قضايا وآراء

طه الطاهر والمسرح العراقي في زمن الصمت / ابتسام يوسف الطاهر

بالرغم من الحروب والحصار  في السابق، والإرهاب والحصار المستتر  الحالي، وبالرغم من مواصلة الدولة لتجاهلها اهمية الفن بشكل عام والمسرح بشكل خاص وعدم اهتمام  المعنيين بالثقافة والفن بهذا الامر لا ماديا ولا معنويا. نلاحظ ان المبدعين من مخرجين وممثلين وكتاب يحاولون التواصل مع هموم الناس ومواكبة التطور الحاصل على هذا الجانب المهم في الحياة الادبية الفنية، ولو بخطى مترددة ومتباطئة احيانا.

 من أوراق فقيد الكلمة الشاعر طه الطاهر وصلني مقال كتبه عن المسرح العراقي في التسعينات، فقد كان من المهتمين بالمسرح ومتابعة كل جديد بالرغم من ظروفه الصحية الصعبة والكوارث السياسية والاقتصادية التي كان تعصف بالعراق. فالمسرح العراقي كان ومازال أهم الدعامات للدراما العراقية بغياب السينما وضعف الدراما التلفزيونية.

 كتب الشاعر طه الطاهر القصة والمسرحية بجانب القصيدة. نلمس من كتابته القصة او النقد او المسرحية الحرص وحب الناس والاقتراب من وجعهم والدفاع عنهم، بالرغم من الأوجاع التي عرفها وعانى منها، والتي كان يخفيها بين طيات القصيدة التي كانت هي الملاذ الاول للتخفف من تلك الأوجاع.

 لزهده بالنشر ولخوف أصدقاءه عليه من فخ خفافيش الظلام الذين يتربصون بالكلمة، نشر البعض من قصصه وقصائده خارج العراق في صحف عربية، مثل أخبار الأدب والقدس العربي وغيرها. وبعد رحيله المبكر المفاجئ والمفجع، طُبع معظم نتاجه في كتاب (جبة الدرويش)، مازلنا نعثر بين الحين والآخر على قصيدة أو مقالة او مسرحية (نأمل بطبعها في كتاب) كان قد أرسلها لصديق أو تركها مع آخر.

من بين تلك الأوراق مقال يستحق الاهتمام لان فيه مايشير لما يعانيه المسرح والدراما العراقية، بمعنى انه يؤرخ لمرحلة مازلنا نعيش محصلتها لليوم :

 

المسرح العراقي بين الصمت والتحدي

أن ألوذ بالصمت أو أن أثرثر كيفما اتفق! ألوذ بالصمت أو اهمس هنا وهناك خائفا مترددا! أنا الذي قدر لي أن أبقى وأعيش على هذه التربة بوسائل محدودة، والذين قدر لهم أن تكون أداتهم هي القلم فلابد لهم من العمل بشكل من الأشكال، فان تكتب قصيدة او قصة فانك تستطيع أن تخفيها، فهذا الوطن قد منح العراقيين الحق في إخفاء ما يكتبون!. واذا سنحت الفرصة بتهريبها الى الخارج فتلك فرحة للذين يدعون أنهم لا يستطيعون العيش دون أن يتنفسوا هواء العراق. أو ينشروا كتاباتهم بين الحين والآخر في الصحف هنا، أن كان ما  كتبوه لا يخدش حياء السلطة. فالقصة صارت ممكن ان نقول عنها (أخت القصة) وما ينشر من الشعر إنما هو ذيل للشعر!

اذ ان كلمة حق صادقة كفيلة بان تطيح برأس أي كان قائلها!. فهل ألوذ بالصمت أم أتحدث؟ وهناك الكثير مما يمكن الحديث عنه. خاصة بما يتعلق بالمسرح اليوم. المسرح ذلك المسكين الذي قدر له في ساعة نحس أن يهوى عن صرحه لسوء طالع من سرى بدمه حب التمثيل، هذا الذي يستحق منا الرثاء والحسرة.

لقد رحلت الكثير من الأسماء المبدعة ومنهم فنانين المسرح، وتوزعوا على المنافي حول العالم. وبنفس الوقت بقيت هنا في العراق أسماء جميلة مدوية كان لتاريخها المسرحي بريق أيما بريق. اضطروا للظهور بأحيان متباعدة، واحسرتاه، بأعمال زائفة وفاشلة. سألت تلميذا لأحد الفنانين الذي كان ومازال من أهم أعمدة المسرح العراقي، عن سبب اشتراك ذلك الفنان بمسلسل تلفزيوني (رجال الظل) الذي يمجد احد رموز أجهزة النظام القمعية الفاسدة (المخابرات) التي اقتصر عملها على قمع المواطنين، وهو المعروف عنه مواقفه الجريئة والتزامه بالعمل الجاد المميز. فأجابني التلميذ، بان الفنان هو او غيره لا يستطيع الا أن يشترك بهذا العمل، أي انه اجبر على ذلك بشكل من الأشكال. فالفنان ذاك من الأسماء المعروفة اللامعة في سماء التجديد والثقافة والمسرح، وهو الصائم تماما عن الاشتراك في أي عمل تجاري. فهل نشهر سيوفنا لرفض تلك الحالة، للدفاع عن الفن الصادق الذي يرتفع بالانسان؟ أم نسكت عن هذا الأمر! ونركن أقلامنا بعيدا؟.

وهناك من الفنانين الذين لهم تاريخ مشرق بالمسرح اجبروا على الاشتراك بأعمال فاشلة، بل تندهش لضعف أدائهم. فهل نشتمهم، أليس من حقهم العيش؟ والفنان تضطره الظروف لتقديم ما يعيله ويبعد عن كاهله شبح الجوع والعوز. فهل نلصق بهم تهمة الإعتياش، تلك الكلمة الصارخة، كفيلة بأن تعيب وتحط من قدر الفنان!؟

أسماء جميلة كان لها الشرف لتبدع في مسرحية خالدة مثل النخلة والجيران، نراها اليوم في أعمال بعيدة كل البعد عن الإبداع، عن المسرح الذي عشقناه بفضلهم. فاحد التلاميذ لذلك المسرح كان ميسور الحال، شاء قدره أو حبه للمسرح وثقته بأساتذته، ان يغامر بحلاله وماله ويضعها بيد مخرج مرموق ومعروف بتاريخه المسرحي العريق، وقد رأى فيه الطالب أمينا للمبادئ الخيرة والقيم التي شيد عليها مسرحنا. لكن قدرنا او قدر المسرح جعل ذلك الفنان ان يختار عملا ينافس مسرحيات تكاثرت في الآونة الأخيرة الحافلة بالتهريج والنكات الهابطة التي اطلقها الشارع قبل المسرح، والرقص الدخيل، حيث أتى المخرج براقصين وراقصات ليقدموا حفلتين لمسرحية واحدة ختان وزفاف، واختار للبطولة ممثلة متصابية متبهرجة  لها جمهورها من رواد الملاهي! ربما هذا الذي شجع المخرج لاختيارها ليضمن من يدفع اكثر لمشاهدة تلك المسرحية. ولكن بالرغم من الإعلان بان المسرحية هي استعراض لفعاليات بغداد القديمة وأفراحها. فشلت المسرحية فشلا ذريعا، ففي احد أيام العرض لم يتجاوز عدد الحضور الخمسة عشر، بالرغم من تقديمها على قاعة دافئة وقريبة من قلوب العراقيين الذين لهم ذكريات كثيرة عنها الا وهي قاعة الشعب. لا نعترض على الرقص فهو بأشكاله فن إيمائي معبر، لا بأس منه اذا كان بوقته وغير مفتعل. فقد عرضت مسرحيات تجارية كثيرة فيها مشاهد رقص، لاقت إقبالا جماهيريا واسعا لما فيها من نقد ونكات على ظواهر حديثة وعن معاناة الناس، وقد وجدوا فيها مداواة بسيطة لجراح خطيرة أصيب بها مجتمعنا!. لكن مخرج تلك المسرحية أضاع المشيتين، فقد خشي من إطلاق أي صيحة او أي نكتة حتى لو كانت بسيطة. بعض النقاد أدان الجمهور كما لو كان هو السبب في فشل تلك المسرحية، من انه "بات لا يبحث عن الجديد ولم يعد هناك جمهور مثقف بل أناس يسعون للنكتة البسيطة والوجوه الجميلة"!.

الا أن الواقع فند رؤيتهم بل ما حصل وجّه صفعة لأصحاب هذا الرأي. فقد عرضت بنفس الوقت مسرحية أخرى قدمها منتدى المسرح وكتبها فنان جريء اسمها (كراج النهضة) تحدثت عن جرح من جراح هذا الوطن، عن محنة امرأة تبيع السجائر في كراج النهضة ببغداد وما تتعرض له من ظلم ومعاناة أفرزتها الأمراض الخطيرة التي حلت بالمجتمع العراقي وينتهي بها المطاف الى مستشفى المجانين. عرض الموضوع بجرأة مخيفة عالية ونجحت المسرحية على قصرها (نصف ساعة) وتواضع إماكانياتها قياسا للملايين التي ضيعت على المسرحية السابقة الذكر. فقد نجحت كراج النهضة وصارت حديث الناس وصار الجمهور الواقف أكثر من الجالسين ولم يحدث أن تسمع رجالا يبكون وهم يشاهدون المسرحية. ولمع اسم بطلتها الفنانة (عواطف السلمان) التي ظل اسمها يتردد بإعجاب بين محبي المسرح وغيرهم، واخذ الجمهور يزداد يوم بعد آخر.

هل ما يحصل نعتبره مشكلة، ام ظاهرة لابد من تسميتها، أم هي قفل لابد له من مفتاح. وهل الحل في السكوت؟ أم في الهروب من الوطن؟.

بغداد

التسعينات من القرن الماضي

 

 

اعداد ابتسام يوسف الطاهر

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2250 السبت 20 / 10 / 2012)


في المثقف اليوم