأسف الشديد .

كان د . فائق السامرائي داعياً لترسيخ قيم الجمال وطهارة النفس واليد، ولم يكن يهمّه طيلة حياته الألتزام بالجوانب الشرعية للدين كالصلاة والصوم والحج، إذ كان يهمّه الجانب الأخلاقي للدين الذي يساهم بتقويم السلوك المنحرف للفرد، وكان يستخف حدّ التندّر بكل ما يتعلّق بالطائفية وما أستجدّ من شدّ وتطرّف في السنوات الأخيرة .

ولد د. فائق السامرائي في عام 1930 ورحل بهدوء في شتاء 2008، تاركاً نظّارته ومصباحه اليدوي وكتاباً مفتوحاً عن الميثولوجيا قرب مكتبته، وحرقة في قلبي لن تطفىء أبداً .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1206 الجمعة 23/10/2009)

 

في المثقف اليوم