قضايا وآراء

القمة والقاع وسقط المتاع

فان القاع هي اسفل مكان ممكن ان ينحدر اليه انسان، وهو كذلك تعبير مجازي عن خسة الافعال وخبث المقصد وسوء المكانة، وبين القمة والقاع يتجاذب البشر مرة نحو هذه واخرى نحو تلك وان اختار السواد الاعظم منهم الوقوف في منتصف المسافة خشية القمة وتجنب القاع، لان الصراع بين القمة والقاع صراع خير وشر وقيم ومبادئء وسلوكيات ونظريات وكل هذه التفاصيل تسبب الالم والصداع في هذا الزمن البائس المليئ بالكراهية والازدواجية وسوء النوايا وتناقض الثنائيات التي لاتنتهي والتي تاتيك من كل فج عميق.

 

وما من شك ان طريق القمة لايدركه الا الانبياء والاتقياء والعباقرة والمصلحون والمتجردون عن الصغائر والسفاسف . وهو دون شك طريق شاق وطويل لاينال صاحبه الا الاذى والشقاء والتعب على المستوى المادي والجسدي وصولا الى انجاز ما يحمله من رسالة الى البشرية، وهي بالمقايسس المادية المعاصرة ان هي الا مثالية ومحض خرافة، لان بلوغ القمة يعني ان تعطي بلا حدود ولا تاخذ شيئا، لاجل ان تضيف للبشرية قيمة جديدة من قيم الخير، ولايمانك بان ماتمنحه للاخرين باق مهما كان صغيرا وان ماتاخذه زائل مهما كان كبيرا .

 

وبلوغ القمم لايحتاج الى ادعاء او تزييف او اعلان لانك عندما تكون في القمة فانت في اعلى نقطة مرتفعة بين البشر ولهذا فان الكل يراك في وقت واحد . ولكنك عندما تصنع لك قمة زائفة او تدعيها فانه لن يراك احد .

 

وبلوغ القمم يعني ان تمتلك مواصفات نادرة لاتليق الا بذوي الهمم العالية والنفوس الصافية  وهذه المواصفات خارقة للسلوك الانساني المرتبك اليوم او البسيط الساذج، لان ما يتطلبه الامرهو ان تكون قدراتك الفكرية والمعرفية وسلوكك القويم وافاقك الواسعة ممتدة بين الماضي والحاضر والمستقبل . ولما كان انسان العصر عاجزا عن الالمام بهذه المواصفات او ببعض منها فقد عزف الكثيرون عن بلوغ القمم او حتى التفكير فيها  . وقد لايكون البعض عاجزين عن المحاولة في بلوغها الا ان مشكلتهم الكبيرة هي انهم اعتادوا ان ياخذوا فقط، بينما جوهر الوصول الى القمم هي ان تعطي فقط دون ان تاخذ شيئا . فاصبحوا ابعد ما يكونون عن القمة .

 

يتحول من في القمة الى علم ومنارة وتزداد قيمته وتعلو قمته على مدى الايام وان ترك الدنيا لان المعاني والمثل التي تركها تحولت الى ضياء ينير للناس سبلهم ويعبد مسالكهم ويشيع معاني الخير والمحبة بين البشر، وبناء المجتمعات لايمكن ان يقوم الا على القيم نبيلة التي تجعل من  الحق العدل والمساواة اهم اركانها . فيصبح الجميع مدينون له على مدى الايام .

 

والقمة لاتفرق بين دين واخر او بين طائفة او مذهب او عرق او جماعة او ابيض او اسود لان قيمة خلق الانسان وما اودعه الله من فكر وبصيره تتجاوز كل هذه المظاهر لتذهب مباشرة الى قيمة الجوهر – ولان الجوهر في الناس لافي الحجر . وهكذا سكن القمة نوابغ من اجناس شتى ومن اماكن مختلفة وفي ازمنة عديدة، ورغم تعدد القمم واختلاف المكان وتباعد الزمان الا ان العديد من القمم لم تخلو من قمم .

 

اما سقط المتاع – بتسكين القاف وضم الطاء - في لغتنا العربية الساحرة هي افلاس الانسان من كل قيم الخير والجمال والحق، ويقال فقد متاعه اي انه لايملك من متاع العيش شيء كما هو شان متاع الحياة الدنيا في الاخرة،  وفقدان هذه القيم لاتعني زوالها فقط وانما استبدالها بقيم الشر والقبح والباطل، ولان فقدان قيم الخير تجعلك سيئا في مجتمعك فان اكتساب قيم الشر تحولك الى شرير ضار لكل ما يحيط بك فزوالك خير من بقائك .

 

ويسقط متاع الانسان عندما يدير ظهره لكل ضابط من ضوابط القيم الدينية والاجتماعية والسلوكية او عندما يتظاهر بشيء وتكون الحقيقة داخله شيء اخر ويجعل من ذاته وغرائزه محور الحياة والكون وبالتالي فهو لايرى مما حوله الا ما يزيد من اشباع غرائزه. فيقطع كل ما يملك من خصال تمت بالعلاقة الى القيم الانسانية الحميدة .

 

وسقط المتاع هو اسهل واسرع طريق الى القاع فلا حواجز ولاصعوبات، وما من شك ان من يسقط متاعه لايفكر ولو لوهلة بذلك المتاع او بمن حوله، لانه يعتبر ان ما وصل اليه هو ارفع مكان واكبرعنوان، فقد تكون ملكا وتظن انك في القمة لكنك في نظر الاخرين تسكن القاع وقد تكون بسيطا وتظن انك معدما لاتملك من حطام الدنيا شيئا ولكنك ترتقي القمم . وتاريخ الحضارات مضيء بكثير من القمم كما هو ملطخ بالعديد ممن سقط متاعه .

 

والقاع يعني اسفل مكان وليس اسفل منه الا ما تحت التراب وكل ماموجود هو فوقه بما في ذلك كل الاقدام .وهو مستقر لكل ما يهمله الانسان او ينفر منه او يريد التخلص منه .

وفي زمن كزماننا تختلط القيم وتختلف المعايير وتتنوع ادوات القياس فيقيس كل انسان على هواه فيصبح من في القمة مكانه القاع ومن في القاع مكانه القمة ومن افلس من المتاع هو خير متاع

فكيف بك اذا كانت قمتك هي القاع وقاعك هي القمة؟.

 

ولكثرة الهرج والمرج سوف لاتستطيع ان تحكم بدقة على موقع الاخرين  ان كانوا في القمة او القاع او مابينهما ولكنك يقينا تدري اين انت الان ... ؟ اقريب من القمة او القاع او ان كان لديك متاع .

 

أ.د إياد الحسيني  

استاذ فلسفة التصميم

www.ayadabc.co.cc

[email protected]

 

صحيفة المثقفwww.almothaqaf.com     العدد: 1054  الخميس 21/05/2009    (ارشيف الاعداد)

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي الصحيفة بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.

في المثقف اليوم