قضايا وآراء

طغيان الإستبداد وطغيان الغوغاء / حسين درويش العادلي

جاء ذلك في معرض حديثها التأبيني لدى استقبالها هي والرئيس أوباما جثامين السفير الأميركي في ليبيا وثلاثة من الدبلوماسيين الأميركان الذين قتلوا في بنغازي إثر موجات الإحتجاج على الفلم المسيء للإسلام في أيلول/سبتمبر 2012م.

 

بوصلة الإتهام

اتجهت بوصلة الإتهام الى الإسلاميين السلفيين الجهاديين في ليبيا في واقعة مقتل السفير الأميركي،.. لذا يمكن إعادة تركيب عبارة وزيرة الخارجية الأميركية كالتالي: (العالم العربي لم يستبدل طغيان الأنظمة المستبدة بطغيان الحركات السلفية الغوغائية)،.. على هذا تكون الحركات السلفية المتطرفة هي المعبّر عنها بالغوغاء، سواء تمثلت مظاهر الغوغاء بمقتل السفير الأميركي في ليبيا أم بحرق السفارة الأميركية في تونس أم بالهجوم على السفارة الأميركية في مصر أو في اليمن.

 

ستاتيكو

مؤخراً، أكدت وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون: أنّ دعم الولايات المتحدة لعملية التحول الديموقراطي في الدول العربية أصبح يمثل "ضرورة ستراتيجية" بالنسبة لواشنطن. وقالت كلينتون في مؤتمر صحافي في واشنطن بشأن الديموقراطية في العالم العربي "بالنسبة للولايات المتحدة فانَّ دعم عمليات التحول الديموقراطي ليس من المثاليات، انه ضرورة ستراتيجية"، ووعدت الوزيرة الاميركية بان بلادها لن تقوم مجددا بمثل هذا "الخيار السيء بين الحرية والإستقرار"، واضافت "لن نسحب ابداً دعمنا للديموقراطيات الناشئة في الوقت الذي تتعقد فيه الأمور"، في اشارة الى التظاهرات المناهضة للولايات المتحدة والتي شهدها العالمان العربي والاسلامي في ايلول/سبتمبر وتخللتها أعمال عنف ضد مصالح أميركية كان أفدحها في ليبيا حيث قتل أربعة اميركيين بينهم السفير.

أيضاً، في معرض حديث سابق أدلت به كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية السابقة لصحيفة واشنطن بوست، قالت: "التحول الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط قد أصبح ضرورة لابد من السير بها حتى ولو أدى ذلك الى التخلي عن أنظمة عرفت بموالاتها أو بتحالفاتها مع الولايات المتحدة"، وأكدت: "أنه لم يعد من الممكن الحفاظ على سياسة الأمر الواقع التي اعتمدتها الولايات المتحدة في المنطقة لنصف قرن تحت شعار الحفاظ على الإستقرار أو الستاتيكو (وهي السكونية السياسية) ".

 

تساؤلات

هل حقاً لا تعي السياسة الأميركية حجم التحولات في الشرق الأوسط وما يمكن أن تحمله من تناقضات وفوضى وغوغاء على أنقاض السكونية السياسية التي حرستها لمدة نصف قرن من خلال الأنظمة الإستبدادية في المنطقة؟ وهل أنَّ هذا الكم والنوع من الإنفلات يمثل تعبيراً مفاجئاً يشتغل خارج التوقع الأميركي أم هو نتيجة ملحوظة ومحسوبة في ذهن المخطط الستراتيجي الأميركي؟ ولماذا لا يسمح للغوغاء والقوى الحاضنة له (الإسلاموية تحديداً) من العمل داخل منظومات البؤر آمنة في المنطقة (الخليج مثلاً حيث أعلنت الإمارات حرباً على الإسلام السياسي) بينما يسمح له باعتلاء سدة الحكم في أكثر من دولة من دول التغيير العربي (تونس ومصر مثالاً)؟ وهل حقاً لم يستبدل العالم العربي طغيان الإستبداد بطغيان الغوغاء والفوضى والتحكم السلفي القسري؟ فإن لم يكن كذلك فلماذا لا تدعم الولايات المتحدة الأميركية والأسرة الدولية خطط التحوّل السلمي المدني للسلطات في أكثر من دولة شرق أوسطية لضمان ضبط إيقاع التحولات ولتلافي طغيان الغوغاء؟ أم أنَّ السكونية السياسية المنتجة بفعل الإستبداد سيتم الإستعاضة عنها بحركات الفوضى والغوغاء لإعادة إنتاج دول ومعادلات المنطقة؟

 

استبدال

الإتجاه العام للسياسة الأميركية الغربية غير مطمئن الى هذه اللحظة، فبالأمس تعاملت مراكز القرار الدولي مع أنظمة سياسية استبدادية لضمان مصالحها، وهي اليوم تستبدل الحكومات بالحركات السياسية لضمان تحقيق مصالحها سواء وصلت هذه الحركات الى السلطة أم هي في طريقها إليها أم بقيت ضمن إطار لعبة المواجهة أو الإحتواء.

الحقيقة على الأرض تقول: أنَّ القوى الإسلاموية اليوم تتصدر جميع القوى المدنية في معظم المجتمعات الشرقية، لذا فهي المعنية (أميركياً) بالتعامل والتفاعل معها أكثر من سواها سلباً أو إيجابا، فهي الصانعة للتاريخ اليوم سواء من خلال مبادرتها الذاتية أم من خلال توجيهها وتوظيفها أميركياً علمت بذلك أم لم تعلم.

ستراتيجياً لا يمكن لأميركا/الغرب التحالف مع القوى الراديكالية الإسلاموية، لكنها ستتعامل معها كمنشط لتحفيز إعادة إنتاج المنطقة سواء تماهت بالسلطة كما في مصر وتونس، أم بقيت معارضة وشاذة كما في ليبيا واليمن، أم مضبوطة ولكن متحفزة كما في المغرب، أم محاربة كما في الخليج. إنَّ جوهر التعامل مع الحركات الأصولية (سلباً أو إيجاباً) يتمثل بالتلاعب بمستويات الفوضى الضامن لعدم استقرار بنية الدولة الشرق أوسطية لهدف إعادة إنتاج المنطقة بأسرها.

 

بنية المنطقة

مع صعود الإسلام السياسي لسدة الحكم في أكثر من دولة، يبدو أنَّ بنية المنطقة ستتجه نحو شيوع الفوضى المدروسة والغوغاء المحقق لمصالح القوى الكبرى، إنها بنية سترتكز إلى جوهر التضاد والتصادم والإستقطاب على أكثر من مستوى داخلي وإقليمي.

المستوى الأول: التضاد والتصادم والإستقطاب الطائفي الشيعي السني على مستوى بنية الدولة وعلى مستوى بنية المنطقة ككل،.. فخارطة التضاد والإستقطاب تتضح يوماً بعد يوم في بنية الدول التي شهدت التغيير ابتداءً بالعراق وانتهاءً بسوريا،.. أيضاً فمستوى التضاد والإستقطاب الإقليمي آخذ بالتبلور والمواجهة بين إيران ومجالها الشيعي وبين السعودية أو تركيا ومجالهما السني.

المستوى الثاني: التضاد والتصادم والإستقطاب الإسلاموي المدني في بنية أكثر من دولة وعلى صعيد المنطقة أيضاً، وما حركية الصراع الدائر حالياً في تونس ومصر إلاّ دليلاً واضحاً على التضاد في رؤى ومشاريع إعادة بناء الدولة وأنظمتها وهويتها.

 

البنية المضطربة

البنية القادمة للدولة البديلة شرق أوسطياً والقائمة على أنقاض الإستبداد ستكون بنية مضطربة قلقة تعاني التصدع الداخلي والتضاد الإقليمي،.. هي بنية تتسيد فيها قوى الهويات الطائفية على حساب القوى الوطنية المدنية وقوى التطرف على حساب قوى الإعتدال،.. وهي بنية تتشاطر تركيبتها وسياساتها أكثر من آيديولوجيا ومشروع وسياسة وقوة ميدانية،.. وهي بعد أفضل بنية يمكن من خلالها إعادة إنتاج المنطقة على وفق مصالح القوى الكبرى.

أتصور أنَّ طغيان الإستبداد يلتقي مع طغيان الغوغاء، فكلاهما يشتغلان بالضد من تكامل بنية الدولة الوطنية المدنية، وكلاهما يمارسان الطغيان ضد جمهور الدولة ووحدتها وهويتها وسيادتها، وكلاهما أدوات استبداد واستعباد واستبعاد وانقياد.. تعمل بالضد من فكرة الدولة.

  

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2256 الجمعة 26 / 10 / 2012)

في المثقف اليوم